«أجري بين ضفتين كنهر» للقاص أحمد شكر.. جدلية الحياة والموت

حجم الخط
0

تطرح مجموعة «أجري بين ضفتين كنهر» مسألة الكتابة عن الموت والحياة، وعلى الرغم من تعدد المواقف الواصفة لهذه الثنائية، فإن القاص قد استقر على مفاهيم نراها مؤسسة لاستجلاء بعض دلالات النص، خاصة في ما تبينه من مفهوم المصير والانتظار، ومسألة الصراع والألم.
تستند المجموعة إلى نصين مستأصلين من خطابين مختلفين ومتباعدين، من خلال المنطلقات الفكرية والاعتقادية، الأول من الملحمة الهندية المسماة المهابهارتا، وهي نص مؤسس للتاريخ الهندوسي لسلالة بهاراتا، والثاني من كتاب «الموتى الفرعوني»، وهو خزانة وثائقية لطقوس الموت ونصوص الجنائز. وقد اختار القاص النص الأول تحت عنوان الحياة، والموت عنوانا للنص الثاني. وإذا كانت المقتبسة الأولى هي مفتتح المجموعة، فإن المقتبسة الثانية جاءت بعد سرد خمس قصص عن الموت.
جاء في نص «الحياة»: «يأتي الميلاد بدون أن يفهمه أحد. ويأتي الموت بدون أن يفهمه أحد. وبينهما تدرك الكائنات كل شيء». (الأنشودة المقدسة، الكتاب السادس من المهابهاراتا).
وجاء في نص «الموت»: «أيتها المادة المقدسة التي أتت منها إلى الوجود كل أشكال الحياة… لقد بُعثت الكلمة، والأرض غمرها الصمت. أيها الواحد الوحيد الذي عاش في السماء قبل البدء، قبل أن تصنع الأرض والجبال. أيها العدّاء…» (كتاب الموتى الفرعوني).
المقتبستان داخلتان في صلب النصوص القصصية، وبما هي كذلك، فإن اختيارات الكاتب، لم تكن بصدد كتابة نصوص وحسب، وإنما اعتماد كتاب قصصي له رؤيته المعمارية الخاصة به، وهي بنية تصب جهدها المعرفي والسردي في ثنائية الحياة والموت. وأيضا يفتح النصان المستدعيان المجموعة على مسارين مفصليين: الأول مقرون بالمعنى المتبصر لقبول الحياة في اتجاهاتها وامتدادتها، ضمن موروث ديني عند الهندوس والهنود. والثاني يحسب على التصور الفرعوني، الذي ينبغي أن لا نقرأه كما هو معطى نصيا، وإنما بإقرار تلك الوحدة العميقة بين الروح والجسد، وشكل الاعتقاد كون البشر خلقوا ووجدوا في حالة السقوط وحدها ينفصل بعضها عن بعض في الموت.
وبصرف النظر عن الدلالة العميقة للنصين، فإن الغاية تكمن في البعد الحجاجي لهما، وطبيعة المجابهة التي يخلقها النص الملحمي مع النص القصصي، وهي كما قال كريستيان بلانتان: «مجابهة على نحو سجالي أو تعاوني، بين خطاب وخطاب معاكس يدوران في مسالة واحدة، وهو ما يثير في نهاية المطاف مشكلة ما يدركه كلا المتحاجين من خطاب الآخر». إذا كان كريستيان بلانتان يُدخل هذه البنية الحجاجية ضمن الحجاجات المرتبطة ببنية التفاعل، سواء على مستوى الشفهي أو الكتابي، فإن القصد من استدعاء هذا التصور هو تبين مسألة المجابهة بين خطابين الأول كلي متمثل في الملحمي والوثائقي، والثاني جاء على شكل سرد قصير. وهنا أيضا تطرح مسألة حدود التداخل والتخارج بين الخطابين.
للتدليل أكثر على هذه المماثلة المتحقـــقة بين الخطابين، نسوق مقطعا من قصة «سيرة». يقول السارد: «الأجساد كمــــا الأرواح تخــتلف وتأتلف، وفي هذه المسافة الضوئية خفق ثوب الحرير، الذي انتضته من خزانتها بلونه القرمزي الزاهي، صوت حفيفه الهامس، واثر مروره الراعش في خط التماس المشتعل بكل الغرائز والتأوهات، ألهب فحيح دواخلها. تحرص على إطالة احتكاك جسدها الحليبي بالنعومة الحريرية، التي كانت تشبك هذا الفوران. أكثر من قطعة قماش أصيلة حاكتها ديدان قز صينية مثابرة، هي تاريخ عبور من مكان إلى آخر، وتاريخ لمسار لذة لن ترتوي أبدا».
جاء هذا المقطع في سياق حوار عميق بين الذكر والأنثى، ومنحت القصة للجسد بعده الأنطولوجي عبر معطى شيئي متمثل في الثوب. وهذه الكتابة تقصي السرد من أولوياتها، وتكتفي بالوصف المعرفي، فالسارد يصف ويعلل ويفسر، ويقرن النتائج بالمقدمات، كأن النص يحاجج المتلقي عن عمق ارتباط الجسد باللباس، وصنف الثوب حريري، وأصل الحرير دودة قز صينية مثابرة. وفي مقابل كلية الحياة، جاء تحت كلية الموت نص «كفن عام». يقول السارد: «هذا هو الكفن السابع الذي اشتريه، ولا أعرف إن كان لي أم من نصيب امرأة أخرى؟ لم أفهم، ورغما عني أفصحت شفتاي عن حاجة عقلي كي يعرف: – كيف؟ – هذا كفن عام. ـ كيفاش؟ – ما يقفلش عندي عام في الدار، وإلا كان من نصيب أول من تموت ـ في سبيل الله؟ – نعم، في سبيل الله ألم أقل لك إنه يجب علينا أن نفرش قبورنا».
يعكس هذا المقطع واقعية امرأة ستينية، كما أشّرت إليها القصة في البداية، وهي تناضل من أجل استيعاب واقعية الموت، وفي شرائها للكفن استعداد رمزي للخروج من الحياة. القصة تقدم المرأة تقديما بسيطا، لكن وعيها بالموت يحضر كتأمل كثيف حول الذين يموتون ونبقى بعدهم أحياء، ولكن أحياء يفكرون في ما يقال عنهم بعد موتهم.
تبدأ المجموعة بقصة «كراسي» حالتها البدئية وصفية. يقول السارد»: «ثلاثة كراسي بلاستيكية بيضاء، تحضن رذاذ البحر في صمت مريب قوائمها متجذرة في الرمل، وجهها إلى البحر، ومسندها للعابرين». يكتسب هذا المقطع طابعا بسيطا، وفي صلب القصة نسجل بنية تركيبية ذات ملمح خاص أقرب إلى صياغة تصور خاص عن الأشياء والعناصر المستدعاة. يقول السارد: «إن كان شيء مهم في ما سبق، فهو أن رص هذه الكراسي أصبح يشكل حياة، ليس لأنها ساهمت في ميلاد رؤى تخيلية، ولكن أصلا لأنها حقيقة مجسدة على أرض الرمل».
ومعنى هذا إن أي إشارات سابقة، إنما كانت مجرد استباقات سردية مهدت للمعرفة السابقة عن السرد، حيث نكتشف أن الكاتب كان مولعا في منجزه القصصي بتوظيف مثل هذه المعرفة المتأرجحة بين الوجود والعدم، لإثارة فضول المتلقي كما هو متحقق في قصة «الشجرة». وما يفسر استغوار القصة لمكون الموت، أنها بدأت من نقطة النهاية، بأن وجد البطل ذاته خارج سياق الإنسانية. وهو اعتبار وجودي دلّ عليه السرد شبه المعطل. وقد تفاقم هذا الإحساس بتنامي النص فكريا وليس سرديا. يقول السارد: «قد تكون مجرد لحظة من لحظات متتالية، الفارق فيها ليس حدها الفاصل بين زمنين: المكوث أو الرحيل».
النصوص في مجملها حجاجية تُخلص القصة من قصصيتها، عندما تقرأ مشهد الذات أمام مصيرها المجهول، بل إن ضمير المتكلم المعبر عنه في بعض النصوص يدل على كون الذات حاضرة بين ما تبقى من الفواعل المستدعاة، مهمتها رتق علاقة الإنسان بوجوده. والدليل على هذا الذي يومئ إلى حضور دينامي للذات التي تستعجل الآتي وتصور الآني تصويرا دراميا يتنامى في كل ما هو سردي، بل يوحي بانسداد الأفق الرؤيوي، إذ ينقضي الزمن ليأتي على كل شيء « مرض الأب ولّد تداعيات قلقة لا تخص فجائية رحيله الأبدي، وإنما أيضا هيمنة حلم كابوسي طيلة مدة الاحتضار التي امتدت لأسبوعين »، وبذلك لا أمل في استدراك ما فات.
معاناة حقيقية تدوم وتستمر، وتحول العدم إلى وجود وقد عدها ليفيناس، أي المعاناة، «هي استحالة العدم»، وفي ظل هذه الاستحالة تتبدى تباشير الموت التي لا يمكن لها أن تظهر في وجود ممتلئ بالألم والمعاناة، وإنما شرطها الخفاء وعدم الإدراك والمجهول. فالوجود عند هيدغر «هو شر ليس لأنه منتهي ولكن لأنه لا نهاية له أو غير محدود». إن مقام التقابل المصرح به في «أجري بين ضفتين كنهر» يتحكم مبدئيا في تأليفية النصوص، وقد أبان عن معمارية نصية ارتضاها الكاتب نفسه. وأنت تقرأ نصوص المجموعة تحس بأنها كتبت دفعة واحدة، متبنية رؤية وخلفية معرفية وجمالية موحدة لا تحيد عن استدعاء مشاهد ومواقف حياتية تتأرجح بين الحياة والموت. ولكنها لا تصوغ الوقائع وحسب، بل تنظر فيها من زاوية التأويل وإعادة النظر، وذلك بطرح تصوري مشبع بخطابات مقدسة، وتاريخية. الرؤية ذاتها ترى في التأليف القصصي «عدد ثابت من النصيصات التي تقوم بينها روابط، وتسمح نقاط ترسيخ بالربط بين النصوص، ومنها نوعان يمكن تحديدهما من خلال الثنائية التقليدية: الشكل والمضمون. تشكل التشابهات أو الإحالات الموضوعاتية نقاط ترسيخ للمضمون؛ إذ يتيح حضور الموضوع محدد (الحب، الحرية، الموت، إلخ) وأشكاله المتعالقة في نصوص مختلفة، قيام تقارب معين بين هذه النصيصات».
يشي كلام روني أودي بأهمية التأليف الأضمومي، الذي يتحقق عبر نقاط ترسيخ تُسهم في تعضيد النصوص، وتقوية بنيتها الموضوعية. وهذا التحقق يعكس النشاط المعرفي والفني الذي بصدده المجموعة. منذ النصوص الأولى للمجموعة نقف في مواجهة عوالم مستأصلة من الواقع، ولكنها تخط مسارها في تصعيد العلاقة المرتبكة، ليس بالموجودات وحسب، وإنما بارتباطها بالأحاسيس المتولدة من الوظيفة الحياتية. وحالما نتوغل في هذا العالم المؤطر، والسري للشخصيات؛ لأنها لا تفصح للناس عن قلقها وهواجسها، وإنما تركن همومها في حوارات داخلية، سنعرف أن المجموعة تبني أفقها نحو الموت، ليس كخلاص، أو قلق وجودي، أو حتى وعي شقي في زمن الألم، بل كل هذا، لتنضاف مكانة الموت في صلب الذاكرة الجماعية، باعتبار شخصيات القصة؛ المرأة الستينية، العجوز المحتضر، الكاتبة، الجزار المستعجل، الزبون المتأني، سي لحسن وزوجته، الرجل والكسال…وغيرها من الشخصيات التي لم تكن تقر بالحياة إلا بطقس جنائزي، وألم مستشر على نحو غريب ومجهول.

٭ كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية