أبونا نجيب محفوظ

ساستعير العنوان الذي أبدعته الروائية والشاعرة سلوى النعيمي في حوارها مع نجيب محفوظ، والمنشور في «ماغازين ليتيرير» الفرنسية، العدد 251 بتاريخ مارس/ آذار 1988، وعنوانه: « نوترْ بيرْ نجيب محفوظ»، «أبونا نجيب محفوظ». يعيدني هذا العنوان إلى فترة الشباب في مدينة الحسكة، في الجزيرة السورية، على أطراف بادية الشام. كنا ثلاثة شبّان، عوّاد وهشام وأنا. أحدنا في الحزب الشيوعي، والآخر في الحزب القومي الاشتراكي، والثالث قريب من اليسار، ولكنه غيرُ متحزّب. كنا نهتم بالأدب، والشعر بشكل خاص، كما كان سائداً في تلك الحقبة. نقرأ بشغف ونَهَم كل ما يقع بين أيدينا. ذات يوم جاءنا هشام، وهو واحد منا، يحمل رواية جديدة، ويقول: هذه ستجعلكم تنسون كل ما قرأتموه من قبل. الرواية كانت: «بين القصرين»، وهي الجزء الأول من ثلاثية نجيب محفوظ، وكانت قد صدرت عام 1956.
فعلاً، نقلتنا تلك الرواية من حال إلى حال. جعلتنا نتجاوز جمالياً وأدبياً ما كنا قرأناه من روايات قبلَها. إنها السحرُ الأدبي الذي مسّنا كما يُقال. وغدونا، بعدها، نمر مرور الكرام على كُتّابنا الأوائل، الذين كانوا، منذ أيام قليلة، يستأثرون باهتمامنا. ومنهم، على سبيل المثال، حنا مينه، وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، وآخرون غيرهم كانوا يشكلون النخبة الإبداعية، آنذاك.
بتأثير «بين القصرين»، وما تلاها لنجيب محفوظ، اتخذت قراءاتُنا وجهةً أخرى لم نكن نعرفها في السابق، لكأننا كنا في دائرة مغلقة، أدبياً، وفجأة انكسر الجدار، وبدأنا نرى العالم من زاوية جديدة.
هذه المقدمة الصغيرة، فقط، لكي أقولَ إن نجيب محفوظ، بالنسبة لي، هو فعلاً «أبو الرواية العربية الحديثة». لكنني استعمل، اليوم، هذه الصيغة: «أبو الرواية العربية» بالمعنى الديالكتيكي، أو النقدي المتَطَوّر، إذا أردنا الدقّة، وليس بالمعنى الفرويدي، أو السُّكوني الذي تجاوزته أغلب الدراسات الإنسانية المعاصرة.
نحن لا نتكلم، هنا، عن مفهوم «الأب» المثُبِّط، أو المسيطِر، الكابح للمبادرات والرغبات، واللاجم للإبداع، وإنما عن مفهوم «الأب الثقافي» المحرِّر للنزعات المبدعة والأهواء، والمحرِّض على التمرّد، حتى. الأُبوّةُ، من هذه الزاوية، لا تعني بالنسبة إليّ، الديمومة، أو الاستمرار، أو السيادة، وإنما هي تعني، في رأيي: «المعْيار». نجيب محفوظ، إذن، هو معيار أساسي من معايير الكتابة الروائية العربية الحديثة، أو هو أحد معايير هذه الكتابة إذا أردنا الدقة. ومهمتنا نحن أن نستوعبه، وأن نتمثّله، من أجل أن نتجاوزه، من ثمّ، إلى مناطق إبداعية أخرى لم تكن ممكنة، أو حتى مطروحة، في عصره. الأبوة الثقافية بهذا المعنى استحقاق جليل، لكنه عابر، أو عليه أن يكون كذلك. وهو عابر لأنه يحمل في بنيته الإبداعية الخلاّقة، عواملَ تجاوزِه، وضرورةَ هذا التجاوز، وإلّا تحوّل إلى إرث ثقافيّ لا يحتمل. فالثقافة، وبالتالي لغتها، ليست كمية محددة، وماهيتها ليست ثابتة، ولا هي ممنوحة بشكل نهائي، وإنما هي فضاء معرفي حيّ كالبحر المحيط. كل ما يمكن أن يفعله الكاتب المجدد هو البحث في هذا المحيط، كما فعل من قبل آباؤنا المبدعون الكبار من وزن نجيب محفوظ، عن أدوات تعبيرية خلاّقة تُنير الزوايا المجهولة في الذات وفي المجتمع، وتقوم بتحريض مخيلتنا الإبداعية. هكذا، قد تساعدنا الكتابة على التطوّر، وتدفعنا نحو تغيير الواقع السقيم الذي نعيش فيه، اليوم، أو على الأقل تُساهم في فضحه، وإعلان الاستياء منه.
أن تكون، مثل نجيب محفوظ، معياراً في حقل الأدب والإبداع، ليس عتبة للتقديس، إذن، وإنما للتجاوز والتطوّر والتغيير. وكيف يمكن لنا أن نفعل ذلك؟ أوليس اللغة هي وحدَها الوسيلة الممكنة بين أيدينا؟ بلى! من دون لغة جديدة مفعمة بتصورات خلاّقة، لا يمكن لنا أن نفعل شيئاً مفيداً في مجال الأدب. وفي النهاية، لغةُ الروائي هي عنصر أساسيّ من عناصر تصوّره الشخصي للعالم. وهي، كما في حالة نجيب محفوظ، المعيار الوحيد الذي يجعلنا نقبله، أو نغض الطرف عنه، ونهمله.

٭ روائي سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    عزيزي خليل اصبت في قولك عن كاتبنا الكبير نجيب محفوظ. وحرمك المصون سلوى النعيمي أبدعت في عدة اعمال وانت ايضا رغم أنك طبيب جراح لكن اسمك في الأدب طغى على مهنتك كطبيب. بوركت

  2. يقول دارا هادي احمد:

    نجيب محفوظ ابونا وامنا والاخ و الاخت وكل الاقرباء

  3. يقول المراقب الأول:

    خلط واضح بين مفهومي الديالكتيك والسكون من جهة، وبين مفهوم فرويد النظري وتطبيقه العملي فيما يتعلق بالمفهوم الأخير من جهة أخرى

  4. يقول راوية بربارة:

    مقالة مهمّة ووجهة نظر صحيحة

اشترك في قائمتنا البريدية