في الاقامة الفنية بـ’عاليه’: رغد مارديني تصنع فضاء متخيلا للجمال

حجم الخط
0

في مواجهة الخراب الذي تعيشه سوريا اليوم يتساءل المرء ‘ما الذي يمكن انقاذه؟’ الحرب تتشظى دائما. لن تبقى في مكانها ولن تنتقي ضحاياها بحيطة.
لا معنى للشفقة والحنان والرأفة والعفو والتسامح والتبصر والاعتذار. لا حرب من غير عمى. الاسلحة الذكية عمياء أيضا. المقاتلون يفعلون ما يرونه مناسبا في لحظة الاضطرار. القتل، الاغتصاب، التمثيل بالجثث، أكل القلوب، التطهير العرقي والطائفي. كل شيء قبيح وشرير. الممكن الوحيد يتأرجح بين القتل أو الموت. أما أن تكون قاتلا أو تكون ضحية. كل كلام آخر يقع في مجال العبث. ‘نفعل شيئاعلى الأقل’ يقول المرء بغصة العاجز، المتألم الذي يرغب في العطاء. مشروع الاقامة الفنية في (عاليه) اللبنانية الذي تصدت لإنشائه رغد مارديني، وهي مهندسة سورية، يمكنه أن يكون نوعا من ذلك الشيء الاعجازي. تخطى عمر ذلك المشروع السنة واستضاف حتى الآن 24 فنانة وفنانا سوريا ويستعد اليوم لاقامة معرض أول لفنانيه.
وإذا ما كان عدد كبير من الفنانين السوريين قد لجأ إلى بيروت، لا هربا من الحرب، وهو فعل مشروع، بل لان محترفاتهم الفنية قد تهدمت واحترقت أو أنها صارت تقع جغرافيا على خطوط التماس بين المتقاتلين، فإن بيروت الكريمة في كل شيء كانت بخيلة عليهم في توفير فضاء لعرض أعمالهم. بيروت هي الأخرى لديها مشاريعها الفنية التي هي جزء من مزاج ثقافي لا يمكن اختراقه بيسر. فهناك من بين أصحاب القاعات الفنية مَن كان قد اتخذ قرار قديما بان لا يعرض سوى للفنانين اللبنانيين. وهناك في المقابل مَن صار يخطط لعروض تجلب له المنح والعطايا المحلية والأجنبية، وهي عروض يغلب عليها الطابع التجريبي الذي يمزج الفن بكل شيء يقع خارجه. في المسافة ما بين هذين الطرفين يكون من الطبيعي أن لا يجد فنان سوري هارب بذعره من الحرب مكانا له. ما تفعله قاعة مارك هاشم يعد استثناء في هذا المجال. لذلك كان مشروع الاقامة الفنية ضروريا، على الأقل لكي نقول أن هناك مَن فعل شيئا من أجل الفن السوري ومن أجل سوريا. بالنسبة لفنان سوري شاب فان شهر اقامة في مكان آمن من أجل العمل والتأمل والمراجعة هو شهر حرية وخلق وانحياز مؤكد للجمال. سيبدي التاريخ القدر الكثير من الشكر للفتة كريمة من هذا النوع.
وإذاما كان الفعل يشبه صاحبه فإن ما تفعله رغد مارديني في مشروعها يشبهها. يقتفي أثر عاطفتها. يؤسس مستقبله على ماضي انفعالها الشخصي بالفن، كونه طريقة مثلى لاستجلاب السعادة. بتواضع يمكنها أن تقول إنها تفعل ما تحبه، ولكن مشروعها يتخطى ذلك الحب المباشر ليشيد متاهة، كل درب من دروبها يمكنه أن يكون صورة عن تلك الروح المعذبة التي صارت تهب العطاء معنى الغاية العاكفة على ذاتها. سيكون علينا أن نواجه مفهوم الشغف العميق بالحياة، من جهة كونها مناسبة للتعرف على الضوء. ذلك الضوء الذي يفسرضرورته ذاتيا من غير أن يحتاج إلى براهين.
في مشروع الاقامة الفنية يتجلى ذلك الشغف متجاوزا لعبة الولع بالفن إلى محاولة خلق بيئة، يكون الفن محيطها وضيفها في الوقت نفسه. لقد واجهت هذه السيدة الدمشقية سؤالا وجوديا صعبا هو ‘ما الذي يمكن أن يفعله المرء في الأوقات العصيبة التي يمر بها البشر، فكيف إذا كان أولئك البشر مواطني بلدها؟’
كانت لديها من قبل فكرة نخبوية عن الدور الذي يمكن أن يلعبه المرء في اسناد الفنانين ودعمهم، غير أن تلك الفكرة وقد تجسدت من خلال هذا المشروع صارت تتلمس طريقها في اتجاه شكلها العملي من خلال اتصال العمل الفني بصانعه في بيئة منسجمة مع ذاتها وبالطبيعة من حولها.
ما من حاجة إلى ذريعة لكي يكون الفن موجودا. إنه موجود بقوته ومن خلالها. يحضر في لحظته التاريخية المناسبة ليتسلى في تفكيك أسرار الهامه.
لهذا اختارت رغد أن تفتح أبواب اقامتها لحرية يقترحها فنانون شباب أغلقت في وجوههم القاعات الفنية أبوابها من قبل. معنى تلك الحرية يمكن تتبع آثاره من خلال ذلك التنوع العجيب في الاساليب والرؤى والأفكار الذي صار يمتزج بهواء المحترفات الفنية النقي. وكما أرى فإن هناك شعورا إنسانيا عميقا لا يغلب الفن ولكنه يقود مأثرته إلى هدفه كما لو أنه يسعى إلى أن يعيدنا إلى العصور التي كانت الفنون فيها تنصت إلى أصوات الملائكة في الكتب المقدسة.
ألا يعني ذلك أن هناك مزاجا أخلاقيا صار علينا أن نقبض على خيوط تمرده في كل ما يتصل بالفن؟ جدوى الاقامة الفنية التي جعلتها مارديني قيد التداول بين الفنانين السوريين الشباب تكمن في تلك النقطة الحرجة. وكما أتوقع فان كل فنان ممن شملتهم دار الاقامة الفنية برعايتها كان يستلهم خطى قرينه الأخلاقي وهو ينعم بحرية وجوده، فنانا لاهيا عن العالم الخارجي.
تعرف رغد مارديني وهي المسكونة بنغم العمارة معنى ذلك المزاج الأخلاقي الذي يرمم المسافة بين الفنان وحريته. كان ضميرها مرتاحا وهي ترى أن الفنانين لم يخفوا شيئا. فعلوا وباسترخاء ودعة ما كانوا يحلمون به، في تلك اللحظة من تاريخهم على الأقل. لقد أنتجوا الأعمال الفنية التي كانت إنسانيتهم فيها ساهرة على رؤاهم الفنية. فكانوا أبناء اللحظة التي خططت رغد لها طويلا.
من حق رغد مارديني أن تكون مفتونة بما فعلته. غير أنها لم تفعل. لا لشيء إلا لأنها لا تنتظر ثناء. ما تنتظره رغد: الفن لذاته. معجزته في أن يخالفنا في تعاستنا اليومية ليقول لنا ‘كم أنتم سعداء’.
سنة واحدة لا تكفي. تخطط مارديني لعشر سنوات قادمات. الأمر لا علاقة له بالحرب ولا بالنتائج التي ستسفرعنها. في كل الأحوال فان تلك النتائج لن تكون سارة من وجهة نظري. المرأة التي يقودها شغفها بالفن لا تتكلم بالسياسة. مقتنعة بدورها المجاور: صانعة فرص للطمأنينة التي يهبها قلق الفن لمعانا. هنا بالضبط يكمن درس إنساني مختلف. لقد اجتهد الفنانون الذين شملتهم الاقامة الفنية برعايتها واحتضنتهم في الاخلاص لتلك الفرصة النادرة في عالمنا العربي. الناجون مؤقتا من الحرب لم يعتبروا وجودهم هناك مجرد نزهة. حتى الضعيف من نتاجهم كان فيه شيء من الصدق والحميمية والمكابدة. كان أثر المكان واضحا في كل ما فعلوه. ‘أفعل ما تريد من أجل أن تعبرعن نفسك في هذه اللحظة من تاريخك الشخصي’ كانت تلك هي كلمة السر التي وضعتها الاقامة الفنية في قلوب وعقول ضيوفها. لذلك كان الفن حاضرا بقوة جماله فيما اختفت الشعارات وهتافات الشارع الثورية. لقد استوعب الفنانون الدرس جيدا. فهذا المشروع الشخصي الذي هو نتاج مخيلة امرأة تهوى الفن لم يكن تعبويا ولن يكون كذلك. وهنا يكمن سر استقلاله وحريته وتفاؤله. يوما ما سيتذكر الفنانون الذين استضافتهم الاقامة الفنية في عاليه أنهم كانوا محظوظين حين اختيروا ضيوفا في مكان هو في حقيقته فضاء متخيل.
شاعر وناقد من العراق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية