أحداث سبتمبر التي غيرت مجرى تاريخ شعوب بأكملها

عندما لا نجد اختلافا جوهريا بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة في ملفات السياسة الخارجية، سواء ما يتعلق منها بالصراع التقليدي مع روسيا، ومحاولة تطويقها بالتمدد نحو الشرق الأوراسي، أو بالعلاقة التنافسية مع الصين، أو الانسحاب من أفغانستان والعراق، وترك هذه البلدان في فوضى طائفية ودينية، أو دعم إسرائيل المطلق في إرهابها واستيطانها المتواصلين، أو كيفية التعامل مع إيران أيضا في ما يخص طموحاتها النووية. ندرك أنّ الولايات المتحدة لن تتعلم الحقيقة القاسية التي تقول، إنها فقدت التحكّم بالسردية الواحدة، وإنّ القوة ليس لها فائدة، ولن تتعلم الدرس الذي يقول إنها قوةٌ متآكلة بسبب تدخلاتها الخارجية، وإنّها ربما تعرف كيف تبدأ الحرب، لكنها لا تعرف كيف تنهيها.
حدثت خسارة الحرب في أفغانستان عن طريق تحالفها المتضخم، الذي ظن أنه كان يستطيع هدم طالبان، وبناء بلد جديد من الصفر بهوية مغايرة وثقافة بديلة. في النهاية، أنتج هذا التدخل كارثة شارك في صنعها ما لا يقل عن أربعة رؤساء أمريكيين، اتخذوا من محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية سببا لحروبهم. وهي حروب تتشابه بشكل لافت في أسبابها ونتائجها، وغالبا ما كانت مؤشرا سيئاً على حظوظ الرؤساء الأمريكيين في صناديق الاقتراع، لذلك بحث أوباما عن تحسين إرثه السياسي في لحظة حماسته بإعلان مقتل بن لادن. وفي مشهد مكرر، فعل ترامب الشيء نفسه، عندما خرج إلى الاعلام ليعلن عن قتل البغدادي، كذلك انتشى بايدن بمقتل الظواهري. إدارة تكرر نفسها سواء بوجهها الجمهوري أو الديمقراطي.

الولايات المتحدة لن تتعلم الدرس الذي يقول إنها قوةٌ متآكلة بسبب تدخلاتها الخارجية، وإنّها ربما تعرف كيف تبدأ الحرب، لكنها لا تعرف كيف تنهيها

نستغرب من «عدم استخدام الجيش الأفغاني قدراته القتالية بدءا من سلاح الجو ووحدات المشاة».. جاء ذلك في مؤتمر صحافي لمتحدث وزارة الدفاع الأمريكية، جون كيربي، للإعلان عن وصول الدفعة الأولى من القوات الأمريكية إلى مطار كابل لبدء عملية إجلاء الرعايا الأمريكيين من أفغانستان. يبدو أنّ تكلفة التورط في مناطق الحرب والأزمات تتحول في النهاية إلى «وهم بصري»، لم يستوعبه الديمقراطيون في إدارة بايدن، لكن دعاة الحرب والتدخل الخارجي من الجمهوريين على غرار بولتون، خلصوا إلى أن الانسحاب الأمريكي الفاشل من أفغانستان، سيؤثر في مستقبل وشكل التحالفات الدولية في المنطقة والعالم. وأنّ خصوم أمريكا سيستفيدون من هذا الانسحاب، وسيولّد خروج القوات الأمريكية وقوات حلف الأطلسي (الناتو) فراغا في ما يخص التحالفات الاستراتيجية في آسيا الوسطى، والخصوم هم من سيملؤون هذا الفراغ. ترامب أيضا، كانت له رؤية دقيقة حقيقة، وإن كان موقفه شديد السلبية عندما تساءل: «لماذا يحارب الجنود الأفغان؟ لقد وصلتني معلومات جد سيئة من أناس كثيرين. الحقيقة أن أجورهم هي من بين أعلى الأجور التي يتقاضاها الجنود في العالم، إذن قتالُهم لطالبان سببُه المال، فإذا أوقفنا الدفع وغادرنا فإنهم يتوقفون عن القتال، الأمر لا علاقة له بالشجاعة. الحقيقة أن بلادنا كانت تدفع أموالا هائلة للجنود الأفغان، وكأننا كنا نقدم لهم رشاوى حتى يقاتلوا.. هذا كل ما في الأمر». «بصفتنا أفارقة، فإننا نواجه حالة من إعادة الحسابات، بينما يشعر البعض بأن الغرب يفقد إرادته للقتال. بعض حلفائنا الغربيين أُصيبوا بصدماتٍ، أثناء تجاربهم بالشرق الأوسط وأفغانستان. ويواجه آخرون ضغوطا محلية في أعقاب الجائحة، لم تكن افريقيا آنذاك ضمن أولوياتهم، وهي أقل الآن». هذا ما عبر عنه الرئيس النيجيري محمد بخاري أمام مشهد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بعد 20 عاما من القتال. والخطاب الثاوي يكشف عن تضاؤل الثقة في قيادة أمريكا ومصداقيتها، وإن استمرت في تبني غطرسة القوة التي لم يكن لها أساس منطقي في التعامل مع الأزمات، دون تخطيطات محكمة، قد تؤدي بها للسقوط المدوي. ففي نهاية المطاف، جنت أمريكا ما زرعته، اعتُبرت دولة محتلة، وجبت مقاومتها، وأهدافها السياسية كانت غير واضحة وضبابية إلى أقصى الحدود، وقوتها العسكرية لم تكن كافية لحسم الأمور. وحصادها المرّ، أقلّه أن وجدت نفسها تتحرك للانسحاب حتى دون التشاور مع الحلفاء، تحمل بذلك الهزيمة في أفغانستان، تداعيات خارج حدود هذا البلد المنكوب، ورسائل واضحة للحكام الديكتاتوريين الذين يحتمون بأمريكا وقواعدها العسكرية، فأهمية التأثير النفسي لهزيمة كهذه في الداخل الأمريكي، وفي حلفاء واشنطن في الخارج تنطوي على حساسية بالغة. هذا ما استوعبه دونالد ترامب في وصفه للانسحاب الأمريكي من أفغانستان: «لا أعرف كيف نسميه، هل هو هزيمة عسكرية أم هزيمة نفسية؟ لم يحدث مثل هذا أبدا. وإذا عدنا للتاريخ وقضية الرهائن في عهد الرئيس جيمي كارتر، اعتقدنا جميعا آنذاك أن ما حدث قد سبب لنا حرجا كبيرا، وقد أخرجنا رونالد ريغان من هذا المأزق». فهل ما نراه فعلا هو «انتصار لحركة التحرير الإسلامية؟». وبالتالي، فهم لا يشكلون أي تهديد خارجي. قد لا يكون جانب الصواب أستاذ العلوم السياسية أليكسي مالاشينكو بهذا القول. وقد يكون فعلا كبار الأعضاء في طالبان الموجودين في كابول، لا يريدون أي عدوان ولا خلافة عالمية، بل سينخرطون في تنظيم أمور الدولة الأفغانية، وجعلها إسلامية. سوف يفكرون في الإصلاحات، وتحسين الوضع الاجتماعي لأولئك الذين ساندوهم، وكانوا الغالبية العظمى من السكان، فلا عجب إذن أن الأفغان لم يقاتلوا طالبان.
يحدث ذلك في وقت لا يزال فيه المحتلون والديكتاتوريون الذين يستهزئون صراحة بالمعايير الأساسية لحقوق الإنسان، يكافَؤون بالمال والسلاح، ولا يزال الفساد والإرهاب تغذيه أموال دافعي الضرائب الأمريكيين، والأشخاص الذين يعانون تحت نيرهم يحصدون التجاهل (الفلسطينيون في ظل الاحتلال الإسرائيلي خير مثال). وبالمحصلة، لم ينجح الغرب إلا في نشر دموية وبؤس الحرب على مدى عقدين، والقدر الأعظم من هذا البؤس وهذه الدموية تحمّله الأفغان أنفسهم، فضلا عن أن إحصاء كلفة هذا التدخل وفقاً لأعداد الأرواح التي فقدتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في صفوفهما فقط – مثلما لا يزالون يفعلون اليوم في أكثر من بؤرة توتر على غرار المواجهة الأطلسية ضد روسيا على الأراضي الأوكرانية – هو الدليل القاطع على أنها حضارة تتدهور. ومعاييرها الليبرالية تترنح، وإن أصرّوا على النظام العالمي أحادي القطبية القائم على قواعد، كما يرددون، فهم يعيشون الوهم فعلا، فالأحداث سبقت تفكيرهم وتعنتهم المتقادم، وسيعترفون في النهاية بأنّ العالم قد تغير، ونظامهم الدولي لم يعد مجديا أمام تعدد التكتلات، ورغبة قوى عظمى صاعدة في إعادة تنظيم التوزيع الاستراتيجي للهيمنة، والقطع مع مرحلة الانتشاء الغربي بإبقاء العالم تحت سيطرته، ونهب ثروات الشعوب، وإسقاط الأنظمة الرافضة للإمبريالية والاستعمار.
ربما ما تراه واشنطن إنجازا حتى بعد الانسحاب المهين، هو تركها طالبان على أبواب منافستها التقليدية روسيا، لتثقل كاهلها بأعباء اقتصادية لم تكن في حساباتها، ولعلها ترى في فوضى أفغانستان مصدر تعطيل، ولو نسبي، لمشروع طريق الحرير الممتد من الصين لأوروبا، وبالتالي، مصدر قلق على المستويين المالي والأمني وميزانيات الدفاع لبكين، إضافة إلى موسكو وطهران. وكما هي معتادة إثر كل تدخل عسكري، فإنها تترك مصير البلد للمجهول، وهي قد أبقت العالم أمام قلق حقيقي من أن أفغانستان يمكن أن تعود مرة أخرى لتصبح أرضا خصبة للتطرف، خاصة في ظل تجاهل المجتمع الدولي لهذا البلد الذي يعاني أزمات اقتصادية حادة، ويفتقر لأدنى مقومات الأمن، ولا يحظى إلى الآن بتعامل سياسي أو انفتاح دبلوماسي.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول لا تتحدثوا بلساني للتلفيق:

    لا تصدقوا أكذوبة أمريكا فهي أكذوبة العصر ?

اشترك في قائمتنا البريدية