كان أروع ختام يليق بسيرة المقاوم الأسطوري الشهيد يحيى السنوار، كانت قذائف الرصاص والمدفعية والدبابات «الإسرائيلية» مزقت وقطعت ذراعه، فالتقط بذراعه الأخرى النازفة عصا خشبية صادفت جواره، ورمى بها مسيّرة العدو، التي كانت تصور وتنقل لحظاته الأخيرة في هذه الدنيا، وذهب في نزعه الأخير إلى ما هو أبعد من خيال شاعر فلسطين محمود درويش في رائعته «مديح الظل العالي»، كان درويش قد كتب قصيدته الشهيرة وقت حصار بيروت واقتحامها «إسرائيليا» قبل أكثر من أربعين سنة، وافتتح قصيدته على نحو صادم آسر «سقط القناع عن القناع عن القناع / سقط القناع / لا إخوة لك يا أخي/ لا أصدقاء يا صديقي ولا قلاع / لا الماء عندك لا الدواء ولا السماء ولا الدماء/ حاصر حصارك لا مفر/ سقطت ذراعك فالتقطها/ واضرب عدوك».
ولست أعرف إذا كان السنوار في حياته ذات الستين والعامين، كان يحب شعر درويش بنزعته القومية اليسارية، وقد هاله غياب العرب الكلي الفاجع عن حرب بيروت، وإن كنا نعرف أن السنوار ـ الإسلامي ـ وجد نفسه وحيدا في غياب عربي أشد هولا وفجيعة، وكأنه لقي ذاته في قصيدة درويش» سقط القناع/ ولا أحد إلاك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان/ فاجعل كل متراس بلد/ لا.. لا أحد/ سقط القناع / عرب أطاعوا رومهم/ عرب وباعوا روحهم/ عرب وضاعوا»، كان درويش يستدعى إشارة «الروم» كناية عن العدو «الإسرائيلي» والأمريكي والغربي عموما في عصرنا، وكان مثله الشعري الأعلى أبو الطيب المتنبي، ولا بد أن السنوار كان يعرف المتنبي وشعره الخالد وسيرته الدرامية إلى مقتله، ولا بد أنه كان يحفظ بيت شعر المتنبي «وسوى الروم خلف ظهرك روم/ فعلى أي جانبيك تميل؟»، عاش السنوار حرفيا خيال المتنبي ووصفه البليغ، ومال إلى نفسه لا إلى أحد آخر، واختتم حياته بقتال الست ساعات مع كتيبة إسرائيلية كاملة، أحاطت بمبنى نزح عنه أهله في حي «تل السلطان» غرب رفح، ولم يكن مع السنوار سوى مسدسه المغتنم من لواء «إسرائيلي» مهزوم في خان يونس، مع قنابل يدوية ملأت جيوب سترته العسكرية، ورفيقين من رجاله، قرروا بلا تردد خوض معركة غير متكافئة إلى نهايتها، وسلاحهم الفتاك لا شيء، سوى حلم الاستشهاد، الذي داعب مخيلة السنوار منذ كان طفلا وابن أسرة فقيرة في مخيم خان يونس، هجّروا أباه من مسقط الرأس الأصلي في عسقلان خلال حرب 1948، ومسحوا دفاتر ذكرياته، وزوروا اسم عسقلان إلى «أشكلون»، ونزح جنوبا إلى حيث ولد يحيى وعاش، وأكوام الفقر والقهر والنزوح فوق قلبه، تماما كأغلب أهل غزة، الذين عانوا المرارة وأثقالها، وخرجت من صفوفهم أصلب حركات المقاومة من زمن «فتح» وأخواتها إلى حماس وأخواتها، لكن السنوار كان أمة وحده، ورغم قضائه أغلب سنيه في صفوف حركة حماس، فلم يلعب أبدا دور الداعية الديني، ولا اكتفى بوعظ الأحاديث والآيات، بل جعل من سيرته الشخصية آية تتلى، وفي اللغة العربية التي درسها السنوار، وحصل بها على شهادة البكالوريوس من «الجامعة الإسلامية» في غزة، فإن معنى كلمة «آية»، أنها العلامة والأمارة أي الدليل والمعجزة والبرهان، كما في قوله تعالى في سورة فصلت «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد»، وقد كان الناس مع الله شهودا وشهداء على كفاح السنوار صبيا وشابا ورجلا، عبر سن الستين، من دون أن يفقد نضارة وحماسة روحه، وذكائه المتقد وجرأته اللامتناهية، وإخلاصه العارم في طلب الاستشهاد على يد عدوه وسارق وطنه، وأعلنها مرارا وتكرارا على رؤوس الأشهاد.
أحيا يحيى السنوارالحق الفلسطيني بحضوره العاصف، ويحيي المقاومة الفلسطينية بغيابه الملهم، ويرمي بعصاه التي تلقف ثعابين الصهاينة و»الروم»
وقبل سنوات، وفي لقاء حضره عقب معركة «سيف القدس» أواسط 2021، تحدى السنوار وزير الحرب «الإسرائيلي» وقتها الجنرال بيني غانتس، أن يقتله، وأعطاه مهلة ساعة، يمشى فيها وسط الناس إلى بيته، ولم يقتل السنوار وقتها، رغم قصف منزله وتدميره في حرب «سيف القدس»، كان السنوار يمشي آمنا مطمئنا لأنه طهر غزة وقتها من جواسيس وعملاء «إسرائيل»، وفي سنته التاسعة والخمسين، خاطب العدو في الحفل المشار إليه آنفا، وكرر أمنيته بالاستشهاد على يد عدوه وعدو الله، وقال نصا «أتمنى أن أقتل بصاروخ إسرائيلي أو بقصف طائرة إف ـ 16، ولا أريد أن أموت بكورونا ولا بسكتة قلبية أو دماغية»، ولأن السنوار كان قد أخذ طريق الشهادة إلى آخره، فلم يك يخشى شيئا، ولا يضيع ثانية من وقته، وكان المثال الأرقى المعبر عن شعار (جهاد جهاد/ نصر أو استشهاد)، درس لغة العدو العبرية، وأتقنها كأهلها، وراجع سير مؤسسي هذه «الإسرائيل» وقادتها، من ديفيد بن غوريون» إلى مناحيم بيغن إلى إسحق رابين وبنيامين نتنياهو، وقضى في سجونهم عشرات السنين، من دون أن يبتسم قط في وجه «إسرائيلي» أيا كان، وعرف نقاط القوة والضعف في كيان الاحتلال، وخدعهم جميعا لسنوات إلى أن كانت مفاجأته الصاعقة في السادسة والربع صباح 7 أكتوبر 2023، وعبرت قواته من فلسطين إلى فلسطين في عصفة عين، وألحق بالعدو إذلالا لم يصادفه في تاريخه منذ حرب أكتوبر 1973، ثم خاض أطول وأعنف حرب في تاريخ الصراع مع «إسرائيل»، ومعها أمريكا وكل دول «الروم» المعاصرة، ومن دون أن يرمش له جفن، أو تنزل يده عن الزناد طوال عام وأكثر، ولا أن يمكن منه عدوه أبدا، ولا أن تتسرب معلومة وحيدة صحيحة عن مكان وجوده، رغم الفوارق المهولة في الإمكانيات والسلاح والتكنولوجيا لصالح العدو، وساح من مملكة الأنفاق إلى الشوارع وعقد القتال في المباني المهجورة، إلى أن كانت نهايته كمقاتل، أصيب وفاضت روحه، لا كأسير حرب، ولا كضحية اغتيال مخطط، بل بمصادفة فدائيته إلى الرمق الأخير، وبعصاه التي ذهبت مثلا موحيا في تاريخ الكفاح من أجل الحرية، وبصورة فاقت بمراحل مثال المناضل جيفارا، الذي قتلوه بوشاية من راعي غنم في غابات بوليفيا.
وأطفأ السنوار فرحة «إسرائيل» حتى بمقتله، وشاءت أقدار الله أن تنتصر للبطل الماسي الفريد، وأن تخلد آيات عظمته بكاميرات أعدائه وأعدائنا، وفي «فيديوهات» بدت كأنها أعظم فيلم سينما في التاريخ، فلم تكن «إسرائيل» ولا مخابراتها ولا تكنولوجيات «الروم» جميعا، تعرف أن السنوار ستؤاتيه الجرأة، ويذهب إلى ميدان قتال، وذهب عقلهم من هول المفاجأة، ومن صور كاميرات مسيرة الاستطلاع المتطورة، التي كشفت وجه وهيئة وجثة رجل يشبه السنوار في ملامحه، وفي اليوم التالي بعد أن سكت إطلاق النار من السنوار ورفيقيه، ذهبوا ليروا السنوار رأي العين لا عبر الكاميرا، وقطعوا إصبعه لإجراء الفحوصات اللازمة، وحتى أعلنوا التأكد من مقتله بطلقة رصاص في الرأس، كان السنوار قد أغمض عينيه راضيا بنوال نعمة الشهادة، وفي شهر أكتوبر ذاته الذي شهد مولده وطوفانه واستشهاده الجليل، وعلى نحو جعل الأعداء أنفسهم، يعترفون بتفرده الفدائي الأنبل، فقد زحفت القصة الأكثر إثارة إلى صدارة صحف وإعلام الغرب وكل «الروم»، وجعل الدنيا كلها تعترف بأن السنوار ذهب، وترك للأمة وفلسطين مئات الآلاف من «السنوارات» خلفه، يفخرون باسمه المستولد في اللغة من النور والنار معا، ويهتدون بسيرته الباهرة، ويعلقون صورته المتحدية للظالمين على صدورهم وفوق أغطية الرؤوس، فحتى لحظة رحيله الدامي، أعجز السنوار مخابرات الكرة الأرضية كلها، وهزم بميتته المذاعة جيش الاحتلال وأجهزة استخباراته وتكنولوجياته، وكان ذهابه على هذا النحو، أكبر هزيمة يلحقها بالعدو منذ «طوفان الأقصى»، وتخطئ «إسرائيل» لو اعتقدت، أن احتفاظها بجثته يمنحها ورقة مساومة، فقد تحرر السنوار من جسده، وانطلقت روحه العنيدة التقية النقية في رحاب ربه، وارتقى مع شهداء شعبه إلى حيث الأحياء الذين هم «عند ربهم يرزقون»، وما من أمة تعرف قدر الشهادة كهذه الأمة، التي يرزقها الله شهداء عظاما، ينيرون لها سبيل الحرية، ويرفعون الغشاوات عن الأبصار فإذا هي اليوم حديد، تماما كالشهيد الحديدي يحيى السنوار، الذي أحيا الحق الفلسطيني بحضوره العاصف، ويحيي المقاومة الفلسطينية بغيابه الملهم، ويرمى بعصاه التي تلقف ثعابين الصهاينة و»الروم»، وعرب الجيفة الذين أطاعوا رومهم و»إسرائيلهم»، شاهت الوجوه وخسئت النفوس الوضيعة.
كاتب مصري
ماشاءالله ،مقال في القمة.سلمت يداك
بارك الله فيك.
أحسن و الاجود ما قراءت في ما يخص الشهيد الأمة الإسلامية يحي السنوار
استاذ قنديل …الظاهر ان جراحك لم تندمل بعد!
ما شاء الله! لا فض فوك دكتور عبد الحليم على هذا المقال الرائع الذي تنتصر فيه لبطل الأمة يحي السنوار، وتنتصر فيه للمقاومة الباسلة، بل وتنتصر فيه للإنسانية المجاهدة لكل مغتصب ومحتل. أنسيتني بهذا المقال تباعداً فكرياً ظل قائماً طوال عقود والآن أدعو لك لهذه المواقف الشجاعة المنتصرة للحق منذ بدء الطوفان حتى يومنا هذا باللقاء المباشر وبالقلم. كما أثني عليك معالجتك الموضوعية للحرب في أوكرانيا. أقول جزاك الله خيراً.
كفيت ووفيت أأستاذنا ألكبير عبدألحليم قنديل، . سعدت جدا بمقالك ألذى أعطى ألرجل ألمغوار، فخر فلسطين وألعروبة جمعاء. ما يستخقه من تقدير وإحترام. ألسنوار كان رجل إستثنائى فى قضية فلسطين وما تعرضت له من إهمال من بعض ألزعماء ألعرب