«أثمان تحررية»: هل يمنحنا القياس التاريخي العزاء؟

تؤسس الإحالة إلى التاريخ جانباً مركزياً من أي أيديولوجيا، سواء قامت على سرد متماسك للأحداث في الماضي البعيد والقريب؛ أو انتقاء بعض الوقائع الملهمة، والإضاءة عليها؛ أو حتى محاولة إسقاط رموز وأسماء تاريخية على مجريات الحاضر وشخصياته. وقد يلبّي هذا وظائف اجتماعية وسياسية شديدة الأهمية، منها تحقيق تماسك الجماعة، وترسيخ نمط من الوطنية، ونقل قيم معيّنة إلى الأجيال الجديدة، وأيضاً صياغة عقائد قتالية للجيوش والمجموعات المسلّحة. يصعب أن نجد مجموعة إنسانية لا مفهوم لها عن تاريخها، حتى لو كان مُتنازعاً عليه، وسواء كان قائماً على سرد أسطوري ملحمي، أو يدّعي العلمية.
إلا أن الإحالة إلى التاريخ قد تواجه صعوبات منهجية شديدة، إذا تجاوزت استخدامها الأيديولوجي، ذي البعد الاجتماعي والتربوي، لتصبح برهاناً أو حجة على أي طرح في أوقات الصراعات والحروب والاضطرابات الاجتماعية الشديدة، وهذا ما نشهده مؤخراً، مع انتشار أشكال متعددة من الإحالات التاريخية، المستلهمة غالباً من تاريخ «التحرر الوطني»، مثل الحرب الفيتنامية، والثورة الجزائرية، وكذلك العمل الحقوقي والسياسي، الذي رافق تفكيك نظام الأبارتايد في جنوب افريقيا.
تستخدم الإحالة هنا وكأنها نوع من القياس التاريخي، لاستخلاص أو إثبات حكم أو مقولة ما، تتعلّق بما يجري في الحاضر، وهذا استخدام غريب للقياس والتاريخ معاً، خاصة أنه غالباً لا يبيّن العلّة التي ينبني عليها، أو الوقائع والسمات التاريخية المشتركة بين طرفي القياس. ما الذي يجمع مثلاً بين حروب كبرى، جرت إبان الحرب الباردة، والواقع الذي تعيشه منطقتنا اليوم؟ وما المشترك فعلياً بين عدد من التحرّكات السياسية والحقوقية، التي تتم في حالات شديدة الاختلاف؟ هل توجد مقارنات جدّية بين البنى الاجتماعية، والأنظمة والحركات السياسية، والممارسات والخطابات الفعلية، وطبيعة القوى الاستعمارية، والظروف الإقليمية والدولية؟ ثم لماذا القياس على الثورات والتحركات التي تُعتبر ناجحة، وليس التي فشلت أو أُجهضت أو أدت لكوارث كبرى؟ ما الدليل على أننا نمضي على طريق «الناجحين»؟ ألا يشير هذا إلى نوع من التفكير الرغبوي المفتقر للنضج؟ يصبح الأمر في كثير من الأحيان أقرب لصيغة تهكّمية: هنالك «فاتورة»، بشرية غالباً، دفعها بعض من سبقنا، إذا دفعنا مثيلاً لها فقد نحقق غايتنا. «الإنفاق» السخي هنا هو ما يبدو علّة القياس. بالطبع، هنالك انتقادات كثيرة للقياس نفسه، بوصفه منهجاً لإنتاج المعرفة، ولكن ما نتحدّث عنه ليس قياساً أصلاً، ولا هو بتاريخ، وربما لم يكن يستحق كثيراً من الالتفات لولا انتشاره الشديد. فلماذا الإصرار على «منهج» وقول رديء لهذه الدرجة؟ وهل يمكن أن نجد له وظيفة اجتماعية أو سياسية، رغم عجزه عن تفسير أو تحليل الحاضر؟

العزاء بالتاريخ

ربما لا تكون غاية القائلين بالقياس التاريخي إنتاج أي نوع من المعرفة بما يحصل، بقدر محاولة إيجاد معنى للتضحيات والآلام، التي يعاني منها كثير من سكّان المنطقة، فما يحدث، وفق هذا «المنطق»، عرفته شعوب كثيرة في ما مضى، باتت اليوم في وضع أفضل، ولذلك فهو قد يكون ضرورة في سبيل الحرية، بل نوعٌ من الحتمية، الناتجة من تلاقي ضغط الظروف السيئة مع توق الناس للحياة الكريمة.
بالتأكيد، يحتاج الناس إلى إسباغ المعنى على معاناتهم، وهذا من وظائف منظومات اجتماعية مهمّة، مثل الدين والفن، إلا أنه من الملحوظ أن هذا النوع من «المعنى» قد يكون فعّالاً وضرورياً في مواجهة الحوادث القدرية، التي يستحيل أو يصعب تلافيها، مثل وفاة الأحبّة أو الكوارث الطبيعية، لكنه يمسي أقرب لتبرير فعل وخيارات قوى متغلّبة، أو بالأصح التعمية عليها، عندما يُستخدم في المجال السياسي. التاريخ هنا طريقة للحد من الجدل في الحيز العام، خاصة أن أثر التغيّرات التاريخية لا يظهر على المدى المنظور، كما أن تعليل أسبابها يخضع لكثير من التأويل، وبالتالي فعلى الناس الصبر أو الحذر في التعبير حالياً، لأن ما يحدث أكبر منهم، وفوق قدرتهم المحدودة على الإدراك. أما معاناتهم، واختلاف مصالحهم ومواقعهم ورؤاهم، فأمور لا يمكن أن تُلحظ، ضمن كيان أو موجود أعلى هو «التاريخ»، كما أن الإصرار عليها خيانة أو جهل، أو مزيج منهما.
ربما كان مثل هذا القول مُعزّياً لو كان البشر مشاركين فعلاً في مشروع واضح، له «أثمانه»، أما أن يُفرض عليهم «التاريخ» بعد كوارث سياسية وحربية، ليس لهم فيها أدنى قرار، فأمر لا يمكن اعتباره إلا نوعاً من الظلامية الفاضحة، أي محاولة عرقلة إمكانياتهم في التبصّر والنقد، وتعطيلاً متعمداً لفعاليتهم السياسية، ما يجعله عنفاً مضافاً إلى العنف الذي يعانون منه أصلاً.
يصعب أن نجد سوابق لهذا النوع من «القياس التاريخي»، حتى في التحركات التي قامت على أساس فلسفات تاريخ واعية بذاتها. في حالة الثورة البلشفية مثلاً، وما تبعها من حرب أهلية وتدخّل أجنبي في روسيا، كان الثوريون متأثرين جداً بالمثال التاريخي للثورة الفرنسية، ومارسوا دوماً نوعاً من القياس والترميز، بناء على وقائعها وأحداثها، في سياق مفاهيمهم عن الثورة والصراع الطبقي، إلا أن ذلك لم يمنعهم من اتخاذ قرارات تبدو مغايرة تماماً لمثالهم الثوري، مثل صلح بريست-ليتوفسك مع ألمانيا عام 1918، الذي عدّه البعض تنازلاً هائلاً للقوى الاستعمارية؛ وكذلك «السياسة الاقتصادية الجديدة» (النيب) عام 1921، التي كانت تراجعاً كبيراً عن المنظور الاشتراكي للدولة الناشئة. وقد دارت جدالات كثيرة بين المنظّرين البلاشفة حول كل هذا، استُخدمت فيها مقولات عن «التاريخ» بالطبع، لكن ضمن محاولات لصياغة أهداف ورؤى وبرامج مرحلية، وتوضيح التنازلات ضمن تحليل معيّن للواقع. وتدريجياً، تراجع التمثّل برموز ووقائع الثورة الفرنسية، بعد أن باتت عبئاً أيديولوجياً على القادة الروس.
المقارنة بهذا المثال هي أيضاً نوع من القياس التاريخي الخاطئ وغير المنهجي، إلا أنها قد تنبّه إلى علّة أساسية لاختلاف مقولاتنا الحالية عن أي جدل سياسي فعلي، مهما كان منظوره الأيديولوجي والفلسفي.

تغييب الفاعلين

رغم كل ما يبدو من «ثورية» اللجوء الحالي إلى الإحالات التاريخية، لفهم أو تبرير الحاضر، إلا أنه في العمق يقوم على تجنّب متعمّد لذكر الفاعلين، الذين من المفترض أنهم يغيّرون بفعلهم الواقع. سواء كانوا قوى ومجموعات مسلّحة محددة، تتخذ القرارات؛ أو حتى الشعوب، التي تناضل لأجل التحرر. لا توجد في القياسات الحالية أي مقارنة بين المجموعات والميليشيات الفاعلة في منطقتنا، وبين طبيعة القوى السياسية في كل من فيتنام والجزائر وجنوب افريقيا، وأساليبها في تمثيل الكتل السكانية واكتساب الشرعية، وعملها على قاعدتها الاجتماعية. وتغييب هذا العامل بالذات يقي أصحاب ذلك الطرح من أسئلة قد تكون محرجة جداً، وكأن «التاريخ» يتحرّك لوحده، وذكره يجب أن يمنعنا من التفكير بالقوى والسلطات الموجودة في حاضرنا.
في المثال الروسي المطروح أعلاه، كان الجدل بين البلاشفة يقوم على مقولات معقدة حول الطبقات والفئات الاجتماعية، والمسألة القومية، وطبيعة التنظيمات السياسية وبنائها الأيديولوجي، وسؤال التمثيل الشعبي والعمالي، أي أنه كان قائماً أساساً على مقولات حول الفاعلين الأساسيين في الصراع القائم، وهو ما يمكن رصده أيضاً في أي حراك اجتماعي حديث، مهما كان منظوره وأيديولوجياته، في حين تبدو الغاية الأساسية للقائلين الحاليين بالقياس التاريخي رفض طرح كل تلك المسائل، باعتبار أن «التاريخ» لم يقل كلمته بعد، والبشر ليسوا قوى واعية وفاعلة فيه، وإنما فقط دافعو ضرائب التغيير التاريخي، ولكنها «ضرائب» دون تمثيل. تغييب الكتل السكانية عن الفاعلية، واعتبار تصرفات القوى المتغلّبة أقرب لرد الفعل التاريخي، الحتمي والطبيعي، الذي من الخطأ أخلاقياً محاسبته، لا يمكن أن يكون تحررياً، أو ثورياً، وفق أي معيار، وليس أكثر من أسلوب لإلغاء السياسة، وتعويضها بدعوة مخاتلة للطاعة، تفتقر حتى للشجاعة في تسمية القوى التي علينا أن نطيعها.

عمّ نتكلم؟

يوجد منهج في الدراسات التاريخية الأكاديمية يمكن ترجمته بـ«القياس التاريخي» Historiometry، ولكنه مختلف جداً عن الأطروحات التي نسمعها اليوم، إذ يقوم على محاولة تجميع البيانات التاريخية، ونمذجتها، لاستخلاص أنماط، أو اتجاهات، أو خرائط ومخططات للتغيّرات الكبرى عبر الزمن، وصولاً إلى محاولة توقّع التحولات المستقبلية، ورغم كل الانتقادات التي يمكن توجيهها لهذا المنهج، فهو يبقى أكثر تطوراً بمراحل من التعمية الأيديولوجية التي نضطر للجدل معها اليوم. يمكن التساؤل: إذا جمعنا بيانات كميّة، ونمذجنا التغيّرات الاجتماعية التي مررنا بها، وفق منظور زمني، وقارناها بحالات أخرى، فإلى أي نتائج سنخلص؟ بغض النظر عن الإجابة، فإن التفكير بأي أسلوب منهجي قد يساعدنا على فهم ما نتكلّم عنه حقاً، وخيرٌ من مقولات لا تقوم إلا على الابتزاز الأخلاقي والسياسي، والعنف المعنوي. بالتأكيد فيتنام والجزائر وجنوب افريقيا، لن تتكرر، لأننا لا نتكلّم عنها حقاً، بل عن تصورات أيديولوجية في أذهان بعض العقائديين، وظيفتها الأساسية التجهيل والتعمية.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عربي سوري:

    اتمنى ان لا اكون قد فهمت مقال الكاتب على انه نقد لثورات الربيع العربي او حتى ما قام فيه المجاهدين ألعرب الفلسطينين ( السنة) في طوفان الاقصى.ان هناك شريحة من البشر اخذت على عاتقها النضال والكفاح ضد الباطل الذي تعاني منه كل الشعوب ( المتحضرة ) لقد وضعت متحضرة بين قوسين لكي لايفهم لاني اعني الحلف الصهيوصليبي الهمجي الذي خاض عدة حروب خسر فيها اكثر من ١٥٠ مليون قتيل فقط من اجل تقاسم موارد الكرة الارضية او تقاسم المستعمرات الكاتب يلمح ان الغالبية التي تعاني من (الثورات) هم الذين لم يؤخذ رايهم او انهم وقعوا ضحية لشيء لم يؤخذ رايهم فيه فهل يقصد الكاتب الغالبية من الرعاع ام الغالبية من الاميين وساكني الكهوف في عصرنا الحاضر ام انه بما انه سوري يقصد سكان المنطقة الشرقية التي كان المجرم الاسدي يطلق عليه مناطق نامية تعليميًا بعد ان سرق مواردها وتركها في حالة مزرية اقتصاديًا وتعليميًا وتربويًا وسياسيًا دراسة التاريخ هي لاخذ العبرة والتعلم من التجارب والاخطاء التي حصلت وادت الى زوال امنم او مجازر وضياع اوطان كما حصل لسكان أستراليًا الاصليين يتبع

اشترك في قائمتنا البريدية