«أربعة في مهمة رسمية»… فيلم يُعالج مُشكلة الروتين بالكوميديا

كثيراً ما تُستخدم الكوميديا في مُعالجة المُشكلات المُستعصية والقضايا المُعقدة، فالسخرية هي الأسلوب الأمثل في بعض الأحيان، لكشف الأزمات وفضح الروتين الحكومي، الذي يقف بالمرصاد لمُحاولات التقدم والتطور، فيحول دون إحداث أي تقدم في مجال الأداء الوظيفي الرسمي للعاملين في قطاعات الدولة المُختلفة، الذين تمت برمجتهم على نظام مُعين يهدف فقط إلى تعطيل مصالح المواطنين، بابتداع الحيل وخلق الأعذار والاجتهاد والتفنن، في استمرار حالات التعويق وبطء الحركة داخل المؤسسات الخدمية المُرتبطة ارتباطاً مباشراً بمصالح الشعب.
فيلم «أربعة في مهمة رسمية» الذي تم إنتاجه في عام 1987، والمأخوذ عن قصة للكاتب محمد دوارة، اقترب كثيراً من التفاصيل المُزعجة في أداء موظف الحكومة المصري، والبنود اللائحية التي تحكم عملية التصرف واتخاذ القرار.
وثمة مُفارقات عديدة في ما طرحة الفيلم كانت هي النقاط الأساسية والجوهرية في طريقة المُعالجة الكوميدية الساخرة، على مستويات كثيرة، بالإشارة إلى مُعضلات الروتين ليس في المؤسسات الحكومية الخدمية فقط، وإنما في المُعاملات اليومية الخاصة بين المواطنين بعضهم مع بعض.
ولزيادة جُرعات السخرية والساركزم، تم الاعتماد في البناء الدرامي على عناصر غير آدمية تمثلت في أربعة حيوانات، حمار وشمبانزي ومعزتين يقودها موظف الحكومة أنور، الذي تعهد بتوصيلها كعهده رسمية لمصلحة الطب البيطري، للكشف عليها إيذاناً بتسليمها لأصحابهم في القاهرة، بعد انتقالها من جهة ريفية محلية، ما يُمثل فرعاً آخر من الجهة الحكومية الرئيسية.
وتبدأ رحلة شقاء الموظف الريفي البائس أنور، من لحظة نزوله محطة مصر وتسلم العهدة من مسؤول في قطار البضاعة والتوجه بها إلى الجهة المُختصة، وهناك يكتشف أنور أن الحمار تم استبداله في القطار بجحش صغير، عن طريق الخطأ فيرفض الموظف استلامه لعدم تطابق المواصفات والبيانات. وتبدأ سلسلة طويلة من المُعاناة، يخوضها البطل أنور «أحمد زكي» ما بين التحرك في شوارع القاهرة وميادينها الواسعة بالحيوانات العهدة، الحمار والشمبانزي والمعزتين ومحاولة إنجاز مهمته بسرعة والحصول على ما يُفيد أدائها بنجاح وفق اللوائح والقوانين. ولتعثر الإجراءات اضطر البطل إلى إيداع الحيوانات في عربخانة أو زريبة وهناك يلتقي بصاحبة المكان نورا، التي تقدم له خدمات جليلة وتنشأ بينهما بوادر قصة عاطفية على خلفية إعجاب نورا بشهامة أنور ووداعته ورقته في التعامل مع الحيوانات، فضلاً عن استنكارها للطريقة التي تم التعامل بها مع أنور من المسؤول الحكومي البيروقراطي فؤاد خليل. وبتداعي التفاصيل والتقاء أنور بالسائق نجاح الموجي، الذي ساعده في التنقل بالحيوانات من مكان إلى مكان آخر عن طريق سيارة النقل الصغيرة، تتجدد حالات الاشتباك مع الموظفين المُقيدين بالروتين واللوائح والقوانين، فتحدث عدة مُشاجرات يوردها كاتب السيناريو عبد الجواد يوسف كتوابل حريفة للمواقف الدرامية، ويستخدمها المخرج علي عبد الخالق كمفاتيح يُشير بها إلى الصراعات والخلافات التي تنتج عن سوء التفاهم القائم باستمرار بين أفراد الشعب من أصحاب المصالح وموظفي الحكومة النمطيين، الغارقين في لُجة الروتين وغير القابلين لأي تطوير نفسي أو سلوكي أو مهني أو وظيفي.

هذا ما قامت علية الفكرة المحورية للعمل السينمائي الفذ الذي كتب له الحوار علي سالم، ووضع له الموسيقى التصويرية حسن أبو السعود فازداد إيضاحاً وتأثيراً بفضل التناغم بين طبيعة الموضوع بتفاصيله الساخرة والإيقاع الموسيقي اللافت والمُعبر عن مناطق القوة في العمل الفني، الذي أثراه أحمد زكي بأدائه التمثيلي التلقائي المشحون بالإحساس والخبرات الإبداعية المُتراكمة.
وبتجاوز قصة الحُب العابرة بين البطل والبطلة وذوبان الفارق الثقافي والطبقي بين المرأة البسيطة الفطرية الجميلة، والبطل الموظف العام، يأخذنا المخرج علي عبد الخالق إلى مدار آخر، حيث لقاء أنور أفندي المسؤول عن العهدة والوزير النزيه، عبد الغني ناصر، لنرى ونكتشف أن المحاولات الجادة من قبل كبار المسؤولين لحل مُشكلات المواطنين عادة ما يتم إحباطها، كأن هناك قوة خفيه تتعمد استمرار البيروقراطية كمنهج وأسلوب إداري مُعرقل للإصلاح، إذ تتم إقالة الوزير لحظة استعداده لمُساعدة الموظف الصغير، وتذليل العقبات من أمامه، ليتمكن من تسليم عهدته! وبعد الحيرة والشقاء والدوران داخل عجلة الروتين، التي لا تتوقف لم يجد أنور أفندي عبد المولى (أحمد زكي) بُدا من صرف النظر عن المهمة الوظيفية التي قادته إلى المساءلة الأمنية لاعتراض الحيوانات موكب رئيس الحي، أو رئيس الجمهورية أو المُحافظ، والتحقيق في هذا الشأن واشتهاره وظهور صوره مع الحيوانات على صفحات الجرائد والمجلات، ما دعاه إلى استغلال الشهرة الطارئة في الاشتغال في السيرك القومي وتدريب الحيوانات على القيام بعمل فقرات استعراضية تُعجب الجمهور واستثمار مهارات الشمبانزي في الألعاب البهلوانية كنهاية ساخرة لحكايته مع الروتين الحكومي بمراحله التدريجية المُضحكة المُبكية!

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    أشكرك الأستاذ كمال القاضي على هذا العرض المنير…صدّقًا لم أشاهد من قبل هذا الفلم المثير…ولا بدّ من رؤيته عما قريب إنْ شاء الله.الفنّان أحمد زكي قريب من النّاس بالفنّ والإحساس؛ ولقد التقيت به في شارع سوريا بالجيزة؛ قبيل وفاته مع كاتب مسرحيّة: مدرسة المشاغبين عليّ سالم…مع فائق الاحترام.

اشترك في قائمتنا البريدية