نظم معرض القاهرة الدولي للكتاب، في دورته الأخيرة، لقاءً مع الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في قاعة ديوان الشعر. وصل حجازي إلى القاعة متكئا على عصاه، يرافقه الأديب أحمد فضل شبلول. ورغم تجاوزه التسعين، ونيل السنين من جسده، إلا أن وجهه ظل مشرقا بالبشاشة والحيوية، يبادل الحضور التحايا، ويمنحهم الابتسامات بسخاء. فهو الشاعر الإنسان، المعروف بتواضعه وإنسانيته، فلا حواجز تفصله عن جمهوره، ولا بروتوكولات تقيّد لقاءاته. على امتداد مسيرته، جعل من الشعر وسيلة للرفض والصمود والمواجهة، في وجه القبح والخذلان والاستسلام، رافضًا المساومة أو الانسياق وراء المغريات.
لقد رحلت زوجته منذ وقت ليس بالبعيد وتركته نهبا للذكريات، ولكنه ليس وحيدا فهو في وجدان محبيه سواء في مصر أو العالم العربي، وفي ربوع الدنيا، وهو صاحب «مدينة بلا قلب» لأنه شاعر القلب الإنساني وشاعر المضمون والرؤيا، وليس مجرد رصف الكلمات وتوخي الأسجاع والتزام المطولات واغتنام المناسبات، تتدفق موسيقى إيقاعية من حنايا كلماته فتجعل القصيدة لوحة فنية ثرّة الدلالة، إنسانية الملمح قومية المنزع، وقد غدت خبز الرافضين وملح المتمردين الذين يحلمون بغد عربي مختلف، كله تقدم وعدالة ونقاء وصراحة كذلك، وطن عربي يسع الجميع سقفه الحرية وأرضه الكرامة الإنسانية وديدنه الجمال تربط الكلمات بين العقول والقلوب، فلغة الضاد تسع الجميع وتفتح أبجديتها لكل مقتدر على ترويض صعابها وامتلاك ناصيتها، فليس الشعر نهبا لكل واحد، بل هو ملكة وثقافة شعرية وقضية وموقف ورسالة والتزام بالهم الإنساني والوطني والقومي.
ألقى الشاعر قصيدة من ديوانه عن فلسطين تعود إلى تاريخ 16 أبريل/نيسان 1978 مقتربا غاية الاقتراب من الجرح الفلسطيني النازف في الوجدان العربي، وكأنه يقول ضمنيا ما أشبه الليلة بالبارحة، فنكبات فلسطين تترى منذ عام 1948 إلى مذبحة كفر قاسم ودير ياسين وانتفاضة الحجارة، إلى مجازر التسعينيات وصولا إلى مذبحة غزة التي فاقت كل مذابح الدنيا، لأن ضحاياها كانوا الأطفال، ورود الدنيا وفاكهتها وريحانتها، غير أن الصهاينة ما أرادوا لهذه الورود إلا الإبادة هم وأمهاتهم، فكانت بذلك نكبة عظيمة أمام صمت العالم ولا مبالاته. في قصيدة حجازي يتجسد حضور فلسطين من خلال الخيمة بما تتضمنه من محنة التشرد والترحال والنار، التي تتضمن الإباء، المقاومة العنفوان، التمرد من أجل القضية واستعادة الأرض المسلوبة رغم الدهر:
إنني أحلم الآن،
لم تأت
بل جاء جيش الفرنجة
فاحتملونا إلى البحر نبكي
على الملك،
لا، لست أبكي على الملك
لكن على عمر ضائع لم يكن
غير وهم جميل!
فوداعا هنا يا أميري!
آن لي أن أعود لقيثارتي
وأواصل ملحمتي وعبوري
تلك غرناطة تختفي
ويلف الضباب مآذنها
وتغطي المياه سفائنها
وتعود إلى قبرك الملكي بها،
وأعود إلى قدري ومصيري
من ترى يعلم الآن يعلم في أي أرض
أموت؟
وفي أي أرض يكون نشوري؟
إنني ضائع في البلاد
ضائع بين تاريخي المستحيل
وتاريخي المستعاد
حامل في دمي نكبتي
حامل خطئي وسقوطي
هل ترى أتذكر صوتي القديم،
فيبعثني الله من تحت هذا
الرماد
أم أغيب كما غبت أنت،
وتسقط غرناطة في المحيط؟!
حضرت غزة كذلك وأحداثها في أسئلة الحضور من مختلف البلاد العربية، وفي ردود الشاعر، ولا شك أن الشاعر لا يمكنه أن يخفي حسرته مما حدث، وحزنه كذلك على الدم الفلسطيني الزكي المسفوك بلا جريرة، وهل يرتكب الأطفال الجرائم؟ أم أن الجلاد هو الضحية في شريعة العالم المتمدن، شريعة الغاب غدت دستور الدنيا في القرن الواحد والعشرين، ما دام القاتل غير عربي والمقتول عربيا، إن هذه النكبة قد عرت العالم من نفاقه ومسوح الرهبان التي يرتديها والدساتير التي يدرّسها في كلياته، إنها فضيحة ونكبة للمنظومة الإنسانية برمتها. وتطرق الشاعر ردا على سؤال حول مرحلة إقامته في الغرب في باريس عاصمة الأنوار والثقافة والحرية، تلك المدينة الخالدة التي أشعت على عقول المصريين منذ القرن التاسع عشر والقرن العشرين، بدءا برفاعة رافع الطهطاوي وأحمد ضيف وطه حسين وأحمد حسن الزيات ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن بدوي ومحمود أمين العالم وزكي مبارك وأحمد عبد المعطي حجازي، لقد اعترف أنه وهو في باريس ظل يحمل مصر في قلبه ووجدانه، وقضايا أمته العربية ظلت شاغلة عقله ووجدانه، خصوصا معركتها ضد الرجعية والتخلف والاستبداد والجهل، وأقر بفضل الأستاذ الجزائري الفرنسي جمال الدين بن الشيخ أستاذ الأدب العربي في جامعة السوربون، الذي اقترح على حجازي تدريس الأدب العربي في الجامعة فوافق، وبدأت رحلة التدريس في فرنسا وترسخت الصداقة بين حجازي وجمال الدين بن الشيخ، الذي أهداه حجازي قصيدة قرأها على الحضور في أمسيته الشعرية.
وردا على سؤال معركة الشعر الجديد التي خاضها شباب مغامرون يريدون حياة جديدة للكلمة الشعرية، وأفقا شعريا جديدا يطرح التقليد والتبعية والابتعاد عن اتخاذ القدماء قبلة يولون وجوههم شطرها، دون أن يتنكروا لميراثهم الشعري وأصالتهم وحداثتهم في زمنهم، لكن واقع العرب الحديث في تفاعله مع العالم المتمدن وتشعب الحياة واختلافها عن حياة الأقدمين، تحتم طرقا أخرى ومسالك جديدة للإبداع، فالقصيدة العمودية لا يمكنها مجاراة نسق الحياة الجديدة، في حلمها وانكسارها، في رغباتها المصرحة والمقموعة، تلك المعركة التي خاضها حجازي ضد العقاد تحديدا، الذي كان يحيل قصائد الشعراء الشباب أمثال أدونيس وحجازي ودنقل والسياب والملائكة والبياتي وبلند الحيدري وصلاح عبد الصبور، على لجنة النثر للاختصاص حين كان يرأس لجنة الشعر في المجلس الأعلى للفنون والآداب وكان يسمي شعرهم بالشعر السائب، ما دفع بحجازي إلى الرد عليه بقصيدة غاية في القسوة والعنف اللفظي، وقد ندم عليها كثيرا لما علم أنها أوجعت العقاد، لكن احترام العقاد وتوقيره والاعتراف بفضله على الثقافة العربية ونضاله السياسي الشرس وصونه الكلمة عن الابتذال والشحاذة لا ينكره أحد.
حضرت الجزائر بزخم ثورتها في أمسية حجازي الشعرية، من خلال ما قرأه على الحضور، ومن خلال أسئلة المستمعين لقصائده الملقاة بصوت ما زال يحتفظ بعنفوانه، متمازجا مع حركات يديه المنسابة كموج البحر تفاعلا مع الموقف والمعنى وشدة اللحظة وتوترها، وقد تلا على الحضور مقطعا من شعره عن الثورة الجزائرية «أوراس»:
ترتج على قمم الأوراس
زلزال في مدن المغرب
لم يهدأ منذ سنين ماؤه
لم يترك في جفني أملا في نعاس
يأتي المولود على صوت الزلزال
ويموت رجال
فيولد على صوت الزلزال
ولا شك أن لكلمة الزلزال مفعولها في الوجدان فالتنبؤ به مستحيل ومقاومته أكثر استحالة، وكذلك الثورة الجزائرية التي اجتثت جذور البغي والفساد والهمجية الأوروبية الكولونيالية، ممثلة في الاستعمار الفرنسي الذي امتد من عام 1830 إلى عام 1962، حين اجتثت جذوره ثورة تعد من أعظم الثورات في القرن العشرين.
لقد كان لقاء متميزا وندوة شعرية جمعت الشاعر، وهو صامد في وجه الزمن بالرفض والصمود والالتزام نفسه بقلب يفيض حبا للناس وللجمال وللغة العربية وللشعر الجيد الذي يقاوم بجماله وأصالته عنفوان الزمن وجبروت التاريخ.
كاتب جزائري