«آلةُ الزمن» عنوان روايةٍ للبريطاني هربرت جورج ويلز (1866- 1946) وقد نُشِرَت عام 1895 وهي عملٌ من أعمال الخيال الجامح، وقد استهوَت الأطفال بشكل خاص؛ لكن الرواية تتحدث عن «الزمان- المكان» باعتباره بُعداً رابعاً. وتتحدث عن «مسافر الزمن» الذي صنع آلةً أو ماكِنة يستطيع بها أن يسافر إلى الماضي السحيق أو إلى المستقبل غير المنظور، بحدود ألوف بل ملايين السنين. وفي الحالتين يصف الكتاب وجوهَ الحياة وأنواع المخلوقات في الماضي والمستقبل. لكن الذي يهمّنا هنا هو «فكرة» صورة المستقبل التي يمكن لهذه الآلة أن تعرِّفنا بها، فلو تيسّر لنا ذلك لكان سلوك الإنسان في حاضره يتميّز بمزيد من الحذر والاستعداد لما سيحدث له في عالمه المقبل. لكن عدم توافر هذه الصورة يوقع الإنسان في براثن التشاؤم أو الندم في أقل تقدير.
أليس من باب المفارقة، بل المفارقة الساخرة، أن تُذكِّرنا فكرة هذه الرواية، بعيدة الشقّة عن ظروف عالمنا العربي الحاضر، بحسراتِ المتنبّي الكبير، الحاضر في الذهن في جميع الفصول وفي جميع المناسبات؟ «ما كنتُ أحسبُني أحيا إلى زمنٍ/ يُسيء لي فيه (عِلجٌ) وهو محمودُ!» مع الاعتذار الشديد من روح المتنبي لهذا التحريف من «عَبدٌ» إلى «عِلجٌ» فكلاهما آبِقٌ غريب، وكلاهما غاصبٌ مُحتل. هل كان كافور الإخشيدي غير غاصِبٍ من غير طينة أهل البلاد، الذين أعماهُم الطمَع والخوف فسَعَوا للتقرّب من الحاكم الغريب الغاصب؟ ما أشبه الليلةَ بالبارحة، قالها طرَفةُ بن العبد في أيام الجاهلية. وحسرةُ المتنبّي هذه لها مقدمة: «أتى الزمانَ بَنوهُ في شبيبتِه/ فسَرّهُم وأتيناهُ على الهرَمِ» وأحسب أنه أراد أن يُكمل: «فساءَنا» وترك لخيال القارئ أن يرى ما أضمره الشاعر، وإلاّ فما السبب في المقابلة بين الشباب والهرم؟
أليست هذه صورة الشعب العربي في ماضٍ له كان يُسابق فيه نحو العزّةِ والكرامة وبين حاضرٍ له يتسابق فيه بعضُهم نحو المَذلَّة والمَهانة، ويستعذبون ذلك بل يحبّونه، ويقيمون للعدو الغاصب منازلَ لها في القلوب منازلُ، يقدّمون فيها لأولئك العلوج ما يطلبون من طعام تقرّره ديانتهم، بل يقيمون لهم معابد يمارسون فيها ما تقرّره تلك الديانة. وهل بعد تلك المَذلة من مَذّلة؟ والسؤال الغرير هنا: هل أن أولئك الأعراب الأشد كفراً ونفاقاً ما يزالون على جهلهم القديم بعد أن صاروا بلاد نفطستان، وفي روايةٍ بلاد بقرة حلوبستان، وصار عندهم مدارس وجامعات هي في الأساس من عمل شعبٍ إنقلبوا الآن ضده، وصار عندهم الآن شهادات عليا هَودَجية، إشتروها في الغالب من دكاكين جامعية في الغرب، أو في بعض بلاد العرب أوطاني، وصار يظهر زيف ما ادّعوا أنهم تعلّموه في ما يصدر عنهم من تصرّفات وبيانات في الشؤون العامة لبلادهم أو لما يجري في بعض بلاد العالم. وقد يقول غريرٌ آخر إن تصرّفات بعض زعماء آخر زمان في الانبطاح أمام عدوّ الأمس وصديق اليوم هو من باب الحفاظ على مكتسباتهم في المناصب والرياسة. وقد قالها صاحبُهُم الأكبر، بالفم المليان: لولا حمايتنا لكم لما بقيتُم على «كراسيكُم» اُسبوعاً أو بعض أسبوع، فكان جوابهم إستقبال حامي الكراسي برَقصة السيف الذهبي… يا أُمّةً فَعَلَت في وجهها الأُمَمُ! ولكن ما الداعي إلى هذا الانبطاح وهُم سوف يصِلون إلى التمَريُس حسب نظامهم في الوراثة والتوريث في حدود القبيلة أو الأسرة؟ ولماذا هذا الإقبال الهستيري على شراء أحدث أنواع الأسلحة وأشدّها فتكاً، وضد أي عدوٍّ يريدون استعمالها، لواستطاعوا أن يتعلّموا كيفية استعمالها، أو يستأجروا من بلاد واق واق من لا يعنيه أن يَقتل الألوف من أقارب زعماء السياسة الحَلوب إذا كان ذلك «يدُرّ» على أولئك المرتزقة مالا يتيسّر لهم في بلاد واق واق؟ أم تَرى في هذا التساؤل تجاوزاَ للحدود؟
لا أحسَبُ أن تذكُّر يوم جئنا الزمانَ في شبابه عرَضٌ من أعراض الشيخوخةِ لن يلبث حتى يزول. فعربي اليوم غير الملوَّث بأدران السياسة والحزبية والطائفية يرى الأمور بصفاء لا يعرفه من كان غير ذلك. نحن أمام عدوّ – صديق يريد أن يَبيعنا الماء مقابل الكرامة، ونحن في بلاد تجري من تحتها الأنهار. لكننا نستقبل صديق اليوم ونقوده إلى أكبر جامع في البلاد، يدخله دون أن يخلع نعليه، لأنه لا يعرف معنى احترام المساجد، أو أنه يتجاهلها عمداً، ويكفي أنه/ أنها ترتدي الثوب العربي الإسلامي. ماذا نسمّي هذا التصرُّف وأنا «بي ما أنوء به/ وقد سمّيتُ حتى الغَيب/ لكنّ الذي بي لا يُسمّى» كما قال شاعرنا الكبير عبد الرزاق عبد الواحد. وكأن عدوّنا الصديق لم يشبع من وجبة المشرق العربي فتوجّه نحو المغرب العربي يريد أن يُثير الأخ ضد أخيه. كيف يقرّ لعدوّنا الصديق أي قرار وهو يعرف أن من بلاد المغرب ثار شعبٌ يقاتل الأجنبي المُحتل أكثر من 130 سنة حتى بلغ استقلاله والتخلّص من المستعمر، وما تزال الروح القتالية ونُصرة الوطن حيّةً في بلاد المغرب العربي؛ فكيف السبيل إلى إطفاء جذوة الوطنية والعروبة في تلك البلاد؟
وآخر أمثلة العبقريات الانبطاحية محاولةُ زعماء آخر زمان مساعدة العدو – الصديق في الوصول إلى مؤسسات دولية مهمة، ليستطيع من خلال المركز «المرموق» تقديم خدمات إلى عدوِّنا الذي ما يزال عدوّنا، وذلك خدمة للديمقراطية، ودفاعاً عن تصرّفات العدو – الصديق التي لا يفهمها عامة الناس. والسبيل إلى ذلك دفع الزعماء الجدد حديثي العهد بالسياسة، التي تعني في تراثهم العربي «سياسة الخيل» فيجب أن يتعلموا تطبيقها على البشر. والطريق إلى ذلك ميسور، وهو تقديم «شويّة فلوس» إلى بعض الجهات التي لا يعنيها هلاك ألوف من البشر في الجانب الآخر من العالم المتحضر لكي يبقى من يستحق الحياة في مأمن من الإرهاب الذي يُمثله مخلوقات العالم الثالث-عشَر!
ويقول المدافعون عن الديمقراطية، زعماء السياسة في هذا الزمان اللا يُسمّى، إنهم غير معنيّين إن كان قابيل هو الذي قتل أخاه هابيل، لأن التاريخ يُعيد نفسه، وقد نشهد هذه الإعادة في عصرنا المتحضِّر هذا «أأنا المُوكَّل وَيحَكم بأخي!» يصرخ السيّاب من تحت طابوكات قَبرهِ المُتهالك في مقبرة الحَسن البصري في الزبير بظاهر البصرة. ولا من مُجيب.
بعد هذه المعرفة، أيّان الغُفران، يقول إليوت، وأنا لا أتعبُ من تكرارها، ولكن لا حياةَ لمن تنادي. وفي روايةٍ: «لا حياءَ لمن تُنادي».
تحياتي للكاتب الكبير عبد الواحد لؤلؤة.هذه أول مرة ، أقولها بصدق ، أقرأ لحضرتك هذا ( العنفوان ) القومي الأصيل.
وحسبت أن الغربة جعلتك البعيد عن هموم الأمة والعراق.