هذه سطور لا تستنكف عن التشديد على ارتباط وثيق، سياسي وطني وعاطفي شخصي، ببلدات وقرى وبطاح هضبة الجولان السورية المحتلة؛ وكما ابتهجتُ مراراً وأثابر على الابتهاج لأفراح أهل الجولان المختلفة في ممارسة انتصار دائم مستدام على الاحتلال الإسرائيلي وسياسات الأسْرَلة والتهويد، فإنّني يندر أن تخلفتُ عن التضامن مع الجولانيين في الأتراح والملمّات والنوائب. وضمن هذه المعادلة الثنائية ذات التشعبات الكثيرة المتشابكة بين اغتباط وأسى، تنفرد بلدة مجدل شمس بمكانة خاصة عالية، سياسية وطنية وعاطفية شخصية هنا أيضاً.
وأياً كانت الحقائق الفعلية خلف سقوط الصاروخ الذي أودى بحياة 12 من أبناء الجولان في مجدل شمس، وما إذا كان طائشاً من جانب قبّة الاحتلال أم من «حزب الله»، ومع حفظ فوارق شتى بين الخلاصتَين؛ فإنّ الجولانيين ليسوا وافدين مجدداً على جرائم الاحتلال الإسرائيلي أو النظام السوري أو «حزب الله» في داخل سوريا، أياً كانت طبائع التمييز المطلوبة بين إجرام وإجرام، وأياً كانت الملابسات التي تفضي إلى منطق متماسك في الحدود الدنيا حيال تجريم هنا أو هناك. ولعلّ أوّل المعايير الواجبة في أية نظرة تكاملية إلى ملفّ الجولان المحتلّ وأهله الجولانيين الواقعين تحت الاحتلال الإسرائيلي، هي أنّ مصائر الهضبة كانت، ولسوف تظلّ حتى إشعار آخر طويل قبل أن يَقْصُر، على ارتباط وثيق بهزائم نظام «الحركة التصحيحية» وآل الأسد أمام الاحتلال الإسرائيلي، وفي ركن مكين من صفقات التفريط والبيع والتنازل والاتجار.
وأوّل المعطيات، في ملفّ الأرقام، تقول إنّ حصيلة هزيمة 1967 أسفرت عن تهجير نحو 130 ألف مواطن جولاني، وتدمير 340 مزرعة وقرية وبلدة، بالإضافة إلى مدينة القنيطرة عاصمة الجولان، وفرض العيش تحت الاحتلال على قرابة 25 ألف نسمة في خمس قرى، مجدل شمس وبقعاثا ومسعدة وعين قنية والغجر؛ في مقابل 33 مستوطنة زراعية أقامها الاحتلال، تستوعب اليوم من المستوطنين ما يفوق أعداد أهل الأرض الجولانية المحتلة. وقد تكون الوقائع الأحدث عهداً، في الجوانب الباعثة على الأسى والحزن والإحباط، تلك التي تعود إلى ربيع 2011 حين راقب الجولانيون انسحاب قوات بشار الأسد من خطوط المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي في مختلف أرجاء الجولان، وارتدادها إلى الداخل السوري لممارسة القتل والقصف والتدمير ضدّ درعا وريف دمشق وحمص وحماة وإدلب…
وليس جديداً أنني لا أكفّ عن تثبيت حقيقة شخصية أخرى، مفادها أنّ شهادتي في الجولان وأهله «مجروحة» كما يُقال، أو هكذا يجب أن يسير منطقها الصوري البسيط أو المعقد المركّب؛ ليس لاعتبار ابتدائي يقول إنني سوري، أنحاز تلقائياً إلى أهلي في جزء من سوريا واقع تحت الاحتلال الإسرائيلي، فحسب؛ بل أيضاً بسبب محطات في حياتي ارتبطت بالهضبة وأهلها على نحو وثيق، وجداني وإنساني، كما يجب أن أضيف. وخلال عملي مع الأمم المتحدة أواخر سبعينيات القرن الماضي، تسنى لي أن أعرف الجولان عن كثب ومن من الجانب السوري، فزرتُ مدينة القنيطرة الشهيدة، عاصمة الجولان التي تعمّد النظام إبقاءها كما خلّفها جيش الكيان الصهيوني عند انسحابه منها بموجب اتفاقية سعسع: محض خرائب وأطلال شاهدة على وحشيتين، الاحتلال الإسرائيلي والاستهانة الأسدية.
كذلك تعرفتُ، عيانياً أو بمجرد النظر أو صحبة فرق التفتيش التابعة لقوات فكّ الارتباط التابعة للأمم المتحدة، على جغرافية الجولان كاملة: من نبع الفوار وخان أرنبة ومزرعة بيت جن، إلى الرفيد وتل الفرس وتل أبو الندى، وصولاً إلى جبل الشيخ وبير عجم والجوخدار. ثمّ عدتُ وأبصرتها، من جهة الاحتلال هذه المرّة، خلال زياراتي إلى فلسطين المحتلة؛ حيث باتت زيارة مجدل شمس واجباً أقرب إلى الحجّ، ومتعة قصوى لا تقلّ عن زيارة القدس وبيت لحم والخليل. وبالطبع، تحولت البقاع الجولانية إلى مستوطنات تارة، أو تارة أخرى إلى مواقع ترويح يزورها السائح الإسرائيلي أو الأجنبي للتنعّم بأمجاد «لواء غولاني» الإسرائيلي (في تلّ الفخار، مثلاً، الذي قد يكون الرمز الأقسى لتسليم الجولان عسكرياً).
كذلك، في إطار عملي مع الأمم المتحدة، توجّب أن أناوب ثلاثة أيام شهرياً على معبر القنيطرة المواجه لحاجز الاحتلال، والمخصص لعبور أفراد الأمم المتحدة وطواقم الصليب الأحمر والطلاب السوريين القادمين من الجولان والمتوجهين إلى الداخل السوري للدراسة في مختلف كليات جامعة دمشق. وشاءت الأقدار أن أكون على هذا المعبر تحديداً، يوم 14 كانون الأول (ديسمبر) 1981، حين صوّت الكنيست الإسرائيلي على «قانون الجولان»، الذي قضى بـ «فرض القانون والقضاء والإدارة الإسرائيلية على هضبة الجولان». ولم تكن البرهة تلك عادية في ناظر أيّ مواطن سوري، فكيف إذا حدث أنه تواجد في تخوم القنيطرة فعلياً، وعلى مبعدة 25 متراً فقط عن الاحتلال!
ولعلّ بعض أدنى العزاء لذوي شهداء مجدل شمس الـ 12، أن يستعيد المرء هذه الأبيات من قصيدة النابغة الذبياني:
فآبَ مضلّوه بعين جليةٍ/ وغودر بالجولان حزمٌ ونائلُ
ولا زالَ ريحانٌ ومسكٌ وعنبرٌ/ على منتهاه، ديمةٌ ثمّ هاطلُ
بكى حارث الجولان من فقد ربّه/ وحورانُ منه مُوحشٌ متضائلُ سقى الغيثُ قبراً بين بُصرى وجاسمٍ/ بغيثٍ من الوسميّ قطرٌ ووابلُ
رائعة … يسلّم الايادي يا استاذ صبحي.
الصهاينة استفادوا كثيرا منذ 1970 من ذوي النوايا المبيتة(منذ قبل1948) أن يسلك طريقا مغايرا للآخرين وينتهز على حساب مصائب الآخرين ويتغذى من ريع سيل دمائهم، بل ويعمل جاهدا على الإقصاء والتهميش والإزاحة. مفتاح سعادة الجميع التحالف والتمسك بمشتركات تاريخية وألا يسمح لأن يفصل بينه وبين جاره وأخيه. القادم يتطلب تضحيات لأن قوانين الحياة فيزيائية ولا نتيجة وخلاص بدون مثابرة.