أربعون درجة في الظل

حجم الخط
0

أربعون درجة في الظل

سعيد بوكراميأربعون درجة في الظل أبعد من هذا لا أستطيعه، حشرجات الموت تلاحقني، ومع حرها الصاعق، أفكر أن حياتي لم تكن تعسة أبدا. بل فعلت ما كنت أريد أن أفعله في هذه الحفرة التي تسمونها: حياة. بكل ما أملك من جوارح تلقيت العواصف ومع ذلك ضحكت عليها وهي تعانق نفسها وتتلاشي كالضرطات. لا الشر.. لا الألم.. لا الدم.. لا العالم.. لا هذا المطلق كان يهمني.عندما فتحت عيني المنتفختين المبللتين باليأس ووجدت البحر وخربشات الغيوم، نزعت ملابسي ونشرتها أمام الشمس استلقيت فوق الصخور. لا أحس بالعالم فقط، بل بكل حركة في السماء والأرض والماء.نسيت أنا أسميت نفسي الفلسطيني بينما يصرخ الناس في وجهي باسم عبد العالي ارتبطت في البداية بالعمارة رقم 40 أو عمارة اليهود أو عمارة بوعزة، كلها أسماء لكتلة إسمنتية مستطيلة واحدة.كان اليهود يسكنون دربا في المدينة القديمة يسمي درب بوعزة ولما انتقلوا إلي هذه العمارة أطلقوا عليها هذا الإسم فربما تبركا بهذا البوعزة. في إحدي السنوات التي لا أتذكر تاريخها، بمكنكم أن تبحثوا عنها في كتب التاريخ إذا وجدتموها. قلت عندما كنت طفلا بدأ جيراننا اليهود يرحلون إلي فلسطين، كانوا يقولون كلاما غريبا: (حنا ماشخينا بلبلاد لكن أرض الميعاد تنادينا). وبدأوا يجمعون ما خف حمله ويبيعون الباقي. وقد شاع بين الناس أن البواخر تقف في الميناء وتأخذ من شاء حتي وإن كان غير يهودي، ويقال أن من الناس من ذهب معهم حبا في اليهود أو رغبة في الرحيل أو ربما للقيام بنزهة علي متن باخرة عجيبة وكبيرة.وعندما سمعنا أن الفلسطينيين طردوا من بيوتهم وأراضيهم لكي يحتلها اليهود تألم بعض الناس في البيوت والمقاهي وربما تسيّسوا أيضا، والدليل علي ذلك أنهم قالوا: (كيف يفعلون هذا وهم عاشوا معنا قرونا ومع ذلك لم نلق بأحد منهم في البحر). لا أعلم إن كانوا قد خرجوا إلي الشارع أم لا؟ ابحث عن هذا الأمر أيضا.المهم من هذا الحديث أني لقبت نفسي منذ ذلك العهد بالفلسطيني وكنت سعيدا لأنه كان يخيل إلي أني الفلسطيني الوحيد في العالم الذي تمكن من طرد اليهود من عمارته. عمارتنا اخترعنا لها اسما آخر. كنا ذلك الوقت قد تعلمنا الحساب في مدرسة إبن حزم. وذات أحد اجتمعنا وطفنا حي العنق عمارة عمارة فوجدنا أن عددها هو 39 مما يعني أن عمارتنا هي رقم 40. وهكذا نشرنا الاسم وحرصنا علي كتابته في عناويننا ورسائلنا.لكن مشاريعي كلها باءت بالفشل، فقد ماتت أمي وتزوج أبي من امرأة ملعونة كانت تضع ضمن مخططاتها السرية طردي إلي الشارع. كانت تخبئ السجائر بين ملابسي ثم تستدعي أبي. تخبئ سكينا داخل كتبي ثم تستدعي أبي. يهيج أبي ويخرج حزامه ويبدأ في ضربي أينما اتفق وعندما تعبت من الحرب خرجت إلي الشارع حتي قبل أن يقول الأب قولته المأثورة لإبنه: (أخرج يا مسخوط الوالدين، أنا ساخط عليك دنيا وآخرة).يقولون إني أزرع الرعب في الشاطئ وأتعمد إنزال سروالي أمام نوافذ اللواتي يعشقن التجسس، وإذا خرج أحد الأزواج الغيورين لكي يتعارك مع ابن الحرام، فإني أطلق العنان لساقي النحيلتين وأركض بسرعة فائقة تذهل من يراني في تلك المساءات الكئيبة.كنت نحيلا وسريعا، كما أن كحول التسعين درجة تزيد من غلياني، أما إذا تمكنت من الحصول علي بعض الأقراص فإني أغدو السوبرمان بعينه. نعم أعرف، لقد فكرت مرارا في اعتزال البحر وصخرة كابانو وجولات منتصف الليل بعين الذئاب. لا أتذكر غير الصباحات التي أستيقظ فيها مكورا في مكان ما من البحر أو قرب الحافة أو وراء السور أو أحيانا في حديقة مولاي يوسف. كل ما كنت أفعله بالليل لا أتذكره بالنهار لهذا فهم يحكون عني أشياء غريبة.أحد المتخصصين في الحديث عني تجرأ وجاء عندي إلي كابانو وقال: (أبوك تبرأ منك وما عليك إلا أن تتوب لله لتتطهر من رجس الشيطان. اترك هذا السم الهاري وعد إلي رشدك قبل فوات الأوان). سمعت كلامه النازل فوق شعيرات لحيته المشتتة وكأنه آت من أعماق سحيقة.بعد ذلك اجتمع سكان العمارة وفي مقدمتهم هذا الملتحي الذي اكتشف فيما بعد أنه يعشق الأطفال أكثر من حـــبه لزوجته. وقفوا كأسنان اصطناعية وقالوا لأبي: (إما تربي ابنك أو نربيه بالمخزن). فقال لهم: (أنا لا أستـــطيع تربية أحد، دبروا معه، ربوه بالمخزن أو بجهنم).عاش أبي نصف عمره علي زوجة معلولة وحين ماتت تزوج نعيمة الضبة التي كانت سمينة وأكولة بشكل مخيف. وضعت أبي في جيبها وخرجت إلي المارشي تغازل الجزارين والخضارين. تصور في إحدي الليالي حلمت أني ناعس معها وكانت هي تبحث بكفها بانفعال في جسدي، وعندما وجدته راقدا ويرفض النهوض ركلتني وشتمتني بهستيرية ثم شدت قلبها واستنجدت بالهواء وسقطت ميتة. حتي ولو ماتا معا لما عدت إلي البيت، فات الأوان الآن. عندي الآن أرض الله الواسعة. أينما ذهبت فهي فراشي والسماء العالية غطائي. أما صاحبتي فتأتي عندي مرة مرة من الحي الحسني وهي تدبر لي كل شيء حتي أنها وعدتني بغرفة فوق سطح بيت أمها. حين تموت طبعا.نهض من فوق الصخرة المطلة علي المحيط الأطلسي، جسده خط أسود ، أعزل من كل شيء، تناول زجاجة محلول السعال، قرقف منها جرعات إلي جوفه ومشي بحذر فوق الصخور الناتئة، كأنه بساقيه النحيلتين طائر دريج. اقترب من البركة واختفي تحت الماء.ہ كاتب من المغرب0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية