أخاف على غزة من هؤلاء أكثر!

في الثالث عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) بعد نحو شهر وأسبوع من بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، كتبت مقالة في هذه المساحة عنوانها «أخاف على غزة من مصر». هذا بعض مما جاء فيها: «لم يعد سرا أن إسرائيل بأذرعها الكثيرة والمتنوعة عبر العالم تُسخِّر جهدا كبيرا لإقناع مصر بقبول اللاجئين من سكان غزة «مؤقتا». الفكرة سابقة للحرب الحالية، لكنها بُعثت من جديد. يوميا يتسع نطاق تناولها وتصبح أكثر قابلية للنظر فيها. صحيفة «الفايننشال تايمز» أوردت الأسبوع قبل الماضي أن بنيامين نتنياهو طرح فكرة توطين سكان غزة في مصر على ضيوفه الأوروبيين، فمنهم من وجدها جديرة بالتأمل مثل قادة جمهورية التشيك والنمسا، وبعضهم اعتبرها غير واقعية مثل قادة بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وبحجة أن مصر سترفضها.
جميع الأفكار الشيطانية تبدأ بالونات اختبار.. غريبة محتشمة يلفها التمنع والاستغراب والرفض، ثم تأخذ في الانتشار لتنضج وتنتهي أمرا واقعا. التوطين حلم إسرائيلي، لكن حياكته أمريكية وتنفيذه غربي بمباركة عربية. من البديهي أن يرفض قادة مصر الفكرة في تصريحاتهم العلنية. هذا أضعف الإيمان. لكن مع المسؤولين العرب دعك من التصريحات العلنية والبطولات الإعلامية وابحث عمَّا لا يقال. مصر اليوم في حالة لا تُحسد عليها على كل الأصعدة، وحالها لا يؤهلها لرفض الضغوط الغربية أو الصمود أمام الإغراءات. طُرحت الفكرة (وستُطرح) في شكل أن التوطين سيكون مؤقتا وإلى مساحة فارغة مهملة في شبه جزيرة سيناء.
المقابل سيكون حزما من المساعدات المالية مصر في أشد الحاجة إليها، ووعود بدعم سياسي واستراتيجي في القضايا التي تؤلم مصر مثل سد النهضة الأثيوبي. لكن مشكلة مصر أن الضغوط والإغراءات لن تأتيها فقط من إسرائيل وأمريكا. هناك الدور العربي ممثلا في عواصم إقليمية حلمها هو حلم إسحاق رابين، أن يستيقظ يوما ويجد غزة قد ابتلعها البحر. الطرف العربي في هذه المعادلة يملك المال وأثبت براعته في الدفاع عن الأفكار الأمريكية وترسيخها. القناعة اليوم في عدد من العواصم العربية أن حماس أساس المشكلة، وأن انتهاء الحرب الحالية دون القضاء عليها هزيمة لإسرائيل وحلفائها.
الدبلوماسي الأمريكي السابق دينس روس، الذي اهتم طويلا بالشرق الأوسط، كتب في صحيفة «نيويورك تايمز» يوم 27 من الشهر الماضي محرِّضا على رفض وقف إطلاق النار لأنه، في رأيه، سيُقوِّي حماس. يحتمي روس وراء الموقف العربي، فيقول: كل القادة العرب الذين أعرفهم منذ زمن طويل وتحدّثت إليهم شددوا على وجوب تدمير حماس. قالوا لي إن انتهاء الحرب ببقاء حماس سيكون نصرا لها ولأيديولوجيتها، ومحفِّزا كبيرا لإيران.

مصر اليوم في حاجة إلى العرب الآخرين لنجدتها من نفسها ومن الفخ الذي يُنصب لها في موضوع التوطين. دعمهم سيعوّضها عن الدعم الغربي ويحميها من أثمانه الباهظة

مصر تملك هامش اقتراح شروط وتغيير بعض التفاصيل، لكنها لا تملك قوة أو ترف الرفض بسبب هشاشتها الاقتصادية وتراجع دورها الاستراتيجي وانسحاب مركز النفوذ من القاهرة الى عواصم عربية في منطقة الخليج. الموضوع سار على قدم وساق، ومصر اليوم في حاجة إلى العرب الآخرين لنجدتها من نفسها ومن الفخ الذي يُنصب لها في موضوع التوطين. دعمهم سيعوّضها عن الدعم الغربي ويحميها من أثمانه الباهظة». انتهى الاقتباس.
أعترف بأن العنوان كان يجب أن يكون «أخاف على غزة من النظام المصري». لم يتغيّر رأيي، لكنني أضيف مصدر خوف آخر آخر: الإمارات. بلا مبالغة، الخوف على غزة اليوم من الإمارات أكبر من الخوف عليها من ترامب ومن أيّ مجنون آخر. الدور الإماراتي في العالم العربي أصبح مخيفا. هذا ليس سرا، اسألوا السودانيين واليمنيين.
كانت مفجعة، لكن غير مفاجئة، إشادة السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، باقتراح الرئيس دونالد ترامب ترحيل سكان غزة إلى مصر والأردن. عندما سُئل عن الموضوع زعم أنه لا يرى أي طرح بديل وقال إن مَن لديه بديل فليأت به وسنكون سعداء بمناقشته.
وهو يدرك أن هناك بديلا قيد التحضير، كان الرجل يتكلم بثقة فائقة متجردا تماما من كل الحمولة الإنسانية والتاريخية والأخلاقية لغزة والمأساة الفلسطينية وكأنه يعلّق على زراعة الورد في هولندا.
لا أعتقد أنه من المبالغة وصف كلام السفير الإماراتي بالطعنة. ليس فقط لسكان غزة والفلسطينيين، بل لكل العرب وتحديدا أولئك الذين قيل إنهم كلَّفوا أنفسهم عناء البحث عن خطة بديلة للخطة الإجرامية التي اقترحها ترامب. المصيبة أن كلام العتيبة تزامن مع «الفخ» الذي نصبه ترامب للملك عبد الله الثاني في واشنطن، وبينما كان العاهل الأردني يقول ويكرر إن العرب يبحثون فكرة بديلة وسيطرحونها؛ وبينما كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يبحث عن مخرج يقيه الوقوع في «الفخ» الذي وقع فيه العاهل الأردني.
من البداية أرجّح أن البديل الذي يجري إعداده في القاهرة ليس أفضل مما طرح ترامب، لكن لماذا تسارع الإمارات إلى تجاهل وجود عمل عربي هشّ أصلا ولا يزال في مرحلته الجنينية؟ بأي حق وبأي صفة؟ من أنتم حتى تحزنوا لغياب بديل عربي أو تسعدوا بمناقشته إن وُجد؟ ما الهدف إذا لم يكن إفشال الجهد العربي، الخجول أصلا، لإيجاد بديل لاقتراح ترامب؟ ألا يكفي أن ترامب ناور حتى فرض فكرته ودفعهم لمناقشتها والبحث عن بديل؟ كنا نعتقد أن مصر والأردن أكبر حلفاء الإمارات السياسيين والاقتصاديين في المنطقة، فلماذا تتصرف معهما بهذه الطريقة المحرجة المكلفة؟
لم يكن السفير العتيبة مضطرا لذلك الموقف، لكن يبدو أن وراء الأكمة ما وراءها. هناك مخاوف من أن وراءها أن الإمارات لا تمانع اقتراح ترامب. لا تستعجل، كل شيء في السياسة ممكن، حتى ما قد يبدو لك جنونا في بعض الأحيان. إضافة إلى معطيات لا يجب أن تخطئها العين: الهوس بالاستثمارات العقارية والمنتجعات وأبراج الكازينوهات وشركات الخدمات العالمية إماراتي بامتياز مثلما هو «ترامبي».

كاتب صحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عربي:

    اختلف معاك في هذا الطرح خاصه فيما يخص مصر. مصر لم ولن تفرط في سيناء المصرية وتصفية القضية الفلسطنيه هذا كلام من الخيال

  2. يقول امين الجزائر:

    ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين
    لغزة رب يحميها

  3. يقول Abd:

    صدقت يا أستاذ و في تأجيل تاريخ إنعقاد جامعة الإنبطاح العربي دليل على أن الشرخ في تحقيق الإجماع العربي قد وقع فعلا و قد أوقعه موقف الإمارات و يكون قد تبعتها دول أخرى معروفة تغار على الجانب الإسرائيلي أكثر من غيرة الصهاينة على أنفسهم

  4. يقول صالح/ الجزائر:

    يُنسبُ لقائد المقاومة الشعبية الشيخ بوعمامة قوله : “إذا سمعتم رنين الرصاص في قبري فاعلموا أني ما زلت أحارب فرنسا” ، ولرائد النهضة الفكرية ومؤسس وأول رئيس “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” ، العلامة عبد الحميد بن باديس ، عبارة : “والله لو قالت لي فرنسا قل لا إله إلا الله ما قتلها” .
    هل توجد أحزاب سياسية في الإمارات العربية المتحدة، أم أن السلطة يتولاها حكام على أساس مكانتهم الأسرية وشرعيتهم في نظام الإجماع القبلي ؟ . وهل يسمح للعمال في مختلف المهن من تنظيم وتكوين النقابات، للدفاع عن مصالحهم ؟ لا ، ممنوع منعا باتا.
    هل توجد نسخة من متحف اللوفر في دولة الإمارات العربية المتحدة ؟ . نعم ، وقد صممه مهندس معماري فرنسي وفتح أبوابه للزوار في 11 نوفمبر 2017 . وهل توجد نسخة من جامعة السوربون في الإمارات ؟ نعم ، وتم إنشاؤها بموجب اتفاق تعاون بين الجامعة ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الإمارات وتشكل جزءاً من جامعة باريس السوربون.
    علم الاجتماع مدين للباحث والمفكر الجزائري ، مالك بن نبي ، مفهوم “قابلية الاستعمار” ، وهذا المفهوم يعني أن المجتمعات التي تكون في حالة انحطاط، (خُلقي وسياسي) ، أي التي فقدت ديناميكيتها الاجتماعية، تجد نفسها في حالة من الضعف الهيكلي الذي يجعلها تستجدي الاحتلال الأجنبي .

  5. يقول عبد الكريم البيضاوي ( السويد ):

    قد أختلف في الرأي مع الكاتب المحترم, النظام السياسي المصري قد يقبل ربما كل شيء – تحت الضغط – إلا أن تقترب منه جماعات بإيديولوجيةا له مشاكل مع مثيلاتها في بلده . من المستحيل – حسب رأيي – أن يقبل النظام بهذا الأمر.

  6. يقول عبد الكريم البيضاوي ( السويد ):

    تتمة :
    ثانيا, عند العودة للمقترح الأمريكي, فالفكرة مهلهلة, ( لا ساس ولا راس لها ) كما يقال في المغرب. قال سيأخذها بالقوة ! , ثم سيشتريها . هل من عاقل يصدق هذا الكلام؟ من البائع ؟ وكم الثمن ؟ وعند الإفراغ , من سيعمرها؟ هل ستبقى فارغة إلا من الأوتيلات وملاعب الغولف؟

    العالم متفق اليوم أن شخصا يحب الظهور بمظهر القوة والجبروت, أما الواقع السياسي ومخرجاته فبعيد جدا عن هذه الخرجات المتواترة على مر الساعة.

  7. يقول محمد الناجي:

    فعلا سيقع كما وقع في لبنان وباعو المقاومة على بق من ذهب لامريكا واسرائيل وفرنسا اول مرة الجلاد هو الضحية والوسطاء من داعمي اسرائيل والمضحك هو انه عندما يتعلق الامر بايران تضهر السيادة الوطنية لكن اي سيادة لبنان وجيشه امام الخروقات الاسرائيلية واي جيش سيدافع عن لبنان وهو لم يطلق رصاصة واحدة تجاهه ستموت المقاومة في اهر حصن لها في غزة و ستموت الكرامة العربية معها وسيبقى تلة من الاندال التافهين المتصهينين الذين باعو عرضهم وشرفهم لليهود

اشترك في قائمتنا البريدية