في دورة الحياة الزمنية والطبيعية يمر الزمن في دورة جدلية يكسوها الغموض والوضوح معا، حيث تتبدل أدوار الحياة ما بين ظلمة ونور، برد ودفء،حياة وموت، فناء وبقاء، كآبة وفرح. وما بين هاتين الجدلتين الأبديتين ينهض فصل الربيع منبئا بولادة الحياة وتجددها، وحيث تكون البداية يكون آذار-مارس ماثلا بكل سطوعه وتجلياته اللونية والجمالية، حاملا بين راحتيه الأمل بالتجدد والانبعاث. ففي حين تدور رحى دورة الطبيعة يعايش الإنسان تبدلات الزمن والطبيعة بتفاعل سرمدي جدلي يعبر عن التحام الإنسان بالطبيعة وارتباطه بها ارتباطا وثيقا، فيحاول ابن الطبيعة محاكاة التبدلات تلك في طقوس مبتكرة، حيث يبتكر فكرة الاحتفال والطقوس الدينية التي تعبر عن بحثه الدائم عن أجوبة لأسئلته الملحة المتعلقة بالحياة والموت، الجذب والانبعاث، الزوال والبقاء. فيحاول عبر ملاحمه وطقوسه الإنسانية التعبير عن تماهيه الكامل مع دورة الحياة وترجمة صراعه المرير عبر تتويجه لفكرة الانتصار والبعث بابتكار احتفالات تبدأ طقوسها مع بداية الربيع حيث تكون البداية وتكون الكلمة الفصل للتجدد والبقاء.

• أساطير التجدد والانبعاث:
يكتب الأولون أساطيرهم وتصوراتهم في مدونة فنية سردية تجتمع في تفاصيلها مكونات تجربتهم الذاتية والجماعية في تلاحم فريد. فمنذ القدم مثلت وعكست أساطير الأولين فكرة الانبعاث التي تبدأ مع قدوم الربيع، فلا يخلو تاريخ منطقتنا العربية وتاريخنا الإنساني من الموروث الهائل لأساطير التجدد والانبعاث. فتجسد أسطورة أدونيس وعشتروت ملامح فهم الإنسان لدورة الحياة وتعاقبها. أسطورة أدونيس وعشتروت وهي إحدى أساطير العبادات الزراعية الشرقية الكنعانية والفينيقية والتي امتدت مضامينها إلى الثقافة اليونانية والرومانية والشرق آسيوية، فتصبح عشتروت معشوقة أدونيس أفروديت وفينوس في الثقافة اليونيانية والرمانية، وتتمظهر في بلاد الرافدين أيضا أسطورة تموز، وكذلك أوزريس عند المصريين، وغيرها الكثيرين من الأساطير التي شكلت بمجملها رموزا حاضرة ومتجددة في أشكال عدة لها دلالات توحي بفكرة الخصب الانبعاث والتجدد والتحكم في دورة الزمن، فموت الطبيعة سببه موت الإله ولإنقاذ الطبيعة من الفناء وجب إقامة الطقوس والشعائر للدفع بقوة الحياة للأمام.
موروثنا الإنساني الذي نسج أساطيره ورموزه من فكرة التناقض الملتبس بين الموت الحياة والبعث، الجذب والخصب، الحزن الكآبة والفرح. والانتصار مازال تتردد أصداؤه في المناسبات العديدة وتحتفل العديد من الشعوب بقدوم الربيع والتي تشكل معظم هذه الاحتفالات امتدادا لعبادات الطقوس الزراعية القديمة.

• عيد النيروز:
في الحديث عن التجدد والولادة والربيع تأسرنا تعدد المناسبات التي يحتويها شهر آذار- مارس والتي نبدأها بعيد النيروز ويعرف برأس السنة الفارسية تحتفل به قوميات وشعوب عدة تمتد في أغلب القارة الآسيوية والذي يتشابه بمضمونه وشكله مع أعياد شم النسيم عند المصريين.
عيد النيروز يعني اليوم الجديد والتي تعود أصوله إلى التقاليد الزرادشتية التي كانت سائدة في بلاد الفرس، والذي يشكل في رمزيته الطقسية تأكيد الشعوب الآسيوية تمسكهم بالفرح والتجدد والانبعاث، يحتفل الأكراد في هذا العيد فهو بالنسبة لهم، إضافة إلى رمزه الديني والاجتماعي رمز قومي يعبر عن تمسكهم بحريتهم و انتمائهم لقومتيهم وثقافاتهم التي تعرضت ومازالت تتعرض للتهميش والإلغاء. يحتفل الأكراد في أجزاء بلادهم المنقسمة بين سوريا، إيران العراق، وتركيا بهذا اليوم مزدانين بألوان الربيع البهية، ليثبتوا تجذرهم في الأرض التي قسمت بفعل المشاريع الاستعمارية منذ بداية هذا القرن التي استهدفت وجودهم الإنساني وهددت هويتهم القومية. ففي عيد النيروز تصدح أصداء أغنيات الأكراد الجبلية وموسيقاهم مجددة أمل الانبعاث والحرية والاستقلال..

• يوم المرأة العالمي :
وفي حديثنا عن آذار-مارس وما يمثله من شهر الانعتاق والتحرر والتجدد لابد لنا أن نذكر الاحتفال بيوم المرأة العالمي، الاحتفال الذي أرسى دعائم حرية المرأة وناصر قضية تحررها. فالمرأة التي كانت تقف قرونا على حد سيف القهر الاجتماعي والتاريخي، استطاعت وككل رموز الانتصار الربيعي استطاعت وبعد نضالات مريرة امتدت قرونا انتزاع حقوقها وحريتها وإرغام العالم على الاعتراف بحقوقها ومساواتها مع الرجل، فهي ليست فقط ذلك الكائن البيولوجي الذي له دور وظيفي محدد، فقد استطاعت المرأة وبعد قرون من النضالات المستمرة والتي تجلت بدايتها مع حادثة إحراق معمل نيويورك في 25 آذار-مارس في عام 1911 والذي سقطت ضحيته 140 امرأة نتيجة الاستغلال الطبقي. فمنذ تلك الحادثة بدأت الحركات الراديكالية ترفع صوتها عاليا للمطالبة بانتزاع حقوق المرأة. استمرت نضالات المرأة بعد تلك الحادثة المأساوية وبعد صراع طويل ونضالات عديدة استطاعت المرأة انتزاع حقوقها حيث أقرت الأمم المتحدة في عام 1946 اعتبار يوم 8 آذار-مارس يوما عالميا للاحتفال بيوم المرأة العالمي باعتبارها شريكا حقيقا للرجل له كافة الحقوق والامتيازات وليس تابعا وظلا فقط.

• يوم المسرح العالمي:
وفي الحديث عن التجدد والخلق لا بد أن نذكر المسرح الذي خصص له يوم عالمي خاص للاحتفال به في 27 آذار-مارس حيث المسرح أبو الفنون جميعا، المسرح الذي جسدت على خشباته منذ القدم طقوسنا الإنسانية بكل تحولاتها وتقلباتها وجدليتها، ملهاتنا مأساتنا وكوميديتنا. المسرح الذي تشكل وشكل حيواتنا، فأعاد صياغة حكاياتنا بسرديته درامية وفنونه الأدائية التي عبرت عن تجاربنا، خبرتنا شكوكنا، مخاوفنا، أحلامنا وتوقنا للأمل والتجدد والفرح والانتصار. وحيث يكون المسرح تكون الحياة بكل تجلياتها ومعانيها. يوم المسرح العالمي الذي يحتفل به جميع مسرحيي العالم كتبت كلمته هذا العام المؤلفة البريطانية هيلين ميرين قائلة: «لقد بدأت الكائنات البشرية تروي لبعضها الحكايا، منذ أن وجدت على الأرض وكذلك سيكون لثقافة المسرح أن تستمر حية طالما أننا نعيش على سطح هذا الكوكب لا شيء يستطيع أن يكمم النزعة الإبداعية لدى الكتاب والمصممين والراقصين والمغنين والممثلين والموسيقيين وفي مستقبل قريب سنجد الإبداع يزدهر بقوة ويترافق مع فهم متجدد لهذا لعالم الذي نتشارك الحياة فيه، وكم أتوق لرؤية ذلك يتحقق».

• الثورة السورية:
في التوق للإبداع والازدهار والأمل لا بد لنا وأن نعرج على ثورات الربيع العربي التي سميت بثورات الربيع العربي لما يمثله الربيع من رمزية خاصة لرغبة الإنسان في الانتصار على الفناء والكآبة والقهر والموت والظلم والتجدد والانعتاق والخلاص والحرية. الحرية التي طالما تغنى وطالب بها الإنسان على مر العصور. وفي الحديث عن الثورات العربية والتجدد لا بد لنا أن نستعيد في 15 آذار-مارس الذكرى السنوية العاشرة للثورة السورية التي كانت امتدادا للغضب العربي الذي امتد واختمر في الأرض السورية حيث علت صرخة الحرية من مدينة درعا السورية. الصرخة التي دفعت بتاريخ سوريا الحديث إلى مرحلة جديدة وواقع جديد، واقع تجرأ فيه السوريون على الحلم والغضب والأمل بتحرير إرادتهم من كابوس الاستبداد والقهر والقمع السياسي، الثورة التي بدأها المتظاهرين بصرخات مدوية» يا حرية» إلا أن تلك المظاهرات السلمية جوبهت بقمع وعنف أمني وعسكري شديد، مما أدى إلى تحولها إلى ثورة مسلحة تدخل في ردهاتها قوى متعددة حرفتها عن مسارها الأصلي فقد كان لتدخل قوى وأطراف إقليمية وعربية حالت بين أمل السوريين وأحلامهم فتحولت الثورة السورية بعد سنين إلى حرب دولية بالوكالة، وجدت في الأرض السورية فرصة لتقاسم الغنائم و تحول مصير شعبها وصيحات شبابها الثائر وغضبهم السلمي إلى كابوس حقيقي يكابد فيه السوريون مرارة القتل والتهجير والسجون والتعذيب والمنافي. فنهر أدونيس الفينيقي مازال مصبوغا بالدماء ينزف وجعا وألما لا يشبهه أي ألم، وتبقى الفصول الأخيرة من نزيف الملحمة السورية في ردهات الزمن الآتي على أمل ربيع لابد أن يزهر يوما.

• معركة الكرامة:
في حضرة هذا الشهر تتوالى المناسبات والذكرى فتعيدنا أساطير الأولين إلى جذوة الأمل بانتصار طال انتظاره، انتصار ربما لم نلتقه يوما بالمعنى الفعلي. ففي ظل الحروب الخاسرة والمتكررة يأبى أن يمر إلا وأن يذكرنا بانتصار معركة الكرامة. الانتصار ربما هو الوحيد في تاريخ صراعنا مع العدو الصهيوني، حيث نتذكر في 21 آذار-مارس عام 1968 معركة الكرامة، المعركة التي انتصرت فيها المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني على قوات الاحتلال حيث تكبد الجيش الاسرائيلي خسائر كبيرة فقتل ما يقارب 250 جنديا صهيونيا و460 جريحا.

• يوم الأرض:
ويختتم آذار-مارس مناسباته المتعددة لترسو نهايته في يوم 30 آذار-مارس في ذكرى يوم الأرض الفلسطيني، اليوم الذي نهض فيه فلسطينيو الداخل في عام 1976 في أغلبيتهم الساحقة في احتجاجات عارمة ضد سياسية التهويد ومصادرة آلاف الدونمات من أراضي قرى عرابة وسخنين ودير حنا وأم الفحم الفلسطينية. الاحتجاجات التي أسفرت عن استشهاد ستة فلسطينيين وجرح المئات، مما دفع بفلسطينيي الداخل إلى النهوض والاحتجاج في كامل الأرض الفلسطينية من الجليل إلى النقب معبرين عن لحمتهم وصمودهم ضد سياسة التهويد والإلغاء ومصادرة الأراضي . يوم الأرض الفلسطيني الذي شكل حدثا محوريا في تاريخ القضية الفلسطينية، حيث أكد ومازال يؤكد فيه الفلسطينيون في ذكرى هذا اليوم من كل عام تشبثهم بأرضهم المحتلة وبحقهم في العودة إلى رحم الأرض التي ما زالت تنبت الحبق والزعتر وشقائق النعمان، معربين عن إيمانهم المطلق أن صراعهم مع الاحتلال الإسرائيلي لم تنته فصوله بعد، على أمل بتجدد ربيع مقبل في الأرض الفلسطينية الكنعانية التي سجلت أولى أساطير البعث والتجدد والبقاء.

كاتبة فلسطينية