الذات العربية والآخر الآسيوي في ‘ساق البامبو’ لسعود السنعوسي

حجم الخط
1

رواية الآخر في الأدب العربي، وهي الرواية التي تصوّر من منظور الذات حضارة مغايرة بناسها ومجتمعاتها وعاداتها وتقاليدها وعقائدها إلى آخره.
وتصور علاقة الذات بهذا كله وأوجه التشابه أو التضاد، اللقاء أو الصدام هذا الجنس الروائي في الأدب العربي والذي يعود في نماذجه الأولى إلى ‘عصفور من الشرق’ (1938) لتوفيق الحكيم و’أديب'(1935) لطه حسين و’قنديل أم هاشم’ (1944) ليحيى حقي والذي لم يتوقف تيّاره حتى اليوم ، ينصرف في عموم معالجاته إلى الآخر الغربي، وخاصة الأوروبي القابع على الضفة الأخرى من البحر المتوسط الفاصل بينه وبين البلاد العربية، والذي اشتبك تاريخه على مرّ العصور بتاريخ العرب وثقافتهم اشتباكا كثيرا ما كان دمويا، منذ الفتوح العربية التي وصلت إلى إسبانيا وجنوب فرنسا، والحروب الصليبية في العصور الوسطى، إلى الاستعمار الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، إلى الهيمنة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين. هذا التاريخ الذي كان في العصور الحديثة تاريخ غالب غربي ومغلوب عربي، فاعل غربي ومتلقِ عربي للفعل، متقدم غربي ومتأخر عربي، إلى آخر هذه الثنائيات التي نصيب العربي فيها هو الجانب السلبي، كان لا بد أن يطبع هذا الواقع تصور الكاتب العربي ليس فقط للآخر الغربي وإنما أيضا للذات في علاقتها به وبنفسها، ومن هنا نجد الروايات المندرجة في هذا الجنس تتسم بوجدانية مزدوجة، يختلط فيها كراهية الآخر بالإعجاب به، ورفضه بالتطلّع إليه، كما يختلط فيها الخوف من الآخر الغربي بالشعور بالدونية أمامه والرغبة في محاكاته والوصول إلى ما وصل إليه من حضارة وعلم وتقدم.
هذا عن المشرق العربي، مصر وسوريا ولبنان وأيضا المغرب العربي في تونس والجزائر والمغرب. لكن ماذا عن جزيرة العرب ودول الخليج؟ لقد شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين وحتى اليوم، ميلاد علاقة جديدة بين العرب والآخر. ليس الآخر الغربي هذه المرة. وليس آخر يشعر العربي الخليجي أمامه بالدونية. وإنما آخر يشعر أمامه بالفوقية. بالتميز. بالسيطرة. بالتحكم في الرزق والمصير. هذا هو الآخر الآسيوي. الآسيوي الفقير من البلاد المكتظة بالسكّان، القليلة الموارد. الآسيوي من الهند. من الباكستان. من البنغال. من الفيليبين. من نيبال. ومن غيرها. هذه علاقة بالآخر مختلفة تماما عن العلاقة بالآخر الغربي. الآخر هنا في الأغلب الأعم فقير، قليل العلم، ذليل، يتجشم المخاوف والديون وهجر الأهل والأحباب حتى يحظى بموقع الخادم أو السائق أو عامل النظافة أو البناء، تحت رحمة كفلاء ليست قلوبهم دائما عامرة بالرحمة. يعيشون دون الكفاف، دون حقوق تُذكر، خاضعين لنزوات الكفلاء، ومعرّضين للترحيل لبلادهم في غمضة عين. هذا الآخر الآسيوي وعلاقته بالذات العربية الخليجية، المختلفة تماما عن علاقة الذات العربية بالآخر الغربي، كان لا بد أن ينعكس في الأدب الروائي لتلك المنطقة من العالم العربي، وكان لا بد أن ينتج لونا من أدب الآخر جدّ مختلف عن أدب الآخر الغربي الذي أنتجه المشرق والمغرب العربيان. ومن هذا اللون رواية ‘ساق البامبو’ للروائي الكويتي سعود السنعوسي الصادرة في 2012 عن ‘الدار العربية للعلوم ناشرون’ في بيروت، والتي فازت مؤخرا بالجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2013.
سعود السنعوسي، وهو كاتب شاب لم يتجاوز الحادية والثلاثين من العمر وروايته الفائزة هي الثانية من إنتاجه، قرر أن يفعل شيئا لا نحب نحن العرب أن نفعله عادة: أن نجابه الأشياء مجابهة مباشرة، وأن نسميها بأسمائها مهما قبحت، أن ننظر إلى أنفسنا فنرى عيوبنا فلا نتستّر عليها بل نصارح أنفسنا والآخرين بها باعتبار ذلك أول خطوة على طريق الإصلاح. كل هذا لا نحب أن نفعله، مختارين غالبا الاعتقاد الآمن المطمئن بأننا خير أمة أُخرجت للناس وأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان، وأن القذي دوما في عيون الآخرين وحدهم، أما نحن فمنه براء. لكن الكاتب الكويتي الشاب اختار أن يستقيل من عضوية هذا النادي الذاهل المرتاح، وأن يسمح للأدب أن يقوم بوظيفته المرتجاة، وهي الكشف والتعرية، الصدم والمجابهة للفرد والمجتمع، كخطوة على درب الفهم والتغيير. ولأن هذا شيء جدّ نادر في أعرافنا الاجتماعية والأدبية والإعلامية، فكان حتما أن يُلاحظ جهده وشجاعته، وأن تلتفت إليها لجنة تحكيم ‘البوكر العربية’ فتسبغ عليها من التكريم والتنويه ما يأتي في سياق الفوز بهذه الجائزة.
تثير الرواية قضايا عديدة لصيقة بالتركيبة الاجتماعية الخليجية وبالعلاقة بين المجتمعات الخليجية الوطنية وملايين العاملين الذين تستضيفهم في بلادها لتسيير شؤونهم المعاشية، خاصة في مجالات العمالة الدنيا مما يستنكفون عن القيام به بأنفسهم وتيسّر لهم قوتهم الاقتصادية الاستعانة عليه بالغير. وتكشف الرواية عن النظرة المتعالية المُحتقِرة، العنصرية في جوهرها، التي ينظر بها الكويتي، والخليجي بالتعميم، إلى الطبقات العاملة في خدمته من آسيا وغيرها. وتكشف عن أن المبدأ الديني الأخلاقي الذي تعتنقه تلك المجتمعات من أنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، إنما هو شعار مثالي نظري، وأن الفضل من الناحية العملية المطبّقة إنما يكون بالقوة والمال والعصبية العرقية والأسرية والقبلية.
تكشف الرواية عن كل هذا مما يعرفه الجميع ولكن لا يتحدث فيه أحد عن طريق قصة شاب نصف كويتي نصف فيلبيني نتج عن زواج سري بين شاب كويتي من أسرة مرموقة وخادمة فلبينية تعمل في منزل الأسرة. وعلى الرغم من نبالة الشاب، فإن الأسرة والتقاليد ترغمه على تطليق زوجته وإعادتها مع رضيعها إلى الفلبين، ولا يلبث الأب أن يلقى حتفه على يد الغزو العراقي للكويت. ينشأ الصغير في ظروف فقر وبؤس في الفلبين حتى يصير شابا يافعا ويقرر أن يرحل إلى الكويت ويحصل على الجنسية التي هي من حقه ويحاول الانتماء إلى أسرة أبيه. لكن المجتمع الكويتي يرفض تقبله والاعتراف به. حقا أنه ينال الجنسية الكويتية بموجب القانون كون أبيه كويتيا، ولكن هذا الاعتراف القانوني يبقى مجرد ورقة رسمية لا تنفع بشيء أمام أسرة أبيه المتوفى والمجتمع بأسره الذي يلفظه ويرفض انتمائه له رفضا صريحا. ولا يشفع له في شيء اعتناقه الإسلام، دين أبيه، على الرغم من نشأته مسيحيا في الفليبين. ولكن تبقى ملامحه الآسيوية و’وصمة’ الجزء الفليبيني ‘الوضيع’ من دمه عائقا منيعا أمام تقبله على قدم المساواة في الأسرة والمجتمع.
يُحسن السنعوسي صنعا إذ يعطي وجهة النظر في السرد الروائي للشاب التعس الذي نسمع القصة من منظوره، فنرى عذابه وحيرته، شوقه للانتماء، محاولاته لأن يُحبّ، لأن يُقبل، والتي تنكسر كلها على صخرة التقاليد والأعراف الاجتماعية والعصبية العنصرية. ومما يُحسب للروائي أنه لا يُصوّر القضية تصويرا مبسّطا بالأبيض والأسود، وإنما هو واعٍ تماما بأهمية الظلال الرمادية، بالتداخل بين النقيضين، بالمنطقة الوسط بين حركة بندول النوازع البشرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. فالأسرة الرافضة من جدّة وعمّات الخ ليست بلا قلب، وليس رفضها مطلقا أعمى، وإنما هي أيضا فريسة للعرف الاجتماعي والعصبية المتوارثة جيلا عن جيل، والذي يثبت أنه أقوى من أي نوازع للقبول والاعتراف لدى بعض أفرادها. لا تسعى الرواية للإدانة والحشر في خانات الطيّب والشرير، وإنما تسعى لأن تقول: لدينا مشكلة اجتماعية وأخلاقية خطيرة، كفانا تجاهلا لها، دعونا نتصارح بها ونفكّر فيها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الرشيد حاجب:

    شكرا أستاذي د.رشيد العناني

    تلميذك في جامعة إكستر

اشترك في قائمتنا البريدية