يبدو أكثر معرفة ودراية، وله بعد نظر، أو هكذا يريد أن يبدو للآخرين. قام بفتح صالة رياضية في أحد الأحياء الجديدة في قريتنا. صالة يكمل المنخرطون فيها أجسامهم، كأن بها نقصا ما، يحملون أثقال الحديد، ويمارسون نشاطا بدنيا يحتاج صبرا لبناء أسس الأجسام. وفي ذلك يتنافس المتنافسون كما يغفل الغافلون، وتختلف النوايا والمقاصد في تربية عضلات بارزة، أو تشكيل بنية جسدية متناسقة، وبعض الأحيان متنافرة وفيها نشاز..
يأتي صاحب الصالة إلى قريتنا مفعما بالكبرياء، واثق الخطى يمشي مزهوا بقوته وبحكمته، كأنه حقق فتحا مبينا وجاء بنشاط غير مألوف لدى شباب قريتي، يجعل ممارسه يشبه أبطال السينما، الذين يظهرون في الأفلام الأجنبية بعضلات مفتولة وبراقة. إن مجرد هذا الفتح العظيم يشفع لصاحبه حتى يكون بطلا، وإن لم يشارك سابقا في أي بطولة رياضية لكمال الأجسام.
يأتي صاحب الصالة من أقصى الأرض عاقد الحاجبين، يفتر ثغره عن بسمة ماكرة أو ساخرة أو ما شابه ذلك، وقل عنها ما بدا لك، إلا أنها ليست بسمة رضا… يكتري الطابق السفلي لمنزل ثم يجهزه ويعده بمعدات رياضية ثقيلة. وما هو إلا زمن قصير على افتتاح صالته حتى قدم إليه الشباب من أقصى القرية وأدناها ومن القرى القريبة، يحدوهم الأمل وتجذبهم رغبة امتلاك عضلات بارزة وصدور كبيرة وأكتاف عريضة، ولمثل ذلك فليعمل العاملون.
انخرط بدوره زميلي في العمل في هذه الصالة بحماس مبالغ. سرعان ما تحول حماسه إلى هوس غريب، تغير على إثره نمط حياته، لا أقول إلى الأسوأ، لأنه صار -على الأقل – ينظم وقته ويعتني بنظامه الغذائي، لكنه كان كثير الالتفات، في الشارع، في المقهى في العمل، يكثر النظر إلى استدارة صدره، ويبالغ في لمس ذراعيه بشكل مستفز، يتحقق من ضخامتهما. تحسبه يستعد للقتال، وإذا صادف مرآة أو زجاجا عاكسا لصورته يتوقف أمامها.. لقبته بصاحب المرآة، كان يتضايق من اللقب الجديد. خشيت عليه من هذا الجنون الذي مسه، من حيث يعلم وأعلم، وأكثر من ذلك، خشيت عليه حين لاحظته يحل جميع خلافاته بالقوة، لا مساحة لديه للحوار والنقاش، لا شيء يعلو على منطق الصراع من أجل الانتصار.
نسيت أمر زميل العمل، الذي لم يعد يطيق كلامي الناصح: «الغلو يا صديقي مرض عصري، لا تجعل عضلاتك أكبر من عقلك».. انطلق متبرما لوجهته، وانطلقت آسفا لوجهتي. سرعان ما تذكرته اليوم. أقف على حفر أساس بناء منزلي فوق قطعة أرضية اشتريتها سابقا، تفاجأت للصدفة الغريبة؛ تقع البقعة بجانب صالة الرياضة التي يرتادها زميلي، خطر في بالي أني اكتشفت حقيقة المثل الشائع «اسأل عن الجار قبل الدار» ولو أن في حالتي لا أحتاج إلى السؤال، صاحب المنزل أعرفه حق المعرفة، ليس غريبا عن هذه القرية، أما صاحب صالة الرياضة فهو شخص عابر بالنسبة لي. وجدت نفسي في لحظة غير مقتنع بهذا التفسير السطحي، أليس الجار كل من جاورك؟ صاحب الصالة جاري ما دام أنه يكتري الطابق السفلي للمنزل المجاور، وحسب العرف والقانون، إن له حقا عليّ ولي حق عليه. الذي استخلصته أكبر من حقيقة المثل الشعبي الذي يركز على السؤال عن الجار. زعمت حينها أني اكتشفت طبيعة الإنسان باعتباره كائنا متناقضا. انطلقت في تصوري من أول اتصال لي مع صاحب الصالة. لم يسبق أن تحدثنا أو تعارفنا. من جهتي كانت صورة شخصيته غير واضحة، أو لعلني -وحتى أكون دقيقا- اعتقدت أنه شخص له من رجاحة العقل نصيب. لا شك أنه هذّب نفسه واعتنى بسلوكه ما دام أنه يمارس الرياضة وينشر ثقافتها، آلا تنطبق عليه مقولة العقل السليم في الجسم السليم؟
كان اتصالنا الأول حين شرعت في وضع معدات البناء من أحجار ورمل وغيرها.. عرفت من الرجل وإن لم يصرح لي أنه متضايق من وجود مواد البناء والعمال والبنائيين جواره، بل حدث أن قالها صريحة لأحد عمال البناء «لن يهنأ بالي حتى ترحلوا من هنا». كأنه يعتبر كل ما هو جوار صالته حقا له، هكذا قال عامل البناء متأسفا. بحثت مع نفسي عن أي شيء بدر مني اتجاهه لعلني التمس له عذرا حين أعثر على موقف أسأت فيه إليه. لم أجد إلا أنه في أول لقائي به كان خطابه يشف عن نفس مشحونة بالغل ورفض الآخر. تذكرت في صباح اليوم الأول لشروعنا في حفر الأساسات كيف أطل علينا وألقى نظرة، ولم يلق كلمة طيبة، كما جرى عليه العرف، ولا التحية، ومساء اليوم نفسه تبينت لي حقيقة الرجل ومعدنه، وتبين لي أيضا أن العقل السليم لا يوجد دائما في الجسم السليم. تذكرت زميلي في العمل مع عبارة «الجنون فنون». يا لها من سخرية، آلا يوازي جنون صديقي في حمل الأثقال جنون صاحب الصالة؟ إنها حالة تناقض غريب. كلما زادت بينة الجسم وقويت، صغر العقل وضاق أفق تصور الشخص لعلاقته بالآخرين.
قاص مغربي