أحمد ولد قدور: عزف منفرد

حجم الخط
6

كان أول ما اشتريت من منحتي، آلة تسجيل للاستمتاع بالطرب الشعبي، وكان شريط العواكَ وخربوعة، وحادة وعكي، من أولاها. شغلت أول شريط لولد قدور، أمام والدي، كان الوالد ينهانا عن الموسيقى، لكنه كان يستمع إليها جيدا، بنصف أذن.. أما الوالدة فكانت تملأ أسماعها بها، بل وتغني معها، وترقص لها. سألته بعد أن انتهى الشريط: كيفْ جاءكْ ولد قدور؟ قال: «اللي يغني وحده يطلب.. والفراجة مع الرباعة!».
يقصد بالمطرب الوحيد الذي يتنقل بين الأسواق الأسبوعية الشعبية بآلته الوترية، طالبا الصدقة. أما الفرجة الحقيقية فتكون مع الرباعة. تتكون الرباعة الأصلية من أربعة مطربين يقدمون وجباتهم الغنائية بآلتين مختلفتين: أولاهما بلوتار وتعريجة وبندير ومقص، والثانية بالزمارة والأدوات الأخرى. وأدت ظروف الانتقال إلى المدن البعيدة، وانشغال بعض أعضاء الرباعة بالفلاحة، إلى بروز ظاهرة الثنائي الشعبي. أما ظاهرة المغني الواحد فارتبطت بالحلاقي، بمن يعرفون بالمداحة، وهم يؤدون القصص الديني، والغزوات، والقصائد الاجتماعية مثل، عبد الكبير البهلولي، وعبد الكريم الفيلالي، ومحمد ولد آسفي، وسواهم.
عرفت ولد قدور مغنيا منفردا، لكنه كان بمثابة رباعة، صوت رقيق، وعزف على آلة لوتار بطريقة متفردة. مخزونه من التراث الشعبي المغربي في منطقة الشاوية ليس له حد، وقد انفرد بأداء قصيدة «الوشم الرقيق» ولم يؤدها أحد سواه إلى الآن، قصيدة ذات بناء خاص، ومحتوى عميق: يبدأ القسم الأول منها بطلب من الحجام أن يرسم وشما رقيقا في مناطق متعددة من جسد المحبوبة. الوشم عبارة عن صور من بينها صورة الأطفال يقرؤون القرآن، وألواحهم المسطرة، والفقيه هو العلام. أما القسم الثاني فهو رحلة صيد الغزلان، وفيها وصف دقيق الجمال لغزالة مع أبنائها، وهي تتوجس من أفعال الرماة على فلذات كبدها. وتنتهي القصيدة بربط وثيق بين قسميها. أشبه هذه القصيدة بقصيدة النجمة التي أداها لأول مرة العوني والبهلول، والتي أحياها في الآونة الأخيرة الكثير من المطربين الشعبيين، وهم يتفننون في أدائها. هاتان القصيدتان قديمتان جدا. ويذكر ولد قدور أنه سمعها من أبيه، وهو صغير، حيث كان يلهيه عن بعض الأشياء بدعوته إلى سماعها. يبدو لنا ذلك في كون حافظته قوية للتراث الشعبي في منطقة الشاوية.

ومن بين أهم معزوفاته «ساكن العلوة» الذي اشتهر به حتى صار البعض يعتقد أنه مبدعه، وهذا غير صحيح. إنه أبدع في أدائها لأنه ابن المنطقة التي أدى قبله الكثيرون هذا الساكن مثل قرزز ومحراش، وصالح والمكي، والعوني والعراش، وسواهم. يعود لولد قدور الفضل في أنه ساهم في نشرها في العقود الأخيرة، إلى جانب أجيال جديدة من أولاد المنطقة مثل، منير البهلولي وعبد الإله الشباني. وفي هذا دليل على أن أبناء المنطقة هم أدرى المغنين بتراثها. فساكن «العمرية» مثلا لا يتقنه سوى أولاد حريز، وأداؤه مع علي وعلي والحطاب كان الأصل، وقد استمر هذا حتى الآن مع إخوان البصير، وأولاد بن قربال، وإسماعيل ولد الجيلالي.
لم تتح لي فرصة اللقاء مع ولد أحمد ولد قدور والحديث معه إلا مرة واحدة، عندما حضر إلى مناقشة أطروحة حسن نجمي حول العيطة التي كنت رئيس لجنتها. كانت هذه الأطروحة حدثا في تاريخ كلية الآداب في المغرب، لقد حضرها الكثير من المطربين الشعبيين والعصريين المغاربة، وكانت جديدة ورائدة في بابها وموضوعها. ويذكرني هذا الحدث بما قرأته عن دخول راوي السيرة الهلالية إلى رحاب كلية الآداب المصرية لأول مرة على يد الباحث عبد الحميد يونس. فمتى ستصبح الثقافة الشعبية المغربية جزءا من مقررات كلياتنا؟ إننا لا نتذكر، عادة، رواد الثقافة الشعبية، إلا بعد وفاتهم رغم أدوارهم الكبيرة في حفظ الذاكرة الشعبية، والترويج لها، بطرق فنية متعددة تكشف انتماءهم لهذا التراث، وحرصهم على استمراره. أتذكر جيد، وأنا طفل صغير، كيف كانت جنازة بوشعيب البيضاوي في مدينة الدار البيضاء. كانت حدثا مشهودا، ولم تتكرر إلى الآن. وأتذكر في السياق نفسه ما كان قد كتبه صلاح عيسى عن جنازة أم كلثوم في القاهرة، ما يؤكد أن المتخيل الشعبي، والذاكرة الشعبية تراث لا يقل أهمية عن أي إبداع أو فكر.
تفنن ولد قدور في أداء أصناف وأنواع من التراث الشعبي المغربي، وأهم ما يتميز به عن غيره تهليلاته. وكان عزفه المنفرد مطبوعا بأصالة عتيقة. ظل وتره ثلاثي الأوتار كما كان قبل أن يضاف الوتر الرابع. وظل يعزف بأصبعه دون سطعة، أو ريشة. سجل الكثير من الأشرطة والأقراص المدمجة منفردا أولا، ثم مع بعض الشيخات. وفي إحدى أغانيه مع إحداهما، نجد نقيضة على غرار نقائض الشعر العربي، فمن أول الشريط إلى آخره، كان يتناوب معها في أداء حبات العيطة، وكل من جاءت نوبته يقدم نوبة في هجاء الآخر، والتمثيل به، بطريقة لا تخلو من سخرية، وتنتهي الوجبة بالصلح بينهما.
حافظت الذاكرة الشعبية على تراث مهم، لكن دراسته مطلب حيوي للتطوير والإبداع والتجديد.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الحریزی و الحمداوی- الدار البیضاء:

    رحم الله احمد ولد قدور. انه کان فعلا فنانا شعبیا یحافظ علی الثرات المزابی و الشاوی. لقد ابتهجنا بغنائه و طربه و کلماته و امثاله في الاعراس و الحفلات. کنت اسلمه علیه یومیا یوم کان یمر امام منزلنا و هو یرتدی الجلابه الحمداویه و الجلابه البزیویه. رحمه الله و اسکنه فسیح جناته و تحیه لکل ابناء العلوه و اولاد حریز.

  2. يقول ابن الوليد. المانيا. ( و على تويتر ibn_al_walid_1@ ):

    يا لسعادتي بالمقال .. شكرا لك سي يقطين ..
    .
    لم اعثر على “الوشم الرقيق” في الانترنيت .. و لربما تكون مناطقية نوع ما .. شاوية ديال الصح ..
    .
    فاخترت ما هو معروف .. العلوة .. و ما ادراك ما العلوة .. بصوت و عزف أحمد ولد قدور ..
    .
    الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=8jTjK50DIdQ
    .
    و كما نلاحظ .. الاغنية نص نص .. بمعنى الموسيبقى على قدر الكلمات .. و مونوطون في اغلبها .. لان هناك
    نص طويل يحتوي على اشياء كثيرة .. قصص .. لوحات .. حكم .. حب .. ألم .. الخ .. و هنا قد تصل النشوة دروتها
    عند محبي هذا النوع من الفنون، بحيث تأخذ الكلمات بعقله .. على خلفية موسيقية مواكبة .. و تحدث النشوة او ما شابه.
    .
    العلوة طبعا لا تفنى .. و لن تفنى .. هناك تحديث و اصوات جميلة تتناولها .. بطريقة عصرية لا تفسد الاصالة.
    .
    انا احب طريقة زينة الداودية .. هذه:
    .
    https://www.youtube.com/watch?v=zJoj6L_Sov0&t=68s
    .
    شكرا سي يقطين .. هادي البداية .. و ما زال ما زال ??

  3. يقول ابن الوليد. المانيا. ( و على تويتر ibn_al_walid_1@ ):

    كلمات عيطة العلوة .. جمال الكلم و الحكم ..في زجل بديع ..
    .
    يا الغادي للعلوة تعالى نوصيك بعدا
    ايلا وصلتي لسلم العلوة لا تكلم
    مالي يا ربي مالي مالي من دون الناس
    واحد في بيتو هاني وانا بايت عساس
    .
    يا الغادي عيب عليك وا الجاي عيب عليك
    تبعتي صحاب المال ونسيتي واليديك
    وا الغادي واش تشوف والجاي واش تشوف
    والعلوة كاع سيوف حبيبي صارو معلموني
    .
    خليني نبكي خليني نشكي
    على جارت العلوة سارت وما علموني
    العلوة فين ماليك وشكون باقي حاضيك
    العزيري عينو عليك حسن مفرط فيك
    .
    الواد الواد الواد الواد بوربيعو
    حقي فيك يا فاضل ما نرهنو ما نبيعو
    يا الطالعة بين الجبال شت الورق وشميت
    فاضل مزال صغير الدرية مزعوطة فيه
    .
    جا عندي حبيبي ما لقيت ما نعطيه
    نفرش ليه الزرابي الحباب دايرين بيه
    يا الغادي نوصيك بعدا
    ايلا وصلتي لسلم العلوة لا تكلم
    .
    يا الغادي عيب عليك وا الجاي عيب عليك
    تبعتي صحاب المال ونسيتي واليديك
    خليني نبكي خليني نشكي
    على جارت العلوة سارت وما علموني

  4. يقول قلم الرصاص:

    يفاجئني دوما استاذي الاكاديمي الكبير سعيد يقطين بمواصلة تتبع اثر اقطاب الفن الشعبي و نفض الغبار عنهم

    حقيقة من بين الاسماء التي ذكرتها لا اعرف منهم الا المرحوم عبد الكريم الفيلالي لكونه ابن اسفي القريبة من مراكش

    رحم الله الئك الناس و الجيل الذي عاصرهم جيل الحسين السلاوي و غيره تحياتي

  5. يقول هيثم:

    جيد و إيجابي الاهتمام بالموروث الشعبي مثل تراث العيطة بمختلف تنوعاتها: الشاوي والزعري و الحصباوي و المرساوي و الاهتمام أيضا بالملحون و الطقاطيق الجبلية و تراث الروايس الأمازيغ… لكن في فنون العيطة يلجأ كثير من محترفي الغناء إلى ترديد كلام غير لائق أو محتشم هو أقرب إلى التهريج و الابتذال العشوائي مما ينفر الجمهور العريض من تتبعه. يستثنى من ذلك بعض الرواد المجدين والمجتهدين الذين يحافظون على جمالية هذا الفن و الأوصاف و المغازي و الحكم التي يتضمنها أو يدعو اليها مثل ولد قدور و المارشال قيبو رحمة الله عليهما و مثل أولاد البوعزاوي .في البوادي المغربية تشكل العيطة فنا شعبيا و عفويا حيث النساء بالخصوص يصدحن أحيانا بأغاني و أهازيج جميلة من وحي اللحظة و الواقع المعيش. تحياتي للأستاذ سعيد يقطين الشعبي ابن الشاوية البار على الاهتمام بهذا التراث الشعبي الأصيل.

  6. يقول المغربي:

    جميل جدا، شكرا لك دكتور يقطين

اشترك في قائمتنا البريدية