اتكأت رواية «آخر الرعية» لأبي بكر العيادي في سخريتها من شخصية بطلها «الكبير»، وهو حاكم بلاد عربانيا، على المبالغة في تضخيم أحواله وأفعاله، ناهيك من المبالغة في تحقيره وكشف حقائقه الاجتماعية والدينية والسياسية، وما فيها من ابتذال. إذ كشفت عن أنّ ما يظهر من أحوال هذا الحاكم لا يزيد عن كونه غطاءً لحقيقة مزرية حشّد كلّ موارده المادية والرمزية لنسجها حتى يحتل بها في متخيّلات رعاياه منزلةَ «شيخ التقاة وأوّل الثقات، وحامي أحرامنا المقدّسة»، ذلك أن الرواية عمدت إلى مكافحة بطلها بحقيقته، حاشدةً في ذلك جميع صفاته التي ظلّ يُخفيها، ويتمنّى حذفها من تاريخه الجسدي والاجتماعي والسياسي، والمبالغة في توصيفها حتى بدا معها ضئيلا في كلّ شيء: أصلا وخلقة وفهمًا سياسيا.
الحاكمُ عاريًا
فهذا الحاكم الذي زعم المؤرّخون أنّه «سليل نسب عريق ضارب بجذوره في أعماق التاريخ، وأجداده رفعوا على مرّ الأزمان رايات المجد، وعُقدت لهم ألوية النصر» ما هو في واقع الأمر سوى فرد من عائلة فقيرة استشرت فيها الأمراض والعاهات، التي ظلّت الأجيال تتناقلها خلفا عن سلف، بل وتتناقل ما فيها من تشوّهات خلقية، يمثّل وجه الكبير مرآة لها وعلامة عليها، ما جعله «يكره أرنبة أنفه المعقوفة التي ورثها عن أبيه، ويمقت الأورام التي تحوق بعينيه، نتيجة مرض مزمن ورثه عن أمه وحار الأطباء في علاجه». وتواصل الرواية المبالغة في تجريد الحاكم ممّا يدّعي من حسبٍ ونسبٍ وقوّة وجاه، وتُذكّر القارئَ بالقول: «اخلعوا عن الملك جنوده وأسلحته تروه عاريا»، بل هي ظلّت تغرقه في بحر مؤامراته، وتؤلّب عليه أعوانه وخدمه، حتى لانت شكيمته، واعترف بوضاعة أصله وفصله في قوله: «وليس لي في ما أعلم غير جَدّ كان يبيع الأطمار في حيّ شعبي، وأمّ أتى عليها المرض والفاقة سريعا، ووالد أرسلني إلى الجندية لأضمن قوتي قبل كل شيء.. جدّي بائع الروبافيكيا، ذلك منتهى أصلي وفصلي».
اتكأت رواية «آخر الرعية» لأبي بكر العيادي في سخريتها من شخصية بطلها «الكبير»، وهو حاكم بلاد عربانيا، على المبالغة في تضخيم أحواله وأفعاله، ناهيك من المبالغة في تحقيره وكشف حقائقه الاجتماعية والدينية والسياسية، وما فيها من ابتذال.
وأمام هذا الاعتراف سَهُل على الرواية أن تلتفتَ إلى توصيف نفاق أعوان الحاكم ومؤيّدي سلطانه، الذين يقبلون التخلّي عن مبادئهم من أجل إرضاء غروره وتأصيله فيه، ولكي تبلغ السخرية من الحاكم وأعوانه منتهاها مالت الرواية إلى تقنية المفارقة، حيث أحضرت المفتي عبد الرحمن المنصوري، وهو الذي يُفترض فيه أن يكون ورعا لا يتزحزح عن جادة الحق، وحشرته في مجلس خمر في قصر الكبير، وغايتها من ذلك امتحانه في مدى قدرته على الثبات على مواقفه الدّينية.
وخلال حوارية طريفة بين المفتي والحاكم، تتكشّف حقيقة رجال الدّين، فإذا بالمفتي يطلق صفة الطهر على الخمرة، في قوله واصفا مجلس الكبير الخمريّ: «معاذ الله، حاشى أن يعكّر الشيطان هذا المجلس الطاهر». ولمّا قدّم له الكبير قدحَ الشراب، بحث عن تبريرٍ يُحلّل به شربَها، فقال: «سأشرب.. عسى.. عسى أن.. أن يجعل الله لي فيها.. شفاء من من داء الكولسترول.. عافانا وعافاكم الله». ولكي تزداد سخرية الرواية من ضعف إيمان المفتي وخوفه من الحاكم، تجعله يرى في معصية الله جرما أقل منكَرًا من معصية مولاه، ومن صور ذلك قوله لما سأله الكبير: «يا شيخنا. ألا تخشى أن تلقى ربك بمعصية؟» أجابه: «والله.. لَذلك أهون عليّ… من عصيان مولانا».
الديمقراطيةُ لغوُ جُهّالٍ
ولعلّ من مظاهر انتهاك قداسة الحاكم في الرواية مبالغتها في السخرية من جهله هو ومستشاريه بمعاني الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان التي يطالب بها المعارضون، حيث لا تزيد هذه المَطالِب في منظومة سياسة هذا الحاكم عن «لغو جهّال كمن يجادل في الله بغير علم»، بل إن الدّيمقراطية لفظة مخادعة ومسربلة بلبوس عداء ساسة الغرب للكبير، ولا تخدم إلا مصالحهم في تخريب بلاد «عربانيا» والقضاء على استقرارها السياسي بما تحدثه من بلبلة في نفوس الناس. ومن ثمة يرى فيها الكبير صناعة غربية تمّ تقليدها عن مظاهر الشورى في ثقافتنا السياسية، وقد روّج لها الغرب الحاقد على ما تنعم به بلاد «عربانيا» من أمن واطمئنان ليدنّس بِوَبَائها أفكارَ الرعية.
ووفقا لتبرير الباش كاتب لطغيان حاكمه وتسلّطه على مجتمع «عربانيا» فإن الدّيمقراطية «موجودة (عندنا)، وإنما الفارق بالتسمية لا بالنوع، فلنا الشورى النابعة من تعليم ديننا الحنيف، فالوزير، أي وزير، لا يمكن أن يأتي عملا ما لم يشاورك في الأمر، بل لا ينطق واحد منا إلا بقولك». ولا تُخفي الرواية، بإيرادها هذا الشاهدَ، سخريتها من لَيِّ الباش كاتب عنقَ مفهوم الشورى جاعلا منه حدثا تبدأ دَلالته من سؤال الوزير وتكتمل بإجابة الكبير عنه ولا تتعدّاه. وبهذا التصوّر، تخالف الشورى مفهومها الإسلامي الذي يقوم على دعامة التواصل الأفقي بين مَن أوكِلت إليهم مهمةُ تدبير شؤون الناس، لتكون أمرا ينعقد فيه الصواب على رأي الحاكم وحده، والعودة إليه في كلّ فعل يرغب مساعدوه في إنجازه. ومن وجوه السخرية من سياسة الكبير تعمُّد الرواية تشريح تصوّره السياسي للانتخابات، فمسألة الاقتراع التي يتبارى ساسة الغرب في احترام شفافيتها ويحرصون على عدم الضغط على المواطنين لاختيار مرشّحيهم، هي في توصيف الباش كاتب لا تختلف كثيرا عن «البيعة عندنا، والمبايعة أجلّ وأسمى من تلك الصناديق التي يلجؤون إليها، ولا يجنون منها غير أرقام مبهمة عن تأييد لا وجه ولا روح له، فأين تلك الأوراق الباردة الملقاة في صناديق خرساء من تلك الأفواج المتلاطمة كالموج المضطرب التي جاءت تبايعك؟».
ولكن الباش كاتب، وهو يصف كثرة المبايعين بالأمواج المتلاطمة، يعلم جيدا أن هؤلاء الناس ما بايعوا الكبير إلا بسبب ما طالهم من أعوانه من إكراهات وابتزازات سياسية واجتماعية، لم يجدوا معها بدّا من الإذعان لماكينته الضخمة المُنتِجة لكل أساليب التحشيد الجماهيري، بعد أن أقصى كلّ مَن سوّلت له نفسه منافسته في تلك الانتخابات على غرار ما انتهى إليه صالح المكّي من متابعة أمنية وتضييق على حرّيته إثر إعلان ترشّحه لها بعد أن «وجد في قومه شرذمة تزعم أن ذلك حقّ تضمنه أحكام الدستور، وتردّد ألفاظا غريبة تشمئز منها النفوس كالتعدّدية والتداول على الحكم والسلطة للشعب وما شابه… والحق أن الديمقراطية، تلك اللفظة المخادعة، المسربلة بلبوس العِداء والتخريب، هي التي أحدثت البلبلة في نفوس الناس». ولا شكّ في أنّ بِطانة تنحرف بمفهوم الديمقراطية الحقيقي صوب مفهوم لها جديد يتوافق مع أهواء الحاكم التسلّطية ستكون سببا من أسباب انهيار عرشه على غرار ما سيؤول إليه مصيرُ نظامِ الكبير حاكم «عربانيا».
٭ كاتب تونسي