أحمد خلف… يكتب سرديات الشخصية المأزومة

تبدو حكاية «البطل الوجودي» هي السمة الأبرز في رواية أحمد خلف «في الطريق إليك» الصادرة عن «منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق/ بغداد/ 2023» بوصفها توليفة سردية تقوم على مجموعة حكايات، لكنها تلتقي عند توصيف الشخصية الوجودية، بوصفها شخصية تعيش أزمتها من خلال الحكي عن استلابها، وموت إرادتها، وعدم قدرتها على المواجهة، ما يجعل هذه الرواية تحتمل مستويات قرائية متعددة، على مستوى قراءة وجودها بوصفه مجالا تبئيريا، وعلى مستوى قراءة زمنها الروائي، بوصفه قناعا للزمن السياسي والزمن النفسي، وانتهاء بمستوى قراءة المكان بوصفه مكانا دستوبيا، فالجريدة لم تعد مكانا آمنا للبطل سعيد، والسلطة أضحت مكانا للخيانة بالنسبة للملك، والسجن والفندق والشارع هما أمكنة تمثيلية لموت الإرادة، وللإحساس بالمطاردة والنهاية بالنسبة لصديقه «آدم»..

لعبة السرد ومحنة الشخصية

مأزق شخصيات الرواية يجعلها تستدعي معالجة سردية لمحنة البطل الوجودي، الذي يعيش رهابات القلق والمطاردة والنفي الداخلي، والإحساس بالخيانة والكراهية، ما يدفعها إلى الافراط بالتخيّل، والانخراط في علاقات مضطربة مع الآخرين، لتنتهي نهايات تراجيدية – الملك انتحارا مع زوجته الخائنة، وسعيد إلى التقاعد اضطرارا، وآدم إلى السجن والموت إعداما رميا بالرصاص.. هذا الاضطراب هو جوهر تمثيل الوعي الوجودي لهذه الشخصيات، التي تعاني من أزمة مواجهة «نسيان كينونتها» حيث يندفع البطل «سعيد» تحت يقظة ذلك الوعي إلى مواجهة إيهامية، مع ذاته المُستَلبَة، ومع السلطة والمرأة، ومع العالم الذي يحوطه، يكون فيها أنموذجا لشخصية البطل الرائي والشكّاك والباحث عن المعنى، وهي سمات تكشف عن أزمة هويته ووجوده، ما يدفع الروائي إلى تحويل لعبة السرد إلى «لعبة تجريب» يبحث من خلالها عن تصورات تخصّ عوالم شخصياتها، وعن نهايات تراجيدية لها، غير النهاية المفتوحة التي انتهت لها الرواية، والتي جعلتنا أمام لعبة سرد مفتوحة..
شخصيات الرواية في لعبة هذا السرد هي الأقرب إلى الأقنعة، وأن وعي الروائي لوجودها الاغترابي، جعلها تتمثل قلقه وإحساسه باللاجدوى، وفي اتجاهٍ كشف عن طبيعة وظائفها في تلك اللعبة، عبر تقانات التطهير، والاعتراف بما يتساقط من رهاب «وعيها الشقي» المضطرب، حيث يعيش «البطل سعيد» بوصفه بطلا مركزيا، أزمة هذا الوعي، من خلال الاصطدام بالتفاصيل الصغيرة في البيت، وعند يوميات الزوجة، أو مع صديقه «آدم» الذي يعيش مسؤولية عذاباته، وقسوة موته، أو مع رئيس تحرير الجريدة الذي يجعله أكثر إحساسا بالاغتراب، وحتى في هوسه الجنسي، أو تعاليه، أو برغبته كتابة رواية تخص تمثيل وجوده.. كما تتمثل لعبة السرد في هذه الرواية عبر إرهاصات الأنا الرائية، عبر وجودها المشبوك بيوميات عالمٍ قاسٍ، يجعلها تذهب إلى التورية والترميز عبر استعارة الأقنعة السردية، فتتحول وظيفة السرد إلى وظيفة مركبة، يختلط فيها المكبوت بالاعتراف، وباستدعاء شخصيات مأزومة – البطل سعيد الذي يعيش قلقه الوجودي، والملك الذي يعيش هاجس الخيانة، وآدم الذي يعاني من المطاردة – ما يجعلها تعيش أزمتها الوجودية عبر تمثلات القلق والخوف واللاجدوى، والإحساس الغرائبي بأن هذا العالم يحتاج إليه كشاهد تراجيدي.
كما أن لجوء الروائي إلى لعبة السرد المُركّب، يوهمنا بتجريب «كتابة رواية» تقوم على استدعاء شخصيات مُركّبة من السيرة، ومن الميثولوجيا والتاريخ، لكنهم يتماثلون عبر الانغمار في الاضطراب الداخلي، وفي الإحساس الفاجع بالخيانة والمطاردة، مثلما يستدعي لها زمنا مركبا مشبوكا بتمثلات نفسية، تكشف عن اضطرابه، وتوحي لنا وكأنه كنايات مُركّبة، مفتوحة على كناية الزمن السياسي العراقي، وكناية عن زمنه الشخصي، الذي يهرب منه إلى الميثولوجيا، وإلى الكتابة، أو الجنس، أو إلى الرغبة بالإحالة إلى التقاعد. البطل «سعيد» يعيش نقائض اسمه، إذ يساكنه الرفض والقلق والحذر والإحساس بالتعاسة والمطاردة، فيعمد للبحث عن التغيير بعد أن أمضى 35 سنة في عمله الوظيفي، مثلما كان يعمد إلى التفكير بكتابة الرواية، والى اصطناع شخصيات يعيش معهم بوصفهم مظهرا للتطهير الميتافيزيقي من الإثم كما في علاقته بآدم أو مظهرا للرفض، كما في علاقته برئيس التحرير أو مظهرا للتعويض كما في استدعاء حكاية «الملك وخيانات زوجاته وأتباعه» أو مظهرا للعنف الجنسي، بوصفه نزوعا نحو إشباع رمزي، وهوس باصطناع وجودٍ متعال، تتمثله لغة السرد، والنرجسية التي تستغرقه، فيلجأ عبرها إلى الانغمار في تدوين سرديات يومية، يجعل منها معادلا نفسيا لأزمة اغترابه الداخلي، وعلاقته المضطربة بالعالم الذي يحيط به.
يضعنا الروائي في سياق لعبة سرد مفتوحة، تقوم على مواجهات فارقة، تبدأ من مواجهة الواقع والاحتلال، ولا تنتهي عند مواجهة النفس والجسد، والذاكرة، واكتشافه حجم محنته الوجودية بعد اعتقال صديقه «آدم» وإحساسه بخيانته، حيث يتورط مع العالم في حرب مفتوحة، حرب مع جسده المتشظي بين «ناهد وأمها» وحرب مع رئيس التحرير، وحرب الزمن السياسي الجديد الذي يُشعره باللانتماء.

سرديات الرواية المجاورة

أحمد خلف من أكثر الروائيين انشغالا بصياغة عوالم الشخصية المأزومة، التي تعيش صراعاتها، بوصفها تمثيلا لوعيها الوجودي المضطرب، حيث يكون استغراقها بالهم الداخلي، وبالشغف الجنسي، انشغالا تبادليا مع توصيف أزمته، وسأمه من البحث عن الذات، فتبدو شخصيته السردية، تشبهه، أو ربما يكتب من خلالها سيرته، فيعمد إلى مركزة سردنة تلك السيرة، من خلال تمثيل ذاته، فيستعير لها عوالم تتوزع بين أوهام البطولة والأيروسية والبحث عن الفضيلة، والبحث عن الخلاص، لذا عمد في هذه الرواية إلى توظيف مجاورات سردية، بوصفها تمثيلا تجريبيا للذات التي تعي أزمتها، فيعمد إلى وضع تلك المجاورات في سياق التأليف، وتوظيف نصوصها كإحالات إلى «إحياء صورة الإنسان المأزوم» عبر استعادة صور مماثلة له من خلال الحفر الواقع، أو في الأسطورة الشعبية، وفي اتجاه جعل وجودها السردي، نظيرا لوعي البطل/ السارد/ الروائي لأزمته الشخصية الوجودية. جسّدت المجاورات السردية نزعة التجريب في الرواية، بدءا من العنوان «في الطريق إليك» الذي يحضر بوصفه وظيفة إيقاظية، تدفعه للتساؤل عن الغامض والمجهول، وربما لاستفزاز الجسد ذاته، فالجملة لا تعدو أن تكون صوتا، يُحرضه على الاستدعاء والانتظار» في الطريق إليك، ها أنا في الطريق إليك لا تتعجل في إصدار الحكم عليّ. كان الصوت الناعم المنبعث من المجهول يرغمه على السؤال: من هو في الطريق إليّ أنا المنسي والمهمل الذي يحاول أن يذكر الآخرين بنفسه بأنه حي يرزق».

بدت لعبة «الصوت» وكأنها تمثيل لصوت داخلي، يكشف عن اضطرابه الداخلي، وعن هوسه بالبحث عن متلقِ آخر، بمعناه الإصغائي والإشباعي أو النفسي، وهذا ما أكمله الروائي في مجاوراته السردية الأخرى، بدءا من إدخاله قصته «بئر الآبار» إلى السياق، كإحالة إلى توصيفه القصصي، وإحالة إلى فكرة البحث عن الماء في القرية المجهولة، بعد أن جفّ نهرها، وهي إحالة إلى توصيف «المسكوت عنه» في سيرة المكان العراقي بوصفها «فنتازيا واقع مرير» وتواصلا مع توظيف حكاية «آدم» كنوع من التطهير الأخلاقي، في سياق إدانته للحرب، وفي سياق علاقته مع أصدقائه، فبقدر واقعية سيرة آدم، إلا أنه يستدعيها إلى السياق السردي لتؤدي وظيفة المجاورة السردية من جانب، التي تكشف عما يعتور في أعماق شخصيته الوجودية، من أفكار محتدمة، ومن هواجس مشوشة من جانب آخر، كما أن توظيفه للبنية الإطارية لحكاية «ألف ليلة وليلة» ليس بعيدا عن سياق التركيب في لعبته السردية، فـ»الملك» الذي يمثل السلطة الغاشمة، لكنه يعيش أزمة الخيانة، بما فيها الجسد والقرابة، إذ تُمثّل ثيمة الخيانة نقطة الجذب، أو نقطة «التبئير» في الرواية، تجذب إليها زوايا النظر الأخرى، لتصنع مجالا سرديا يجمع بين سيرة البطل الذي يعيش هواجس الخيانة في عمله «إذ لم يكن راضيا على العهد الذي أصبح من الماضي، ولا في العهد الذي أصبح حاضرا حيث أطلق عليه عهد الديمقراطية الكسيحة». ككناية عن الخيانة التي يتعرّض لها الوطن بسبب الاحتلال، مع سيرة صديقه آدم الذي تتلبسه فوبيا الوشاية والخيانة، وكذلك مع سيرة الملك والملكة العاشقة اللذين يواجهان رهاب الخيانة أيضا..
هذا التجاور حول ثيمة «الخيانة» افترض وجود التجاور في وحدات البنى السردية للرواية، فهواجس البطل ليست بعيدة عن هواجس الملك، ولا حتى عن هواجس «آدم» فكلهم يتمثلون محنة البطل الوجودي الذي يغترب في بيته عن زوجته، وفي دائرته عن مديره الجديد، ليبحثوا عن وجود إيهامي مجاور، عبر الكتابة كما عند «سعيد» أو عبر الأمان والحرية واللذة كما عند «آدم» أو عبر القوة الطاعة القهر والإشباع الجنسي، كما عند «الملك» وكلهم يواجهون في النهاية محنة تراجيدية، فالبطل يذهب إلى التقاعد، وآدم يذهب للإعدام، والملك ونساؤه زبرجد ورباب، وكاتمو أسراره يذهبون إلى الموت العنيف.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية