لوس أنجليس- “القدس العربي”: عندما دخل الممثل الأسطوري، آل باتشينو، غرفة المقابلة في فندق الفور سيزنس في جادة بيفرلي هيلز، حيا الحضور بصوته العميق وصاح «إنه يوم جميل!» فعلا.
هذا النجم العالمي إبن التاسعة والسبعين، ما زال مفعما بحيوية شاب في العشرين. وذلك أيضا ما نلاحظه في فيلمه الأخير، «الإيرلندي»، حيث تم تصغيره لجيل الأربعين من أجل أداء شخصية رئيس اتحاد العمال الأمريكي الشهير، جيمي هوفا، منذ الخمسينيات، عندما تسلم رئاسة الاتحاد، حتى اختفائه في منتصف السبعينيات.
الفيلم يتمحور حول علاقة هوفا مع المافيا، التي تورط معها في عمليات نصب واحتيال وبلطجية منذ بداية فعالياته في إتحاد العمال، لكي يثبّت سلطته على أعضاء الاتحاد.
وعندما يتسلم جون أف كينيدي رئاسة الولايات المتحدة أوائل الستينيات تقوم حكومته بالتحقيق مع هوفا حول أنشطته المشبوهة.
وفي عام 1964 يُحكم عليه بالسجن لمدة ثلاثين عاما. لكن بعد خمسة أعوام، يخرج هوفا من السجن بعفو من الرئيس نيكسون، ويحاول العودة الى زعامة الاتحاد، رغم معارضة المافيا.
أسرار فيلم «الإيرلندي»
«هوفا ظهر في العشرينيات والثلاثينيات، حينما كانت عمالة الأطفال سائدة»، يعلق باتشينو. «كان مراهقا عندما صار يحاول الدخول الى الاتحاد وسرعان ما أصبح الاتحاد حياته وقضيته. وبالطبع اختلط بأناس خطيرين. وهذا كان من أجواء الاتحاد. وحتى عندما زُج في السجن، حيث مكث 5 أعوام، نظّم السجناء وقام بتعبئتهم، إذ لم تعجبه الطريقة التي كانوا يعاملون بها وكيف كانوا يعيشون. واستمر بذلك بعد خروجه من السجن. فكان لديه ميل الى جمع الناس، خصوصا الأشخاص الذين كان يُستغلون، لا سيما الطبقة العاملة. كان ذلك أمراً حقيقيا يؤمن به وكان يشغفه وكان دليله».
هوفا كان من أشهر الشخصيات الأمريكية وأكثرها نفوذا، وما زال اختفاؤه الغامض عام 1975 مثار جدل في الولايات المتحدة.
وقد طرحت عدة نسخ عن سيرة حياته في مسلسلات تلفزيونية، فضلا عن فيلم «هوفا»، حيث جسده جاك نيكلسون عام 1992.
لكن في «الإيرلندي» تسرد قصته من وجهة نظر رجل العصابات، فرانك شيران، الذي التقاه في الخمسينيات، واتخذه صديقا له ووسيطا بينه وبين المافيا الإيطالية. شيران، يسرد الأحداث في كتاب سيرة حياته «سمعت أنك تطلي المنازل»، الذي يّدعي فيه أن المافيا أجبرته على قتل هوفا.
«كنت أعرف عنه أثناء نشأتي، وكنت أعرف أنه ثاني أقوى شخص في الولايات المتحدة بعد الرئيس. وعلمت من أبحاثي أنه كان يهتم كثيرا بالعمال وتوفير فرص لهم للازدهار والحصول على أكثر مما كان يحصلون عليه».
باتشينو حقق نجوميته العالمية بأداء دور شخص أيضا ذي نفوذ خارق، وهو زعيم عائلة المافيا مايكل كورليوني في فيلم «العراب» عام 1972، ونال عنه أول ترشيح للأسكار. ورُشح للجائزة عن الدور نفسه في «العراب الثاني» عام 1975. وعاد ليلعب الدور في العراب الثالث عام 1990.
ويعتبر تجسيد باتشينو لكورليوني أحد أفضل الأداءات في تاريخ السينما.
«هل تتذكر أمراً قاله الممثل العظيم تشارلز لوتون من فيلمي، «أحدب روتردام» وهنري الثامن؟» يسأل باتشينو. «السر في أن تكون ملكا هو أن تتأكد أن الجميع من حولك يعاملك كملك. عندئذ تصبح ملكا، تدخل إلى غرفة ما فيفتحون لك الباب وعندما يفعلون ذلك فإنك تشعر بأنك ملك».
لكن مثل هوفا، الشخصيات النافذة التي جسدها باتشينو كانت معقدة ومثيرة للجدل وغالبا من عالم الاجرام، على غرار مايكل كورليوني وتاجر المخدرات طوني مونتانا في فيلم «سكارفيس». ومع ذلك نجح في أنسنتها وجعل المشاهد يتماهى معها.
«لكي يتفاعل الجمهور مع الشخصية عليك أن تقدم لهم أمراً قد يعجبهم أو بإمكانهم أن يقبلوه ويشاهدوه وهو بمثابة إطار يحيط بالشخصية»، يوضح الممثل العريق. «تلك الخصائص الإنسانية التي تضحكك. وربما أقوم بذلك بدون وعي. لا أفكر بالأمر بشكل واع، ولكن آمل أن تتسرب إلي. فقط تعرفت على هوفا من خلال المعلومات الموجودة عنه. عندما أقرأ عن شخصيته وأفكر في ذلك، أعتقد أنه كان يشبه جميع الرجال والنساء الأقوياء، الذين لديهم ميزاتهم الفريدة وأطوارهم الغريبة واحتياجاتهم، ولدى الكثير منهم جانب طفولي في داخلهم. وعندما تتعمق قليلا في ذلك يصبح الأمر مثيرا للاهتمام كثيرا. انظر كيف يحب هوفا فرانك. فشعوره تجاهه له دلالاته. لكنك في الحقيقة تضيف نسختك عن هوفا الى نسخة المؤلف ونسخة المخرج مارتن سكورسيزي. لذا إنها مقاربة ثلاثية للشخص».
من المفارقات أنه رغم أن مارتن سكورسيزي وآل باتشينو وُلدا في نيويورك لعائلات مهاجرين إيطاليين من جزيرة صقلية، إلا أن فيلم «الإيرلندي» هو أول عمل يجمع بينهما.
وفي حديث مع سكورسيزي، قال إن باتشيو انضم الى طاقمه بعد عدة أسابيع من بداية التصوير وكان جاهزا لدرجة أنه لم تكن هناك حاجة لاداءات تجريبية. «لحسن الحظ كان هناك الكثير من المعلومات عن جيمي هوفا»، يعلق سكورسيزي، «فيلم وثائقي وتسجيلات الفيديو والخطابات والصور. وعلمت أنني إذا وجّهت باتشينو في ذلك الاتجاه وأعطيته المواد البحثية الصحيحة فسيتفاعل معها. وعندما يأتي إلي ليخبرني أمراً ما عن هذا الوثائقي أو ذاك أو أحد المشاهد فأتابع الأسئلة التي طرحها وأرى ما إذا كنا على المسار نفسه. لكنه لم يقل أي شيء جعلني أشعر أن لديه مفهوما مختلفا للغاية عن الشخصية أو أنه كان سيقلد الشخصية. بل كان يستخلص جوهر الشخصية».
باتشينو يقرّ أن توفر المعلومات عن هوفا ساعدته في بناء شخصيته. «هذه هي المتعة في أداء هذا النوع من الشخصيات، لأنك تجمع كل المعلومات عنها وتفكر بها وتلخصها. وتحاول تركيب فسيفساء خاصة بك لهذه الشخصية. وبالرغم من أننا ننساها في لحظتها، لكنها تبقى حاضرة في ذهنك».
شخصية فرانك شيران
كما يعترف سكورسيزي أنه في النهاية وثق بباتشينو وصديقه روبرت دينيرو، الذي يجسد شخصية فرانك شيران. «كان ممتعا أن تشاهدهما يتفاعلان معا، وذلك بفضل صداقتها المهنية»، يعلق المخرج العريق.
علاقة الصداقة الحميمة بين باتشينو ودينيرو بدأت منذ أن التقيا في أوائل الستينيات في بداية مسيرتهما المهنية. ومع أن كلاهما شارك في بطولة «العراب الثاني»، إلا أنهما لم يتشاطرا الشاشة الكبيرة إلا مرتين قبل تعاونهما في «الإيرلندي». المرة الأولى كانت في فيلم مايكل مان «حرارة» عام 1995. والمرة الثانية كانت في فيلم «قتل مبرر» عام 2008. لكن سكورسيزي ومان صرّحا أن كلا من الممثليّن العملاقين يتخذ نهجا مختلفا عن الآخر في تقمص الشخصيات. باتشينو يحضر لدوره أسابيع قبل بداية التصوير ويفضل القيام بأداءات تجريبية، أما دينيرو فيفضل أن يكون عفويا.
«هذا صحيح»، يرد باتشينو. «أحب أن أفعل أدوارا تتطلب وقتا طويلا، حتى أتشربها وأؤديها. أما روبرت فمهما فعلت فهو موجود ويعيش اللحظة بشكل تام. وهذا ما تفعله طوال الوقت. أيا كان ما تفكر فيه، تقوم بالكثير من الأشياء باستمرار والهدف من ذلك هو أن تصل إلى اللاوعي. وعندما تكون في اللاوعي تكون حراً، لأن اللا وعي يقوم بالعمل لك. وهذا هو السبب الكامل لاجراء البحوث، وما إلى ذلك ثم الانتظار. عليك الانتظار حتى يأتي كل شيء ويتكامل».
باتشينو يعتبر أحد أعظم الممثلين، ليس في السينما وحسب، بل أيضا في التلفزيون والمسرح، وكّرم بأهم جوائزها: كالأوسكار، والـ«غولدن غلوب»، و»الايمي» و»توني» وغيرها من الجوائز المهنية والتقديرية القيمة.
أما في «الإيرلندي» فقد بهر النقاد بأدائه الرائع، ويتوقع أن يحقق ترشيحا تاسعا للأوسكار هذا الموسم.