مملكة التوحش

حجم الخط
9

لولا الحياء لقلنا انها مؤامرة. لكنها مؤامرة، ولن يوقفنا الحياء، والموضة الدارجة برفض التحليل التآمري، عن تسميتها باسمها.
والمؤامرة ليست امريكية فقط، كما يظن السُذّج، ولا اسرائيلية، كما نشتهي أن نقول، إنها مؤامرة صنعها العرب ضد أنفسهم. انها من صنع ايدينا أولاً، وعلينا أن نبدأ بالإعتراف بهذه الحقيقة، كي يحق لنا بعدها التحدث عن مسؤوليات الآخرين.
ممالك الصمت العربية التي شملت الجمهوريات الوراثية كلها، من سوريا الى مصر الى العراق الى ليبيا الى تونس الى اليمن الى آخره… صنعتها احزاب وجيوش ونخب قومية، صعدت على أشلاء الحرية في مرحلة الحرب الباردة، واستنقعت في مناخات الهزيمة امام اسرائيل، وحوّلت الفساد والطائفية من أمراض الى اوبئة. وبدلاً من العدالة الاجتماعية التي بشّرت بها، قامت بتدمير الطبقات الوسطى، وإفقار الفقراء، وحطمت القيم الأخلاقية، واستباحت المجتمع.
اما ممالك صمت الأنظمة الملكية فحولت الريع النفطي الى دعارة شملت كل مناحي الحياة، من دعارة الأجساد الى دعارة السياسة والصحافة والإعلام والثقافة والرياضة. صار الغاز بديلاً عن الأوكسيجين، فتسممت العقول، وانحنى الجميع أمام خطاب قاطعي الأيدي والرؤوس.
وحين التقى الصمتان في زمن المحور السعودي- المصري- السوري، انتشر الفكر الظلامي كالنار في الكاز، وصار الإلتحاق ب»المجاهدين» الأفغان، واللباس «الشرعي» والشوارب المحفوّة، سمة عامة امتدت من الجزائر الى مصر، قبل أن تنفجر فينا، وينفجر النظام العربي بعد نهاية الحرب الباردة.
حزب البعث العراقي غيّر علم بلاده وأضاف اليه الشعار الإسلامي، والبعث السوري جعل من سوريا مركز تجميع مقاتلي القاعدة الذاهبين الى العراق، أما السعوديون والقطريون فأختبأوا خلف شعار الدفاع عن أهل السنة، ولكن بدل البديل الذي حاولت أن تكونه ممالك الصمت والقمع والنفط جاء الأصيل، الذي يحمل الفكر الوهابي التكفيري الواضح، ويأتي الناس بالذبح والصلب وقطع الرؤوس.
لا أريد تبسيط المسألة، فالانقلاب الشامل حصل عندما فشلت قوى التغيير الديمقراطي في قيادة التحوّل الذي صنعته الثورات العربية. والفشل له اسباب متعددة، ولا يمكن اختزاله فقط في وحشية آلة القمع التي مارستها الأنظمة. فإلى جانب هذه الوحشية التي لا سابق لها، والتي اختزلها النظام السوري في قمعه الفاشي للإنتفاضة الشعبية المطالبة برحيله، برز القصور السياسي والثقافي الذي جعل من النخب التي تصدت لقيادة التحرك الشعبي عاجزة عن مواكبته، فاستسلمت لوهمين:
وهم الدعم العربي الذي وفرته ممالك الصمت، عبر إعلامها و»مساعداتها» المالية والعسكرية بهدف تسليط الاسلاميين على الثورة المسلحة، ما قاد الى اندثار الجيش الحر، وتلاشي المعارضة السورية.
ووهم الخطاب النيوليبرالي المعولم، الذي أوحى بأن الدعم الاوروبي والأمريكي سوف يجعل من ربيع الثورات العربية امتدادا لربيع أوروبا الشرقية، واستكمالاً للتدخل العسكري الأطلسي الذي بدأ في ليبيا!
وهمان اوقعا المشرق العربي في فخ الصراع السني- الشيعي او الايراني- السعودي، و/او قادا الى تحويل المؤسسة العسكرية خشبة الخلاص الوحيدة من أشباح الحرب الأهلية ودولة الخلافة، مثلما حصل في مصر، بحيث استعاد الجيش قبضته على البلاد محمولا على اليأس من التغيير.
كل الأوهام كانت تهيء الأرض لاستقبال مخلوق عجيب اسمه الدولة الاسلامية التي أعلنت انها طوت صفحة التغيير واستبدلتها بكابوس الوحشية.
«داعش» هي ابنة الحرب الباردة في مرحلتها الأخيرة، لكنها أيضاً بداية الحرب الشاملة على المشرق العربي. شيء يشبه الكابوس، مسلحون يخرجون من عتمة الحاضر بصرخة هي مزيج من الهوس الإجرامي والتطهر بالدم من جهة، وحلم استعادة خلافة اسلامية قرشية انهى العثمانيون قرشيتها منذ خمسة قرون، قبل ان تندثر كل اشكالها في نهاية الحرب العالمية الأولى، من جهة ثانية.
انها انتقام الصحراء المؤجّل، وصرخة الثأر من إنهيار القيم السياسية والأخلاقية والإجتماعية الذي حوّل بلادنا الى رهينة في أيدي الضباط والمافيات، ونساءنا الى سبايا جنون الديكتاتور وحاشيته. إسألوا نساء العراق وسوريا وليبيا كيف كانوا يُخطفون ويُغتصبون على ايدي العصابات الحاكمة، وذلك قبل عقود من ارتفاع صيحة البغدادي وجيشه بالذبح والإبادة وسبي النساء.
جيش البغدادي هو فصل جديد من هذا الإنهيار، وهو يستكمل ما عجزت الديكتاتوريات عن صنعه، محولا بلادنا الى ساحة للطائرات والموت.
هزيمة «داعش» عسكرياً مستحيلة، ومهما قيل عن ذكاء الطائرات المغيرة، وعن الحلم التركي باستعادة الهيمنة على المنطقة، فإن المسألة لا يمكن حسمها عسكرياً. قد تضعف «داعش»، وقد تنسحب من بعض المدن، لكن هذا لا يغيّر من حقيقة أن «داعش» نجحت في أن تعبّر عن اليأس الشامل الذي يلفّ هذه البلاد.
يأس بدأت ملامحه في التشكّل بعد الهزيمة الحزيرانية وموت عبدالناصر وتحول أشباه الزعيم المصري الى مجموعة من القتلة واللصوص. يأس تجلّى حين استطاع النظام العربي أن يتناسى الجرح الفلسطيني، فقادته الأصولية التي اعتقدت انها بديل الناصرية الى التحول الى مرتزقة عند الامريكيين في أفغانستان.
الطائرات لا تنتصر على اليأس بل تعمّقه وتجدده، والحرب على «داعش» لن تقود الى مكان، بل ستزيد من تفتت المنطقة، وتدمير اقلياتها، وتحوّل ملايين اللاجئين العرب والكرد والأزيديين الى علامة هذا الزمن الأسود.
كيف نقاوم مملكة التوحش التي تحاصرنا؟
تبدأ المقاومة حين نعي بأننا نواجه فصلا جديدا من الاستبداد، لا يختلف عن الفصل الذي سبقه سوى بالشعار الديني الذي يتغطى به.
وفي هذه المواجهة الرهيبة والدموية، لا خيار لنا سوى التمسك بقيم الحرية والعدالة، واعطاء هذه القيم دلالات ملموسة، والتوقف عن انتظار فرج لن يأتي، فلا نظام الاستبداد العربي سينقذنا ولا امريكا معنية بآلامنا.
انها معركة القيم الانسانية في مواجهة التوحش، وهي معركة طويلة، وعلينا أن نخوضها كأفراد وجماعات، بوعي من يصنع من يأسه نافذة للأمل.

الياس خوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    التوحش يا أستاذ الياس بدأ به العلمانيين العسكريين
    فحزب البعث علماني وعسكر مصر منذ عبدالناصر علماني
    والقذافي علماني وعسكر الجزائر أيضا علماني وغيرهم

    معني كلامي أن التوحش الاسلامي كان ردة فعل للتوحش العلماني

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول أبو حليب :):

    كم هي عدد السنين التي يذبح فيها المسلمون و بالملايين من الوريد إلى الوريد و كلنا ننظر و ننتطر ؟؟؟!!!

    و متى ستكفيهم أعدادنا من الذين يذبحونهم و يكفون و يستحون و يقولون الحق ؟!

    على الأقل يعني ؟!

    كم هي عدد التلريونات المنهوبة منا و بالدولار الأمريكي لو سمحت ؟؟!! هههه

    متى سيشبعون ؟!؟!

    ما يجري في الساحة هو نتاج لهذا الظلم الرهيب الذي تعرضنا و نتعرض له .

    الذي يريد أن يقيم دولة بطريقة يا حبيبي يا عيني ,,, يقيمها في أحلامه فقط ,,,

    و إسأل التاريخ ؟؟؟ و شوف مقدمة إبن خلدون ,,, على الأقل ؟؟!!

    صح النوم ,,, يا قوم ,,,صح النوم ؟؟!!

  3. يقول منی:الجزائر.:

    لأجل ماذكرت استاذنا الكبير، انا شبه يائسة من افق قريب.

  4. يقول علي نويلاتي:

    سؤال يفضح تحالف الأنظمة الإستبدادية العربية من التي تدعي التقدمية مثل النظام الأسدي إلى التي توصم بالتخلف السعودي وهي هل تؤيد هذه الأنظمة الحقوق الديموقراطية لشعوبها؟

  5. يقول عاطف - فلسطين 1948:

    مقال كالعادة رائع. حبذا لو استفاد من هذا الدرس دعاة الدكتاتوريه الجدد من الهلال الشيعش وهم مغيبون في مقالك. انفلات النزعه الشيعيه من عقالها وايمانها العميق بانها ستعيد مشهد كربلاء وتغير نتائج المعركة التاريخيه لصالحها ادى الى توحيش الشيعه وجعلهم وقودا لنار مستعرة ما زالت ايران توقدها لتأكل الاحضر واليابس. ندعو اخواننا الشيعه العرب الى تعلم الدرس الذي يذكره هنا الكاتب المحبوب الياس الخوري وان لا يحرقوا لسنين طويله كما حدث لاهل السنه على يد الدكتاتوريين العرب سواء كانوا علمانيين او اسلاميين.

  6. يقول خليل ابورزق:

    مصيبتنا في النخبة يا صديقي. نخبنا متخلفة و النخبة المصرية التي اعادت العسكر افضل مثال

  7. يقول م . حسن . هولندا:

    في الديمقراطيات الشعب يحكم نفسة من خلال من ينتخبهم لإدارة شئون البلاد لفترة قصيرة , في دول العالم الثالث الديكتاتورية لا يحكم الشعب فيها نفسة ولا يختار من يحكمة , تحكمة الفئة التي تحمل السلاح , تستولي علي الحكم بالقوة ثم تسحق المعارضة ثم تزور إنتخابات . وتدور العجلة , إستبداد يولد فساد وجهل وضعف وإستعمار ثم مقاومة وحروب وإرهاب وإستعباد .و….. ..

  8. يقول حسن المغرب:

    لقد وصف الاستاد المحترم حال الامة بالاسود القاتم ولكن لايولد الطفل من بطن امه كبيرا راشدا بل لابد ان يكبر على مراحل وكذلك هى الثورات وربما الذي كان يوما شريرا متوحشا قد يصحح يومااخطااءه اوبالاحرى يخفض من عدوانيته ليبقى ويستمروينال الاعجاب والتكريم من الشعوب المضطهدة والتى تكالبت عليها الامم والطوائف المتغولة وتحتاج اليه كمخلص

  9. يقول Ossama Kullijah سوريا:

    شكرا اخي الياس على هذة المقالة التي اوافقك الراْي فيها تماما واشعر انها مراجعة وتجميعا موفقا لافكاري المتشتته وسندا قويا لها فعلا اللهم الا في الفقرة عن عبد الناصر فهي ربما تحتاح الى توضيح اكثر وانا تربيت في عائلة “ناصرية” الا ان لي راْي في عبد الناصر اكثر نقدا او موضوعية من ماقد يوافق المرحلة النضالية السابقة اي فترة عبد الناصر لاشك ان ماوصلت الية في فشل النخبة المثقفة او السياسية في تجميع قوى الثورة وخاصة في سوريا بغض النظر ان بعضهم كان ضدها بشكل غير مفهوم مثل دريد لحام مثلا (او عادل امام) ولا اعتقد انني سافهم ذلك يوما ما في حياتي لقد شكل ذلك المعضلة الكبرى للثورة وةقد كنت اشعر في هذا النقص في كل مرة ذهبت فيها لاشارك في المظاهرات تضامنا مع الثورة (هنا في المانيا) واذكر انني كنت دائما انادي واحادث المشاركين ان علينا ان نشدد كثيرا على هذا الامر قبل ان تفلت الخيوط من ايدي الثورة وتتحول الى صراع يسيطر علية الشد والجذب مع التطرف والارهاب ولكن للاسف هذا ماحدث وربما كان النظام السوري يدرك ذلك قبل الثورة ولهذا كان دائما يشدد على ان لايبقي اي مجال لبناء مثل هذة النخبة او لبناء اي سند لها مثل جمعيات حقوق الانسان او منظمات المجتمع المدني اللاحكومية واثناء الثورة فقد اغتال الناشط الكردي الكبير مشعل تمو مثلا لمنع اي استمرار لسلمية الثورة في القامشلي (وهذا امر معروف لدى الانظمة القنعية حيث تقتل المعتدلين لفسح المجال امام المتطرفين) وكان هذا واضحا للجميع الا انه لم يلقى الاهتمام الكافي لاشك ان الخلاصة التي وصلت اليها هي الاهم فانا اعتقد لنه لم يبقي لنا الا السير في طريق الثورة لكن متمسكين بقيم العدالة والحرية ذاتها التي قامت من اجلها هذة الثورات انها طريق طويلة كما يقول الجميع (او معركة طويلة وقد انضم الى هذا الجشد وزير الدفاع الامريكي ايضا) هذا الطريق الذي سيكون الاصعب لكنه الطريق السليم الذي سيوصلنا الى بر الامان ان شاء الله لكن طبعا بوادر النجاح يجب ان تظهر منذ البداية حتى يكون الامل اقوى من الياْس والا سيكون او ربما سيكون نجاحنا مرهونا بمخططات الاخرين ومنها مخططات اوباما الذي اعتقد انها ربما ستكون اكثر خطرا على الثورة منها على النظام او على داعش نحن لاننتظر مساعدة الغرب ولا العالم كل مانطلبة ان لايكونوا عسرة في طريق الثورة في نضالنا من اجل الحرية والكرامة والعدالة الانسانية ولكنني اصبحت اعتقد ايضا ان اوباما اكثر كذبا من بشار الاسد واصبحنا ندرك ذلك بكل يقين واخيرا سالني احد الشبان الالمان عن الثورات العربية فقلت له هذة هي الثورة الاولى والثورة الثانية قادمة عندها لن تسلم ايضا بقية الانظمة كالنظام السعوي ولاداعش ايضا

اشترك في قائمتنا البريدية