دبي الثقافية… خسارة عربية فادحة؟

مجلة دبي الثقافية توقفت مثل جسد حي يصاب فجأة بسكتة قلبية، بدون إنذار، ومعها توقفت مؤسسة عريقة كالصّدى. مهما كان السبب الاقتصادي مبررا لذلك، فقد كان الخبر صاعقا وصادما لكل من تابع المجلة على مدار الاثنتي عشرة سنة الماضية، أو انخرط فيها مساهما أو قارئا أو متابعا.
دبي الثقافية مجلة ناجحة بامتياز، ينتظرها بحب ولهفة القارئ العربي المتعدد، في بداية كل شهر. لم تتخلف شهرا واحدا عن الصدور. ينزل القارئ العربي إلى كشكه المعتاد، فيجدها في انتظاره بسعر رمزي قياسا لنوعيتها الراقية، في كل مرة بغلاف مصدره وروحه الفن من موسيقى راقية، ورسم وتشكيل ومسرح وأوبرا ونحت. من الصعب الحديث عنها في الماضي، لأن دبي الثقافية، لم تكن فقط زهرة دبي، ولكن أنفاس عالم عربي في حالة اختناق مستمر. اعتدالها الدائم واعتمادها على الخيارات الثقافية الأكثر اتساعا وتعددا، جعلها في تناسب كل الأذواق المنتصرة للفن والأدب والثقافة والتقدم، على خلاف المجلات العربية المبتذلة أو السياسية أو الفئوية، التي لا تقدم أية معرفة حقيقية، وإذا قدمتها، فهي تفعل ذلك بمنطق الدكاكين الصغيرة.
رهانات دبي الثقافية لم تكن سهلة أبدا لأنها ثقافية، تندرج ضمن إستراتيجية بناء الإنسان المستقبلي وليس وفق منطق السوق، الآني، الذي لا يتقن إلا لغة الربح والخسارة، وينسى أن الإنسان المنتَج أكبر من السوق.
فهو الضّامن الحقيقي للاستقرار عندما يواجه البلد الهزات الأكثر عنفا في مساراته التاريخية. الذي حمى في النصف قرن الأخير، أوروبا وأمريكا من التمزقات الاثنية والعرقية واللغوية والجهوية، التي تخــــترقه بقوة، ليــــس الاقتصـــاد الذي قد يصل أحيانا إلى الانهيار والحضيض بسبب جشع المجموعات النافذة، لكن المنسوب الثقافي الفردي هو الذي حال دائما بين الأزمة وردة الفـــعل المدمرة.
الكائن المثقف هو منطقة اصطدام La Zone Tampon القوى المتناحرة. استمرار دبي الثقافية في المشهد العربي هو جزء غير مرئي من هذا الجهد المتوازن، في عالم عربي تتهدده كل المخاطر الداخلية والخارجية.
يمكننا اليوم، بعد اثنتي عشرة سنة من الحياة والممارسة الثقافية الفعالة، أن نتحدث بسهولة عن مكتبة دبي الثقافية التي تحتوي حتى الساعة على 150 مؤلفا أصدرتها المجلة عبر رحلتها بلا توقف، دون أن تغير مليما واحدا في سعر بيعها، ملبية بذلك حاجة القارئ الثقافية الضرورية، في سياق بث المعرفة والفن والعقل في نفوس عربية ركبها صدأ الخيبات المتكررة، وهيمنة التطرف على يومياتهم القلقة. الذي ضمن استقرار المجلة واستمرارها على الرغم من الصعوبات المحدقة بها، طاقمها الثقافي الاحترافي الذي اختار الجدوى في الممارسة الإعلامية، والإصغاء الدائم إلى الحاجات الثقافية العاجلة والبعيدة المدى، بإشراف سيف محمد المري، مدير المجلة العام ورئيس تحريرها، ومدير تحريره، نواف يونس اللذين وضعا كل خبراتهما الإعلامية والثقافية، في خدمة المجلة في سبيل تطويرها المستمر. إضافة إلى طاقم تحرير متجانس ثقافيا ومتعدد في الآن نفسه: محمد غبريس، يحيى البطاط، رانيا حسن، غالية خوجة.
أما الإدارة الفنية التي جعلت من دبي الثقافية مجلة بالمقاييس العالمية، فقد كان وراءها أيمن رمسيس، بكل ثقل خبرته الحياتية والفنية. رونق المجلة وإخراجها وتنفيذها الذي تفادت فيه دائما تكرار نفسها، ضمنه محمد سمير بمعرفته الفنية الراقية. بينما أدار علاقاتها العامة وسهر عليها باستمرار، محمد بن مسعود، دون ذكر أكثر من 200 عامل مرتبط حياتيا وعضويا بوجود المجلة واستمرارها على السوية الراقية نفسها، لأنها وجهه الحي، في ظل عالم متكالب، يعمل على تجهيل الإنسان العربي، وتحويله إلى مستهلك بليد، بلا لغة ولا رأي ولا تفكير، وإغراقه في دوائر الإرهاب الذي يتم تصنيعه داخليا وخارجيا، لقهر أية إمكانية للتنمية.
الخوف هو أسهل وسيلة لامتصاص الأموال العربية والزج بها في حروب تعود في النهاية بالربح الوفير على لوبيات الهيمنة الغربية، وعلى رأسها لوبي الأسلحة الذي نشط في السنوات الأخيرة في المنطقة العربية. احترافية دبي الثقافية جعلت منها قوة إعلامية حية، وعلامة ثقافية فارقة، ومتابعة للنبض اليومي للحالة الثقافية العربية. هي المجلة الوحيدة، إلى اليوم، التي استطاعت أن تجمع طاقما ثقافيا عربيا يضمن استمرارية تنوع جهدها، مكوّنا من المع الأسماء العربية، على سبيل المثال لا الحصر (مع الاعتذار عن الألقاب): أدونيس، جابر عصفور، نبيل سليمان، محمد عبد المطلب، إبراهيم الكوني، عمر عبد العزيز، عبد السلام المسدي، فريدة النقاش، محمد برادة، أحمد عبد المعطي حجازي، حاتم الصكر، محمد علي شمس الدين، فيصل دراج، عزالدين ميهوبي، مصطفى عبد الله، منصف المزغني، لطفية الدليمي، محمد حسن الحربي، محمد صابر عرب، أحمد برقاوي، آمال مختار، نجوة قصاب حسن، ظبية خميس، فوزي كريم وغيرهم. وأعلم، من أصدقائي في التحرير، كم من مثقف عربي كبير، كان يتمنى الانتماء إلى دبي الثقافية ضمن طاقمها الثقافي العربي الثابت. بهذه الأسماء الكبيرة، من مختلف الأجيال، أصبحت مجلة عربية بامتياز، لا بالمعنى السياسي ولكن بالعمق الثقافي وتعدديته. وهو ما قرّبها من النبض الخافت، في الجسد العربي لإعادة إنعاشه ومنحه سبلا أخرى للرؤية خارج السهولة السياسية. فكيف لمجلة عمرها 12 سنة من الجهد الثقافي، على عاتقها هذه المهمة الكبيرة، أن تتوقف بالسكتة الفجائية؟ نعم، منطق السوق بلا عواطف وهذا جزء من قسوته، لكن اختيار الإنسان في عمق التنمية العالمية هو لب كل الإستراتيجيات المستقبلية.
فقد مدت المجلة يدها للجيل الشاب لإقناعه بأن العالم ما يزال بخير، وأن عليه أن يستمر، فهناك من يصغي إليه. احتفت في كل دوراتها، بمنجزه الإبداعي شعرا، وقصة ورواية، ورسما وسينما، ودراسات ومبحثا نسائيا، إضافة إلى الشخصية الإماراتية الأكثر تميزا. مما جعل من المجلة شمعة حية في النفق العربي المظلم. يظل وجود مجلة دبي الثقافية أكثر من حاجة عربية، ضرورة، في ظل تصحر عربي طاغ يدفع إلى المزيد من المهالك، أو كما يقول المدير العام للمجلة سيف محمد المري، في افتتاحيته أجراس، في عدد (129) فبراير 2016: زمن من أصعب الأزمنة التي مر بها الإنسان العربي، حيث يعاني العديد من دولنا العربية حالة انقسام وتفرق وتشرذم، وقد تداعت علينا الأمم، وصار العديد من البلدان العربية مرتعا خصبا لكل مغامر، لكننا لن نتوقف عن الكتابة، ولن نتوقف عن الإبداع، فهو سلاح الأمة في مواجهة المجهول الذي ينتظرها، ولعلنا ما أحوج ما نكون إلى التلاحم والتآزر والتكاتف ونحن نعبر هذا الزمن الصعب، ولعل ما تركه الاستعمار وبذره قبل أن يخرج هو الذي لعب الدور الحاسم في الوضع المأزوم الذي تعانيه الدول العربية التي ابتليت بواقع صعب قادها إلى أن تتحول إلى دول فاشلة لم تتمكن من توفير أقل متطلبات الحياة لشعوبها. مجلة دبي الثقافية هي وجه من أوجه إمارة دبي الناجحة في رهاناتها الحداثية الثقيلة والكبيرة. فهي أكثر من مشروع ثقافي، خيار حضاري لمستقبل عربي يمكن استدراكه قبل أن يتلاشى.

واسيني الأعرج

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    تزدهر الثقافة حين تكون هناك حرية
    والسؤال هو : أين هي الحرية ببلادنا
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول ahmad:

    مسلم مؤمن و ملتزم بتعاليم الدين الاسلامي مثل الحاج داود الكروي يسأل ويقول اين الحرية في بلادنا العربية؟ الا تعلم يا عم داود لماذا لا يوجد حرية في البلاد العربية؟اتريديني ان اجيب لك على هذا السوال؟؟؟ والذي استطيع ان افهمه انت اخترت ان تعيش في بلد يوجد فيه حرية مثل النرويج.

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      لأنه لا توجد حرية ببلادنا العربية والإسلامية إختار الكروي داود الإقامة بالنرويج
      مع تحياتي ومحبتي وإحترامي لك يا عزيزي أحمد وللجميع
      ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول علي النويلاتي:

    يصرفون على خيولهم وسباقاتها ومزارعها في بريطانيا وإيرلندا وأستراليا وغيرها مئآت الملايين من الدولارات، ومئآت الملايين الأخرى في تبني الفرق الرياضية والفنية في هذه الدول، فكيف تريدهم أن يتحملوا أعباء مصاريف مجلة ثقافية، إتقي الله يا أخي !!!

  4. يقول الجمهورية العربية السورية:

    من المحزن حقا أديبنا الكبير باسمك المعروف ،ألا نجد أحدا كتب عن اختفاء المجلة المحبوبة التي تابعتها بشغف إلاك، عبر النت على الأقل، والمقال لايتكلم عن دبي الثقافية فقط، بل عن كل المنابروالأقلام التي تحمل رسالة عميقة هادفة وإيجابية، وماتفضلت به صحيح، وخلفه تكمن التفاصيل كالشيطان ولكن إن قسنا هذا على مدى مساحة المبدعين العرب على معظمهم هؤلاء الفقراء المعوزين ، فماذا نقول؟..
    عش فقيرا ولكن لاتصمت؟ إنه النفَس الإنساني الذي يتكلم عن تجربة حياة، عن عالم سما فوق مدينة أفلاطون، واستطاع أن يثبت قدمه إلى حد ما . وتلك البصمة سوف تبقى …ولكن علينا جميعا تغذية كل هؤلاء الذين يشبهونها….
    علينا ألا نموت باختصار..لأنهم يأكلون لقمتنا….
    د. ريمه عبد الإله الخاني.
    أديبة وباحثة.

اشترك في قائمتنا البريدية