أدب الحرب اللبناني

مُربِكٌ بشكل جميل ، كتاب يمنى العيد الموسوم بعنوان : ” الكتابة : تحول في التحول ، مقاربة للكتابة الأدبية في زمن الحرب اللبنانية ” الصادر في طبعته الثانية (الفارابي 2018 )  الذي يثير شهوة استشكال العلاقة بين الحرب والابداع ، ويشبع رغبتنا إلى اشتغال النقد على أدب الحرب اللبناني وهو يغطي أحواله وطقوسه المحلية شعراً ورواية في مدة زمنية هي أقل من عقدين ( 1975 -1990 ) واستغرقت حربين متداخلتين : الأولى بين اللبنانيين أنفسهم، والثانية حرب ” اسرائيل ” عليهم ،  في مقروئية جديدة انطلقت من وقائع ما أسمته العيد بالمرجعي أي الواقع الذي نهضت عليه تلك العلاقة إذ يتمثلها جيل شاب حمل البندقية وانخرط في الحرب اللبنانية مدافعا عما رآه صحيحا من المبادىء حينذاك فعلا وتفاعلا قبل أن يكتشف تورطه اللامسؤول في الدفاع عن ايديولوجيات لا تخدم الا الطائفة والزعيم الى اي جهة انتميا . في البدء لم تتكاسل العيد ، الأكاديمية اللبنانية والناقدة المعروفة ، في توصيف بانورامي لطبيعة الأدب المحلي والعربي قبل الوصول إلى إشكالية الموضوع  الذي تقوم عليه فكرة الكتاب . فانطلقت في توكيد حقيقة أنه في النصف الاول من القرن العشرين كانت أغراض الاجناس الأدبية ( شعر ، رواية ، قصة … الخ) مجازاً مفتوحاً لوصف الصراع بين الظّالم بأوجهه المتعددة منظومةً وأفراداً كالمحتل ( تركي – فرنسي …) والاقطاعي ورجل الدين المتحالف مع السلطة ، وبين المظلوم بما هو مجموع الناس أو الشعب الذي يدافع الأديب المُبدع عنه ببداهة في كتاباته، وذلك بابتكاره دائماً بطلاً لنصوصه تكون مهمته إنقاذ الناس وتقديم مثال كبير للمجتمع وهو يقاوم المحتل والمستبد . لكنّ الأمور اختلفت في النصف الثاني من القرن الماضي ، إذ رأت العيد أن اهتزاز الوضع اللبناني السياسي تحت وطأة المشاريع الاقليمية وحركة السياسة المحلية والدولية التي أحاطت به : مشروع ايزنهاور والخلاف حوله ، اضطرابات عام 1958 ، نكسة 1967 ، أيلول الاسود 1970 ، الوجود الفلسطيني في لبنان ونشوء حركات وأحزاب لبنانية مؤيدة أو معارضة له . كل ذلك خلق تفكُّكاً في البنية الثقافية اللبنانية عامة ، وأسّس أرضية قابلة للحرب ، حيث تغيرت لغة الأدب التي أدخلتنا في عوالم  التحول الكتابي ، فلم يعد المعيش موضوعياً واحداً كما في السابق ، بل تناثر بتكاثر الايديولوجيات وتنامي الطوائف والاحزاب المختلفة التوجهات والمتناحرة بالطبع، ما حتّم نسف أفكار الوطن الموحَّد في توجهاته السياسية والثقافية والادبية. أسقطت العيد ما عرضته أعلاه  بالتنظير على المشهد الروائي من خلال علاقة الرواية بالحكاية ، فأكدت أن الحكاية هي منطوق شفوي ، أما الرواية فهي أكثرُ الأجناس الأدبية قرباً من جوهر المرجعي ، والأسهل على المُبدِع سرداً وحركية في التعبير عنه بخطابٍ لغوي ، مهمته نقل الحكاية ( الشفوية المنطوقة ) من واقعها العامي ، الفوضوي ، اللامنتظم ، إلى نصّ أدبي فني منتظم ،  يرفع من شأن المادة الحكائية باستخلاص دلالاتها ، ويقدمها بلغة مؤثرة وموحية للقارىء تصِلُ بها إلى أبعد من حدودها القطرية ، إلى القومية وربما العالمية أحياناً . في هذا الاتجاه قاربت العيد مسألة هوية الرواية بالمعنى القطري / اللبناني وعلاقتها بالعربية بالمعنى القومي ، وهل تتكاملان أو تتعارضان ؟  وهل اللبنانية هي عربية ؟ فرأت أنّ الأمر متعلق بمضمون النص الروائي وموقفه الايديولوجي من القضايا، وهو مضمون يأتي على مستوييه : الحكائي بما هو أحداث متسلسلة من الأقدم إلى الأحدث ، والخطابي أي العملية الفنية التي تشمل الاسلوب والحوارات وأصوات الشخصيات … الخ  وخلاصة كليهما التي تكرس الانتماء القومي لهوية الرواية ولو كانت حكايتها محلية خالصة . إنها مسألة إبداع كما تقول العيد.

إنه أدب الحرب اللبناني كما تسميه العيد ، الذي ولّد لدى الأدباء متلازمة الاحساس بفداحة الاقتتال ضد الذات وضد الآخر، وبمأسوية تأثيرهما السلبي جداً في المجتمع ، من دون أن يمنع ذلك تغنّي هذا الأدب وتبنّيه للمقاومة ضد المحتل ، باعتبارها نمط حياة وليست فقط عمليات عسكرية ، وحذره الشديد من الدعوة الى القتل بل ظلّ يدعو إلى السلام والعدالة حتى لو كنا نحن المُعتدى علينا.

وعليه فقد بحثت العيد في نماذج روائية من نتاجات كُتبت في الحرب اللبنانية كرواية ” أهل الظل ” (1987) لرشيد الضعيف ، و” رحلة غاندي الصغير (1989) لالياس خوري ، و ” الظل والصدى ” (1989 ) ليوسف حبشي الأشقر ، ولكنها منحت بعضها حضوراً غير مستحق ، إذ يبتعد عن مرجعيته بشكل شاسع نصّاً وروحاً وفكرة . ففي قراءتها لرواية ” أيام زائدة ” لحسن داوود (1990)   توسّدت العيد ذهنية التخييل في مقاربتها للرواية ، ومنهجت انتماءها إلى زمن الحرب الأهلية اللبنانية على وجه التنبؤ لا التأويل ، وخرجت من ذلك بنتيجة مُتكَسِّرة لا تؤكد ذلك الانتماء وإنما توحي به ، وباعتبارٍ واحد فقط ، لا يُعتدُّ به، هو أنها  كُتِبَتْ في زمن الحرب. وفي الوقت الذي لم تكن العيد فيه مضطرةً  إلى التطبيق على نماذج سردية كرواية داوود ، فإنها لم تنفتح على لغات غيرية لأدب الحرب الروائي ، فتجاوزت الاشتغال على بعض الروايات التي وعَتْ الحرب وتكامَلَ فيها الأدبي ( النص ) مع المرجعي ( الواقع ) في تصوير المجتمع وقتذاك وبدينامية سردية وافية ، كالروايات التي كتبها اللبناني الياس العطروني : ” بيروت الحلم على فوهة أستون ( 1988)  ” السبايا ”  (1991)  ” عروس الخضر” (1993) وغيرها، التي قدّم فيها تجربته كروائي ومواطن عاش الحرب ولم يتورط فيها، والتي ترسم وتفسِّر ، بِلُغةٍ بالغة التأثير والدقة ، طبيعة الحياة اليومية للذين تورطوا في الحرب ، أو كانوا ضحيتها على حد سواء ، وتتصل بهم جميعاً في سماتهم الخاصة والعامة في المأكل واللباس والعادات والذهنية والثقافة لأي فئة انتموا ، مما كان يجب نقده في حمأة النشاط البحثي في تحولات الكتابة الأدبية لتلك الفترة . أما في الشِّعر ، فقد تحول هدم الشكل التقليدي للقصيدة نقلةً نوعية بين القصيدة التي تمارس ابداعيتها على واقعها ، وبين القصيدة التي انكمشت من بعيد على ممارسة حداثتها في ثيمات الكتابة المحيطة بهذا الواقع فأصبحت قصيدةً للنُّخبة ، ومختَرَعاً جديداً يريد له رواده أن يكون فقط رسالة للعالَم تفيد بمواكبتهم المتقدمة المعاصرة لحركة الحداثة – ولو تسرعوا في ذلك – وهو ما تعتبره العيد تحولاً عن المرجعيّ / المَعيش ، واندفاعاً في مجازات الغُربة قراءة وتأويلا .  من هنا تقدِّم العيد مقتربات نقدية لشعراء شباب من جيل الحرب ، تورطوا في معاركها لمُددٍ وجيزة اعتقاداً منهم أنهم يدافعون عن الحق ضدّ الباطل ويقاتلون أعداءً لهم ، تأكّدوا بعد حين أنهم ناسُهُم وأهل بلدهم ليس إلا ، وأنهم مخدوعون ومرتهنون لأجندات طائفية أو مذهبية ضيقة في خدمة الزعيم .

قدّمت العيد مقاطع شعرية كلها بصيغة النّثر، تصور عبثية تلك الحرب وحجم المأساة التي ولّدتها بما هي تحوّل المجتمع إلى ضحية بأكمله ، وتتعاطف مع ضحاياها وتقدس شهداءها ، وقرأت على التوالي برؤيتها النقدية الخاصة ما يمكن تلخيصه بما يلي :  بلال خبّيز كشاعر يلتزم التجريب ويبتعد من ” الأنا ” متبنياً صيغة الـــ ” هُم ” ، ويترك الأشياء تتكلم عن نفسها في قصائده ، ويوسف بزّي في محاكاته لذاكرته الخاصة والعميقة عن حربٍ بشعة شارك فيها شخصياً ، إلى يحيى جابر الذي يكتب بلُغةٍ تسجيلية نصوصاً أقرب إلى الوثائقية بما هي جُمَل شعرية ، فعلية وإسمية ، تتّخذُ وظيفة الإِخبار، و فادي أبو خليل الذي اتّكأَ على العبارة الشعرية القصيرة والموجزة في تناسُبِها مع حركة الذاكرة ، لتنتهي مع اسكندر حبش الذي تسِمُ العيد شعره بالكآبة ومفردات الغربة ووحشة الحرب فيه منذ طفولته وهو يقررُ أنّ المسلمين والمسيحيين تساووا في الدم .

وفي السياق تستدرك العيد أنّ ترصُّدَها لتلك النصوص ليس لقيمتها الفنيّة وإنما هو بسبب فرادتها كمنتج كتابيّ في خضم الحرب اللبنانية وتعبيراً عنها، يؤكِّدُ أنّها بدمارها ودمائها وتفسُّخِ مجتمعاتها طائفياً كانت سبباً رئيسياً في تحوِّل الشّعر إلى أنماط فنية هجينة مُبالغ فيها أحياناً ، كُتِبت بتوصيف بدائيّ للحرب ، ما ولّد اضطراباً شعرياً عن شعور بالتمزق واللّا أمل وسط أنهار الدم ومشاهد الدمار . هذا المشهد لم يدفع الأدباء إلى التراجع والهرب من المسؤولية فلجأوا إلى صِيَغٍ شعرية مال أصحابها إلى الجُملة في الشِّعر لا إلى القصيدة ، تحت عنوان التجريب لمواجهة المأزق الأخلاقي الذي أغرقتهم فيه الحرب ، وإنْ تورطَ بعضهم في تفتيت العالم الشعري وتفكيكه ، بالصُّور الغامضة الملتبسة ، جعلتْ الشِّعر لا معقولاً في أحايين كثيرة وأقرب الى مجرد مقولات لا تقدِّمُ ولا تؤخِّر في مواجهة مشكلة عميقة كالحرب . لكن العيد لم تستنكر نزول أولئك الشعراء إلى الأرض وحملهم السلاح للاقتتال في الحرب القذرة ، قبل التخطي إلى التوصيف والبحث في دلالات تجربتهم الشعرية ، في سقطةٍ تخدمُ السكوت عن إنكار ورفض هكذا ظاهرة ، وتقدّمُ أعذاراً قوية لكل من انخرط في الحرب الأهلية وتلوثت يده بدماء مواطنين آخرين ثم ” تاب” بكل بساطة بعد حين !. على ضفّة مقابلة وموازية ، تخصص العيد فصلاً وافياً تتناول فيه عدوان اسرائيل على لبنان عام 1982  وتعرّي الخطاب الاسرائيلي الزائف الذي رافق عملية اجتياح صيدا وبيروت حينذاك ، وتورد أمثلة دامغة حول مجازره ، كقصف الملاجىء وهدمها على رؤوس المدنيين المختبئين فيها ، كما تحلل الخطاب الاسرائيلي أثناء تلك الفترة وخداعه الناس ببيانات ومنشورات تحاول قلب الحقائق وتغييبها في أحيان كثيرة ،عادّةً ذلك الخطاب إبناً شرعياً لمنصات ثقافية أدبية اسرائيلية أنتجت روايات كتبها اسرائيليون تدافع عن الدولة الصهيونية وتقدمها بحلة السلام والمحبة منها : الينبوع لجيمس ميتشز ، ونجمة في الريح لروبرت ناتان ، والتي كانت وظيفتها خلق خطاب ثقافي مُخادع يريد تحسين وتلميع صورة العدو ( اسرائيل تحديدا ) وتجيير ذلك وترجمته تأثيراً واضحاً نافذاً في الثقافة المحلية الاسرائيلية . بهذا الاتجاه ترى العيد إلى ضرورة مواجهة هذا الخطاب بخطاب ثقافي يفنده ويلغيه ويهزمه ، ما يستدعي بالضرورة تبيان علاقة الثقافة بالمقاومة ، فتعتبر أن الأخيرة حق ودفاع عن الحياة وتعرية للآخر المعتدي، وتؤكد أنّ خطابَيْ الشعر والرواية اللبنانيَين حاولا بلورة وعي ثقافي يرى إلى تصويب معنى المقاومة بالنهوض على تبيان حقيقة الاحداث ويوميات الحرب التي استدعتها من جهة ، وعلى رفض نظرية المؤامرة وتهمة الارتهان للخارج الجاهزة دوماً للتعمية على واقع الظلم والتسلط وقمع الافراد في آمالهم وأحلامهم في معظم الأنظمة العربية ولبنان أحدها من جهة أخرى، وألّا يعني ذلك تبرئة ذلك الخارج نهائياً من دوره المؤثِّر في خلق مشاكل وطنية – سياسية – اجتماعية ، ومن دون أن نتغاضى عن العامل الداخلي الذي يلاقي الدور الخارجي قصداً أو عفواً في تعميق تلك المشاكل . إنه أدب الحرب اللبناني كما تسميه العيد ، الذي ولّد لدى الأدباء متلازمة الاحساس بفداحة الاقتتال ضد الذات وضد الآخر، وبمأسوية تأثيرهما السلبي جداً في المجتمع ، من دون أن يمنع ذلك تغنّي هذا الأدب وتبنّيه للمقاومة ضد المحتل ، باعتبارها نمط حياة وليست فقط عمليات عسكرية ، وحذره الشديد من الدعوة الى القتل بل ظلّ يدعو إلى السلام والعدالة حتى لو كنا نحن المُعتدى علينا.

  كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية