في اللحظة، أي لحظة، تكون الروح هائجة أو هادئة أو غاضبة أو منتشية في الجسد كما البحر في تتبع أجوائه، تتعارك في داخلك وقد تنهشك أو قد تحملك راقصا أو منطرحا أرضا أو مندهشا فاغر فاه من كل ما خلفتها تلك اللحظة فيك، سواء مرت عبر شخص أو منه أو من موقف أو من ذكرى طيف أو من حدث أو صيف حلم عابر.. روحك تغدو شرارة لهب يحرق فيك الجسد أو ينتشله من قبر أو يبعثه راقصا منتشيا، ملتبسة حالتك بأحاسيس روحك في صدى ما ارتد من روح تلك اللحظة.
في روايته «التباس الأحاسيس» يغزل ستيفان زفايغ من الأحاسيس سجادة حياة يخلقها ويتمادى في توسعة مداها مستوعبة كل مفاجئة وكل غموض يعترض أيامها والسبل المتاحة في السير باتجاهها.
شاب وتلبية لرغبة والده في استحصال شهادة دراسية تؤهله إلى مركز ذي قيمة في المجتمع هو مزيج من الحماسة والاندماج في كل ما يمس داخله أو يتوهج في فكره لدرجة تتحكم فيه بكليتها الرغبة أو الغاية أو المغامرة: «إن الحماسة التي كنت أسلم بها نفسي لمغامرات هذا الوجود الجديد، باحثا دوما عن الأحاسيس الجديدة، بدل أن أهتم بدراستي، كانت حقا حماسة المأخوذ المفتون». هكذا يعبر عن البيئة الجديدة التي وصلها للدراسة، وهكذا من خلال هذا الجموح، يعيش الحدث أو الموقف أو الرغبة بشكل يجعله يهرسها كطعام: «أثناء انكبابي على ما أقوم به، أعض بنواجذي بعامة على مشكل واحد، بهمة، حتى أنني لا أتركه إلا بعد أن أشعر في فمي بأشلائه الأخيرة، وبما تبقى من نخاعه»، بهذه الميزة الكامنة في بطل الرواية، التي هي ذو قدر جلل بإعطاء كل حواسه حق ما يقوم به، يبدأ زفايغ بنسج خيوط الروح فيه ليسرد ويحلل ما يلاقي ويمر به الشاب، وكم من الأمور والمواقف التي قد تهزه وتجعله يغوص عميقا في ما يلاقيه، أول هذه الأمور هو الصمت المطبق الذي بدر من والده، كرد فعل على ما وجده فيه من موقف محرج، حين أتى إلى زيارته فجأة، ومغادرة الوالد بدون أن ينبس بأي كلمة وبدون غضب صاخب سوى ما ارتسم على ملامحه لوحة قابلة للهروب من وجهه كإعصار أعادت الشاب إلى نفسه، إلى ميزته الكامنة فيه بإعطائه كل ما يعيشه حقه، وبالتالي إلى دراسته، وأخذها سبيلا في رد الاعتبار لذاته واحترامه لرغبة وشخص والده، بدافع الخجل من صدمة والده مستحكمة فيه: «أحسست بطاقة قوية بفضل إرادتي التي كانت قد مست في جوهرها، مستعدا للتخلي عن كل الرغبة المتدنية القيمة».
ينقلب الشاب إلى آخر تماما، يبحث عن ما يحقق له ذاتا يكون لها احترامها وتقديرها، يتحول إلى شخص ملم بالدراسة، ومما يزيد فيه ذلك الشغف وانكبابه عليه بكل ما يملك من حواس هو دخول دكتور من أساتذته في طريقه الجديد، ليزيد شغفه مغامرة من نوع جديد في عالم الفكر لها لهفة رغبات الحياة نفسها التي كان يعيشها: «فلم يخامرني شك أن في العالم الفكري السامي أيضا، تكون المغامرة دائما ملك يمين الكائن المتلهف».
لا يكتب زفايغ رواية أو قصة بقدر ما يعاين ما يكتنف أرواحنا أحاسيس غامضة تتلاقح أو تتنافر، حسب اللحظة المعاشة مع الموقف أو الحدث أو الشخص أو المعاناة بأدوات تمتهن الحفر في الروح الإنسانية المشرئبة لينابيع طبيعتها
إن صاحب رواية «الخوف» الخبير النفسي عما يجول في النفس البشرية والخبير في ملامسة أدق الاهتزازات في رعشات الروح، لم يختر شخصية عادية أو شخصية مهنية ليلجأ لها الشاب، وإنما اختار ملحنا أو عازفا على أوتار الروح في الشاب، بحيث جعلت ألحان الأستاذ من كل الأحاسيس المتولدة في الشاب راقصة على الدوام، وفق ما يطرحه ويلد فيه شيئا جديدا كان مجهولا عليه يزيد من لهفته في أن يلم به، بالعمق نفسه والأحاسيس نفسها، لم يكن الشاب عاديا بالنسبة للأستاذ حين وجد لهفة وشغف الشاب وبتلاقي نظراتهما برز تجاذب غير طبيعي بينهما، يستشف كل منهما أن هنالك ما يشدهما إلى بعضهما، الشاب شغوف بما يطرحه الأستاذ، والأستاذ لسبب غامض لا يدركه الشاب إلا في ما بعد: «فنحن لا يمكننا أن نتعرف أبدا إلى ظاهرة وإلى نزعة فردانية إلا من لهيبها، إلا من شغفها، وكل فكر إنما يأتي عبر الدم، وكل فكرة تأتي بعد الشغف، وكل شغف من الحماسة».
تنشأ بين الشاب والأستاذ علاقة تقارب قوية جدا كانت الوسيلة للوصول إلى خفاياها هي تكملة بعض الأطروحات والدروس في بيت الأستاذ، ولأجل ذلك سكن الطالب سكنا يقع فوق سكن الدكتور لدرجة مشاركته وزوجته الغداء والعشاء، هنا يبدأ ما هو غير منسجم مع ما تلقفه الطالب عن الأستاذ، حين يلاحظ الجفاء والجمود الذي يلف العلاقة بين الأستاذ وزوجته، التي تعرف عليها الشاب قبل ولوجه إلى بيتها في موقف أحرجه في يوم سباحة حين طاردها وتبعها إلى بيتها، قبل أن يسكن في سكنه ليلقى صدمة وخوفا من معرفة أستاذه بالأمر، ولم يهدأ إلا حين طمأنته الزوجة بعدم ذكر الحادثة له.
لمدة يومين أو عدة أيام، فجأة، يختفي الأستاذ بدون إخبار أي أحد بوجهته، أو سبب اختفائه، الأكثر دهشة أن الزوجة غير آبهة بذلك، هذا ما لاحظه الطالب الذي تختلط عليه الأحاسيس وتتكاثر في فكره التساؤلات عما يعانيه أستاذه حين يهرب هكذا، رغم أن الطالب لا يجد فيه إلا سموا وفكرا ثاقبا واسعا وشخصية رغم غناها الفكري متواضعة، أصبح الشاب مصبا لعواصف من الأحاسيس، ومن خلال تطور العلاقة بينه وبين زوجة الأستاذ ووضوح بعض ما يعانيه، وبعد أن يلم بتفاصيل خاصة عما يشوب علاقة الاثنين ووصول الشاب إلى حالة من الذهانية في ما يعيشه:» كان هدوء العواطف الثقيل والعاصف هو الذي يحيل الجو أكثر ضغطا من اندلاع خصام أو شرارات حقد دفين»، أحس بهيجان غير مروض في داخله، تولده الأحاسيس المتفارقة والمتلاقية في آن تجاه أستاذه: «لا شيء يمس، بهذه القوة، ذهن مراهق، أكثر من معاناة شخص سام».
يدون زفايغ هذه الأحاسيس كأنه يعزفها بأوتار فنان بالأصل هو ملحن نفسي، ويحدد تواتراتها سواء حينما تخالج الشاب وهو وحيد أو ما يخالجه في حضور أستاذه قريبا منه ومن ثم بعيدا عنه: «قريبا منه أتحرق من المعاناة وبعيدا عنه يتجمد قلبي»، لكن الصدمة أو المفاجأة أو الطامة الكبرى كلها لا تصف المفارقة التي أسقطها زفايغ على بطله الشاب، حين يعاشر زوجة أستاذه جنسيا ويكتشف شذوذ أستاذه، ومن ثم تفسير كل ما كان يبدر منه من ردود أفعال أو أحاسيس متناقضة بين لحظة وأخرى معه، من قبل أستاذه أحيانا غضبا وارتباكا وأحيانا هدوءا وانغماسا: «يتدفق الشغف بلا انقطاع، لكن ليس بإمكانه أن يكون على سجيته ويبقى غير مشبع على الدوام، تماما كما هي حال الفكر».
بعد كل ما حدث بينه وبين الأستاذ والزوجة من أحداث وأحاديث عن حياة الاثنين ومسايرة كليهما لهذه الحياة، استطاع الشاب أن يكتشف عشق أستاذه له وعدم مبالاته بمعاشرة زوجته، ماداما قد اتفقا منذ زمن وصالهما على ما هما عليه في لحظة مكاشفة تكون فيها الأحاسيس مشتتة مبعثرة ملتبسة، لا أحد غير مختص بكوامن النفس قادر على أن يدرك ترددات اهتزازاتها وتجاوباتها ومن ثم ترجمتها إلى كلمات كما يفعل زفايغ في هذه الرواية الملتبسة في أحرفها كما في أحاسيسها.
وهكذا لا يكتب زفايغ رواية أو قصة بقدر ما يعاين ما يكتنف أرواحنا أحاسيس غامضة تتلاقح أو تتنافر، حسب اللحظة المعاشة مع الموقف أو الحدث أو الشخص أو المعاناة بأدوات تمتهن الحفر في الروح الإنسانية المشرئبة لينابيع طبيعتها، وتجذر شرايين حاجتها في اتجاهات وجوانب الحياة كافة، حين يأتي ما يتجاوب معها لتطفو على السطح من بحر الروح ولتترك وراءها ما يدهش وما يجحظ عيون الروح المتلقفة لها أو المكتشفة خزائن عمقها.
الكتاب: «التباس الأحاسيس» .. الكاتب: ستيفان زفايغ.. المترجم: محمد بنعبود
الناشر: المركز الثقافي العربي ط1 2017.
٭ القامشلي سوريا