لم يتعرض شاعرٌ عربي لمثل ما تعرض له أبو نواس من التحامل والشائعات، وكان بطل قصصٍ يتداخل فيه الخيالي بالواقعي. ونُسجت أكاذيب كثيرة حول حياته لدرجة لا يقترن اسمه إلا بصورة ذاك الشاعر اللوطي، الذي يتحرك بضفيرة طويلة بين القبائل؛ يمدح الخلفاء ويشرب الخمر ويتغنى بها. وهي الصورة النمطية تقريبا التي يحملها كثيرون، بمن فيهم طلاب الأدب في الجامعات، عن الرجل ويضيفون لها شيئًا من عندهم. ويتماهى مع هذه الصورة رسامو البورتريه بمخيلاتهم عندما يقدمون الرجل بعيون مقلوبة ولحيةٍ منفوشة. فيما لم تسلم مدونته الشعرية من التشويه، حين نسبوا له أشعارا كثيرة كلها في المجون والخمر.
مأساة أبي نواس، واسمه الحسن بن هانئ، أنه عاش في عصرٍ كانت فيه الثقافة الشفهية في مختلف أدبيتها ومكوناتها المعرفية هي السائدة، وكانت القبيلة بأعرافها وتقاليدها الصارمة هي السلطة الأولى، التي بموجبها ينتظم الناس في طبقتين: الخاصة وتوابع الخاصة. وكان شرف الفرد يقترن بشرف الجماعة، بينما كان هو متبرما من القيود وخارج الضبط الجمعي، ولا يعنيه غير شرف القصيدة. كان عاشقا للحرية بشكلٍ ما، ومتمردا على المألوف وعلى القيم العربية المتعارف عليها. من هنا يبدأ سوء فهم أبي نواس الذي ولد في مدينة الأهواز في إيران، وقد توفي أبوه وهو صغير ونشأ يتيما في حضن أمه التي انتقلت به إلى البصرة وهو في سن السادسة، ليتردد على شيوخ اللغة والأدب والشعر والعلوم الدينية. قبل أن يفصح عن موهبته الشعرية، متنقلًا بين المدن العربية يصف الأماكن ومتاعب السفر، ومترددا بقصائده على قصور الخلفاء والأمراء؛ يُعلي من شأن الكريم ويهجو البخيل حد أنه دخل السجن لمرات عديدة بسبب قصائده، وقد نقلت كتب السيرة حبه للفكاهة والدعابة ونباهته وجرأته في المجالس.
إنها المداخل الأساسية إلى شعره الذي تراوحت موضوعاته بين الخمرة والغزل والمدح، وقصائد الزهد التي كتبها في أواخر حياته. غير أن قصائد الخمريات تحتل مساحة وافرة في كل ما كتبه من شعرٍ، بل جعل من الخمرة غرضا شعريا مستقلا، وهذه مسألة غير مسبوقة في التراث الشعري العربي، حيث كان الشعراء، سواءً في الجاهلية أو في العصر الأموي، لا يأتي ذكرهم للخمر إلا عرضيا وضمن الموضوعات الكبرى مثل، المدح والهجاء والفخر أو من باب التقليد والمحاكاة، أو الرغبة في إثبات البطولة، كما هو الأمر مع عنترة بن شداد أو للتعبير عن الجود والكرم كما في شعر طرفة بن العبد. أما بشار بن برد الأعمى، الذي توفرت له قصائد كثير في الخمرة، فقد صاغ صوره الشعرية متوسلا بحواسه ومخيلته، وما حفظه من الشعر القديم، وإن كنا لا ننفي ملامح التجديد في شعر بشار.
وعودةً إلى خمريات أبي نواس، التي شكلت منعطفا مهما في القصيدة العربية موضوعا وتصويرا وبناءً ولغةً، وتعتبر من النماذج الأولى والحقيقية للتجديد في الشعر العربي، أو على الأصح الحداثة الشعرية بمفهومنا المعاصر، وذلك لما تضمنته من صورٍ شعرية تنبض بالحركة والحيوية، وأحيانا حسية وملموسة. وذلك بتشابيهَ واستعارات يتشابك فيها النفسي بالاجتماعي والذاتي بالموضوعي. «فالخمر ياقوتةٌ والكأسُ لؤلؤة/من كف جاريةٍ ممشوقةِ القد» وتُشبه في صفائها عين الديك، بل «هي العروسُ إذا داريتَ مزجتَها / وإن عنفتَ عليها فأختُ شيطان». وقد أفرد له عباس محمود العقاد كتابا بعنوان «أبو نواس»(1930) متوسلا بمخرجات التحليل النفسي، ومركزا على صورة الشاعر عند العامة، وعلى «عقدة الإدمان» و»غزل المؤنث والمذكر» في شعره. ودون أن يخلو الكتاب من القسوة على غرار أغلب كتب العقاد النقدية. وقد تأثرت اللغة الشعرية عند أبي نواس بمظاهر التطور والتجديد التي طبعت العصر العباسي على المستوى المعيشي والثقافي والأدبي؛ حيث اعتمد الشاعر اللغة السهلة والبسيطة، ونأى عن غريب الألفاظ وغموض المعاني، وحافظ على الرقة والليونة في تركيب جملته الشعرية، عكس الخشونة والبداوة التي ميزت قصائد مطلع العصر العباسي. فضلا عن أن شعرَ أبي نواس يستدعي هذا المعجم المتنوع الذي ينطق بملامح الحضارة العباسية، حيث المدينة العربية في أوج تطورها وانفتاحها على الأجانب، وحيث الخيام استبدلت بالدور والقصور، والأسواق جنبا إلى جنب الملاهي والخمارات، بالإضافة إلى الحدائق والمنتزهات. وتمتد سمات التجديد في شعر أبي نواس إلى بناء القصيدة العربية، حين تمرد الشاعر على المقدمة الطللية التي درجَ شعراء العرب القدامى على افتتاح قصائدهم بها، واستعاض عنها بالمقدمة الخمرية في بيته الشهير: «عاج الشقي على دار يسائلها / وعُجتُ أسأل عن خمارة البلد» أو حين يقول في موضع آخر:
لا تَبكِ رَبعاً عَفا بِذي سَلَمِ/ وَبَز آثارَهُ يَدُ القِدَمِ
وَعُج بِنا نَجتَلي مُخَدرَةً/ نَسيمُها ريحُ عَنبَرٍ ضَرِمِ
إن الحضور المتكرر للمقدمة الخمرية في قصائده، والتأشير إلى ذلك في أكثر من موضع، يشي بأن الشاعر يقود ثورته، أو على الأصح مشروعه الشعري، بوعيٍ واستبصار للقصيدة. ويجدر بنا أن نقرأ هذه الثورة الشعرية في سياق عصرها، وبالمقارنة مع ما نقرأه هذه الأيام من بيانات شعرية في الصحافة الثقافية بخصوص قصيدة النثر.
الملاحظ أن أبا نواس ثارَ على كل ما دأب الشعراء التغني به في قصائدهم؛ وذلك حين انبرى يتغزل بالغلمان بدل النساء، وأشهر اللهو والمجون حين أشهرَ آخرون النسب والبطولة، بل سخر من كل ما له دلالة رمزية وقيمة إيجابية في التراث العربي كما في هذا البيت الشعري:
دَعِ الأَلبانَ يَشرَبُها رِجالٌ/ رَقيقُ العَيشِ بَينَهُمُ غَريبُ
والمفارقة أن أبا نواس عاش غريبا في عصره بعدما اتهمه مجايلوه من الشعراء والعلماء بالشعبوية والتعصب على العرب، غير أن طه حسين، في كتابه «حديث الأربعاء» قرأ الثورة النواسية بعيونٍ معاصرة ومعطيات المنهج التاريخي عند هيبوليت تين، فتحدث عن «الصدق الفني» معتبرا الخمريات مرآة للعصر، وتروم التجديد وتجاوز القديم والمستهلك، أكثر مما تروم الهزل وإشهار المجون. وفي المقابل لم تستطع بعض الدراسات النقدية المعاصرة أن تتخلص من العقم المنهجي وتتجاوز القراءة الأحادية، وارتهنت إلى تأثير الحملة القديمة، التي بسببها ما زال شعر أبي نواس يتعرض إلى تعسف نقدي.
كاتب من المغرب
يقال أن ابا نواس تاب في آخر أيامه وانه كتب في ذلك أعذب الشعر، ولكنه للأسف لم يصل إلينا 😊