أرواح وأشباح*

كتب السيد القمني في مقاله المعنون «الآخرون»، الذي نشر في روز اليوسف سنة 2005، مشبهاً الحال العربي الإسلامي بحال الأم وطفليها في فيلم The Others أو «الآخرون» الذي كانت بطلته الممثلة نيكول كيدمان. يعيش الثلاثة، الذين يعانون من مرض حساسية الضوء، في منزل كبير معتم طوال الوقت، لا ترتفع ستائره مطلقاً بسبب حساسية الضوء التي يعانون منها. يعتقد الثلاثة أن المنزل مسكون بالأشباح، حيث يشهدون أحداثاً لموسيقى تنطلق دون عازف من البيانو، ولأشياء تتحرك وحدها حول المنزل، ولأبواب تغلق وستائر تفتح بما يشكل خطراً كبيراً على حياة السكان الثلاثة، وبما يعزز لدى المشاهد «الحالة الشبحية» للمنزل. تكون المفاجأة الكبيرة في نهاية الفيلم اكتشاف الأم وطفليها أن (الآخرون) هم الأحياء في الواقع وأنهم هم «الآخرون الحقيقيون»، هم الميتون الأشباح. ما إن يكتشف الثلاثة حالتهم الشبحية ويعترفون بها، حتى يتحررون من وهم مرض حساسية الضوء، حيث يتمكنون أخيراً من الاستمتاع بضوء النهار الذي حرموا أنفسهم منه لفترات طويلة من الزمن.
يقول القمني: «أليس هذا الفيلم العجيب في شأنه المثير للدهشة كالأساطير هو تصوير لحالنا اليوم بين العالمين؟ نحن نخاف على صحتنا العقلية والدينية من الآخر الكافر؛ لكننا أسرى التخلف والظلام، ونتوهم مرضاً غير حقيقي؛ قد يصيبنا مع نور الحضارة بالأذى؛ ليصبح السؤال: من هم الأشباح؟ من هم غير الحقيقيين؟ الآخرون. .. من هم؟؟ الإجابة: نحن وليسوا هم .الأحياء هم الذين يعيشون في النهار بينما أغلقنا على أنفسنا كل النوافذ؛ لنعيش الظلام خوفاً على مأثورنا الثمين وصحتنا الدينية؛ متوهمين أننا الأحياء وحدهم والأصحاء وحدهم؛ بينما نحن الأموات».
مقاربة قوية يعقدها القمني بين فكرة الفيلم وفكرة حياتنا، المبنيتين على فعل تحويل المختلف عنا إلى «آخر»، إلى هامش في ظل صفحتنا التي نعتقدها غلاف الحياة. من حيث المبدأ، كل من لا يعتقد في الدين الإسلامي هو آخر بالنسبة لنا، محكوم في الدنيا بالانزلاق الأخلاقي ومحكوم في الآخرة بالعذاب الأليم، طالما توفي على غير دين الإسلام. مثل هذا الاعتقاد خطر جداً من حيث عزل أصحابه في علبة فكرة مغلقة لا تدخلها نسمة هواء مختلفة. لا مجال لدينا لمراجعة أفكارنا وتفسيرات معتقداتنا، لأن «الحق» حُسم و«الصواب» أُقر، ولم يبق لنا منذ أن نبلغ إلى أن نموت سوى أن ننفذ «المتعارف عليه».
نحن لا نرى في الحضارة الغربية، كما يقول القمني بتعبير أقوى، سوى الأجساد المكشوفة، ذلك أننا مثل شخصيات الفيلم؛ نرى أن غيرنا «آخرون» مخيفون يجب تبديد وجودهم، نعيش في عتمة نعتقد أن أي تبديد لها بأي ضوء سوف يحرقنا. يقول السيد القمني معلقاً على هذه الرؤية التناقضية، أن «كما لو كانت قيمنا التي نعتز بها و نفخر ونريق على جوانبها الدم هي فاعلة لدينا أو لدى غيرنا في واقع الفعل والحدث على الأرض؛ أو كما لو كانت قيمهم الهدامة قد فعلت فعلها وهدمتهم وجعلتهم يتخلفون عنا ونحن في المقدمة…»، واقع الحال أن لا نحن فَعَّلنا قيمنا أو استفدنا منها، ولا هم تضرروا من تفعيلهم المخلص لقيمهم، هم في الواقع يعملون جادين بقيمهم ويحترمونها، كما يؤكد القمني. وهذا ما دفع بهم إلى النجاحات الحياتية والمجتمعية الهائلة. فما وضعنا نحن مع قيمنا التي نفاخر بها، لا نحن قابلون بمراجعتها ولا نحن مطبقوها على ما هي عليه.
لن نستطيع أن نخرج إلى دائرة الضوء إلا حين نعترف «بالآخر» وحين نتمكن من تقييم أنفسنا ووضعنا وقيمنا وتطبيقنا لها بشكل حقيقي ومنصف. حينها فقط، سنتوقف عن الارتعاب من الضوء، سيخفت خوفنا من أن «نحترق» مجازياً وفعلياً بسبب اكتشافنا لأنفسنا تحته، وسنستطيع أن نرى أنفسنا لما نحن عليه، «آخرون» مثلما غيرنا «آخرون»، ففي النهاية كلنا «آخر» للآخر. حتى نستشعر أننا مجرد أفراد مثل غيرنا وأن غيرنا مثلنا، أن لنا معتقدات نقدسها ولهم معتقدات يقدسونها بذات الدرجة ولربما أكثر، أننا كما نؤمن أننا على صواب، هم يفعلون كذلك، الفرق أنهم يرفقون صوابهم باحتمالية الخطأ، فيما نحن نترفع بأنفة مسكينة عن ذلك، وحتى نستشعر ونطبق كل ذلك سنبقى نعيش في الظلام خوفاً من أن يحرقنا النور، نحارب أشباحاً يعيشون الحياة ونعتقد أنفسنا أحياء نحمي أنفسها بالظلام.
رحم الله أنيس منصور «أنيس» فترة المراهقة بكتاباته الشيقة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول منصور الكبير - الجزائر -:

    المختصر المفيد ،،ما يمكن أن نستشفه من خلال الجو العام أنه فاتكم خير كثير .. فاتتكم معرفة المعارف و أنتم الباحثون عنها المنقبون عن الحقائق الكبرى في السهول و البراري و الصحاري و الجبال ،فاتكم رزق و بركة ليس لأنكم لا تمّحصون أمهات الكتب و أنكم تتناولون مسألة قديمة فصل فيها علماء الأرض بكل أنواعهم و إختصاصهم و مضوا .. بل لأنكم أخطأتم الطريق و سرتم في طريق مسدود و زادت بطانة السوء أوزاركم ،، فالطرق كثيرة و متشعبة و ليس بالضرورة كلها تؤدي إلى روما ..
    (….

  2. يقول منصور الكبير - الجزائر -:

    الغوص في مثل هذه الأفكار خطير جداً ما لم يحمل الإنسان معه وسائل الحماية ،لأن هناك مرحلة يصل فيها إلى فقدان الوعي و الإدراك ، مثل الغوص في أعماق البحر بدون أجهزة تنفس و نحن في هذا الحر الشديد ،، في بداية عملية الغطس تكون كل الأمور على أحسن مايرام ، الأسماك المزركشة تتلألأ بين الصخور ، الحشائش المائية تتمايل بألوانها الزاهية ،عالم حي تحت الماء أروع من العالم الخارجي ،، لكن بعد 5 أمتار من الغطس عمودياً يبدأ الضغط يرتفع على جسد الإنسان و تقل الرؤية ، و تحدث طقطقة في الأذنين ، و عند مستوى 10 أمتار يشعر الإنسان بالإنزعاج و يصبح الضوء خافتًا و يتضاعف الضغط على الجسم ، أما بعد العشرة أمتار التي لا يُنصح تجاوزها للهواة ، فتقل ضربات القلب و قد يحدث شلل للأطراف و في النهاية فقدان الوعي و الإدراك ،حيث يتم إخراج الغريق جثةً هامدة ، أو يصبح و ليمة لأسماك البحر .

  3. يقول غادة الشاويش _ عمان شقيقة القدس:

    *صباح الخير لك دكتور ابتهال ولأسرة القدس العربي وارجو ان يكون جميع سكان هذا الركن في خير ونور وموضوعية واحترام كاف للذات والعقل والمعتقد الناشيء عنه :
    ١. النظرة الفوقية للقمي لنا في الشرق تنضوي على عقدته الشخصية من الضوء !!وشعوره باستصغار الشرق واحتقار الذات الحضارية ورغبته في الانسلاخ عنه نحو نموذج جاهز لايرغب بفرزه !! وتفسيره للتخلف التقني على أنه مظهر طبيعي للتدين وهي قراءة سطحية تلامس تخوم التسول الثقافي والانحطاط الفكري والسطحية المثيرة للشفقة في قراءة التاريخ وقراءة الواقع !! فنحن في زمن العسكريتاريا العلمانية والنضالية الفذة ضد التوحش والاحتلال الذي مثلته عواصم العالم الغربي الذي يدعي التحضر وهو يمارس إرهاب الدولة بشقيه العسكري والثقافي في منطقتنا … ويبدو أن القمي يرى احتلالات الغرب للشرق المسلم قصفا بالورود لهذا يتحدث عن دمويتنا و( اسهاماتهم الراقية التي أولها طائرات آلاف ١٦ الحقيرة التي تقصف الأطفال وحر بب مقتل ال٢ مليون جوعا في العراق وإيجاد ضحايا فيتنام وناكازاجي وهيروشيما وافغانستان وتورا بورا وجلال اباد و.الجزائر وفلسطين والمغرب كل هذا نابع من دمويتنا وتحضرهم يا للعار والصغار الثقافي الذي يمثله العبيد !

    1. يقول علي:

      حمدا لله على السلامة. كنا في قلق لغيابك الطويل. وجودك يخفف عنا عبء المناقشات المكرورة غير المجدية . حفظك الله.

    2. يقول غادة الشاويش _ عمان شقيقة القدس:

      وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. شكرا لتحيتك استاذي صاحب القلم الحر الناقد للدكتاتورية والذي يكتب بمرارة الشعب المقهور كرم منك وتواضع هذا الترحيب وانا بخير واتمنى ان يعيش الجميع بخير

  4. يقول غادة الشاويش _ عمان شقيقة القدس:

    .. تتمة
    * ولا أرى القمي الا غارقا في ظلامية مهينة يراها شمسا زاهية ويضع عمدا وخلافا لمفكرين حقيقيين كان لهم إسهام راقي وموضوعي في تقييم التجربة الحضارية للشرق المسلم بعثراتها وتفوقها بعيدا عن عقدة العداء للأديان وشيطنتها وتحميلها مسؤولية للتخلف الناشيء عن الدكتاتورية العلمانية التي هي أحد انعكاسات التوحش الغربي !
    * من الطبيعي أن يشيطن الغرب إسلاما حمل البندقية ضد احتلاله وتوحشه ومن الطبيعي أن يمارس عقدة إسقاط توحشه على من قاوموه بدمهم.. ومن الطبيعي أن يطلب الغرب الذي ظلمه دين متحالف مع الدكتاتاتوريات الرجعية ومنهجه التسليم للدكتاتور من منظور ديني أن ينبذ الدين لأنها صورة ظالمة ولكن ليس من الطبيعي ولا من النزاهة أن يقوم القمي بقلب الآية ويتكلم وكأنه غرفة إعلامية ممولة من السي آي أيه!

  5. يقول غادة الشاويش _ عمان شقيقة القدس:

    االآخر المختلف غربا اعتنق ونظر إلى الآخر على أنه مخطيء غارق في الظلامية والوهم والأساطير وانه وحده يملك النور والاستبصار والاستعمار الذي لم يكن الا احتلالا جبانا وحشيا
    *هي فرضية مبنية على وهم التفوق المطلق والغرور الحضاري الذي سبق دائما حالات الانحطاط ودق على الدوام اجراس نعي الحضارات الإنسانية التي فارقت حدود النظام وأخلاقية النموذج الانساني وتمايزه عن الفوضوية الغابوية ومارست الهوى الفاجر في استعلاء خاتمته معروفة عبر التاريخ الانساني واتت في أسطر قليلة عميقة التأثير علية النظرة في نموذج ارم ذات العماد وفي خطاب عالي أفتقر الظلاميون إلى حاسة سماعه واعرضوا عنه ومصوا يقودون البشرية إلى حتفها !

  6. يقول منير الصقري:

    ‏بعض المثقفين مهما حاولنا تلميعهم وصناعة أيقونات منهم، يبقون عاديين بل باهتين وأقل من ذلك هم بلا موهبة ولا قضية.. حالة عدمية عبثية لا معنى لها ولا غاية.. والغريب كيف نصور كتاباتهم بأنها عميقة ولا يفهمها عامة الناس.. مع أنها سطحية جدا وتافهة لأبعد الحدود لا بلاغة ولا فكرة ولا رسالة!

    *منقول وصدق القائل

  7. يقول محمد اسماعيل:

    تعليق صغير:لنفترض اننا نحن في النور و هم في الظلمات , اليس الاحرى بنا ان ننير لهم ظلمات الدنيا ونكون قد ادينا ما علينا بدل الحكي والحكي و الحكي ؟

  8. يقول فؤاد مهاني - المغرب -:

    تحية للجميع،والحمد لله على رجوع الأخت الفاضلة غادة الشاويش مع الرجاء بعودة أخينا الدكتور رياض لنستفيد من تعليقاته النيرة ولا يفوتني هنا الترحم على أخينا رؤوف بدران من فلسطين سائلين الله تعالى أن يدخله فسيح جناته في هذا اليوم المبارك.
    الدكتورة إبتهال،لا شك أن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة من سائر كل الحضارات وإلى يومنا هذا من اعترفت بالآخر،احترمت عقيدته وأعطته الحرية في التملك والعبادة لهم ما لنا وعليهم ما علينا.

    1. يقول غادة الشاويش _ عمان شقيقة القدس:

      مساء النور الدوري اشكرك اخي فؤاد على تحيتك وحسن تفيدك وشكرا لك دمت بخير

  9. يقول فؤاد مهاني - المغرب -:

    يتبع من فضلكم الكريم.
    تأتين يا دكتورة دائما بما يلائم موقفك السلبي اتجاه الدين وهو الإسلام بالطبع الذي وصف أتباعه وهم يمثلون أول ديانة في العالم نموا بالظلاميين الذين يحبون العيش في العتمة يرفضون التطور والتقدم ويكرهون الآخرين إلى غير ذلك وأصحاب هذا الطرح (المتنورون) معروفون تستشهدين بهم كنوال السعداوي،فرج فودة وسيد القمني وريتشارد دوكنز وكل من يسفه الإسلام ويتهجم عليه.ولا مرة فيما أعتقد رأينا منك بعض الإنصاف بضد ما تعتقدينه ويعتقده آخرون في كل ما كتبت على هذا العمود الصحفي حتى ولو من باب الإشارة مثل المرحوم محمد عمارة المفكر الإسلامي المعروف أو رجال الفكر والعلم والسياسة والرياضة والفن والدين وكلهم ترعرعو في صلب الحضارة الغربية كروجي غارودي وموريس بوكاي والداعية الإسلامي الكبير الامريكي يوسف أستيس وجيفري لانغ وليو تولستوي وبرنارد شو وآرثر ألسون وغيرهم منهم من قال كلمة حق اتجاه هذا الدين ومنهم من أسلم عن طواعية واقتناع فهل يعقل أن ينعتون بالظلاميين والآخرين خلاف ذلك.

  10. يقول حكمة اقبال:

    إضاءة أخرى جميلة لموضوع غاية في الأهمية، فقد تطورت اوربا عندما أبعدت الدين عن السياسة والدولة، وهذا ما نحتاجه هنا أولاً وستتطور عقولنا لاحقاً كما تطورت عقولهم. شكرا جزيلا لكِ سيدتي مع أطيب التحيات.

1 2

اشترك في قائمتنا البريدية