أزمة السلطة في السودان: اقتصاد أم سياسة؟

اجتاحت الجماهير السودانية، مدن البلاد المختلفة في تظاهرات حاشدة انطلقت جذوتها يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 2018، متزامنة مع الذكرى الثالثة والستين لقرار استقلال السودان من حكم الاستعمار الإنجليزي المصري من داخل البرلمان. وانفجر غضب الجماهير في مدن عطبرة، والقضارف، والنهود وبورتسودان – والتي كان مخططا لها لأن تستقبل زيارة من الرئيس البشير في نفس اليوم – وتبعتها في اليوم الثاني مدن بربر وسنار ودنقلا والأبيض بالإضافة الي احياء العاصمة الخرطوم المختلفة. كانت العلامة البارزة الأكبر في تظاهرات الجماهير السودانية الغاضبة، هو توجهها لإحراق مقار حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وهو ما كان أكبر استفتاء جماهيري عفوي ضد سلطة الحزب الحاكم الذي قاد السودان الي هاوية اقتصادية وأزمة معيشية متفاقمة بسياساته الفاسدة على مدى ثلاثين عاما من الحكم المنفرد.

أزمة ذات طابع سياسي

الضائقة المعيشية المتفاقمة والتي وصل فيها معدل التضخم في السودان إلى 160 في المائة؜، كانت هي المحرك الأول للغضب الجماهيري، ولكن هذه الأزمة هي ذات طابع سياسي في حقيقة أمرها. فالفساد الضارب في اروقة الدولة والذي يتصل بشكل مباشر وعضوي برأس النظام وقياداته المختلفة، هو السبب الرئيسي في الضائقة الاقتصادية الحالية. وبالرغم من وجود خلل هيكلي متوارث منذ عهد الاستقلال في بنية الاقتصاد السوداني، يتمثل في ضعف اعتماده على الإنتاج، وفاقمت آثاره إصابة الاقتصاد السوداني بما اصطلح على تسميته بالمرض الهولندي: (تزايد الاعتماد على تصدير مورد طبيعي واحد واهمال بقية القطاعات الاقتصادية) في سنوات تصدير النفط بين أعوام 1998 وحتى 2011، والهزة الكبيرة التي أصابت الاقتصاد السوداني بعد انفصال جنوب السودان، إلا أن الأزمة الاقتصادية الحالية ومشكلة انعدام السيولة النقدية تفاقمت بشكل كبير بفعل المضاربات على أسعار العملات الأجنبية وتخزين العملة من قبل المتنفذين، وهو الأمر الذي اشتكى منه رئيس الوزراء السوداني معتز موسى علناً.
بالإضافة إلى ذلك لعب الفساد الضارب بأطنابه في القطاع المصرفي والائتمانات الوهمية وقروض الاستثمار التي يتم منحها بدون ضمانات كافية ودون عائد إنتاجي… وما غير ذلك من الممارسات الفاسدة التي أدت الي فقدان المواطنين الثقة في النظام المصرفي دورها في صناعة الأزمة. وضاعف من أزمة فقدان الثقة في النظام المصرفي، القرارات التي اتخذتها الحكومة لمعالجة مشكلة السيولة بوضع أسقف ضئيلة جدا للسحب اليومي من الحسابات البنكية الشخصية ولا تكفي لمواجهة التزامات الحياة اليومية في ظل الارتفاع المتسارع للأسعار، فدفعت الناس دفعا إلى تخزين الأموال والاحتفاظ بها في بيوتهم بدلا عن البنوك. (لمزيد من التفاصيل حول انهيار النظام البنكي يمكن الاطلاع على التقرير البحثي الذي صدر مؤخراً عن مركز الأبحاث السوداني، المجموعة السودانية للديمقراطية أولا بعنوان: النظام المصرفي في السودان: التأثير السياسي والمصالح الشخصية يولدان الفساد وغياب الشفافية:
Banking System in Sudan: Political Influence and Personal Interests Breed Corruption and Lack of Transparency).

الشاهد أن محاولات الأجهزة الحكومية المختلفة، التعامل مع قضايا الفساد أصطدم بأن حجم الفساد في السودان يتناسب طرديا مع درجة العلو في هرم السلطة. فقضايا الفساد الكبيرة والتي تؤثر بشكل حيوي على الاقتصاد مرتبطة بشكل عضوي بأولئك الموجودين في قمة الهرم بحيث لا تطالهم يد القانون. وتحولت أدوات محاربة الفساد وشعاراته إلى جزء من معارك تصفية الحسابات الشخصية بين سادة النظام، ولم تنعكس بأي شكل إيجابي على الاقتصاد السوداني. وهو الأمر الذي حول تصريحات رئيس الوزراء الجديد وتغريداته (ومعتز موسى مولع على الطراز الدونالد ترمبي بمنصة التواصل الاجتماعي تويتر)، إلى مضحكة مثيرة للسخرية، وهو يحاول الإيحاء بامتلاك ناصية حلول اقتصادية لمشكلة يعلم الجميع أنها سياسية في طبيعتها.
على صعيد آخر، لا يساعد النظام نفسه بأي حال من الأحوال بتعنته في التعامل مع بقية القوى السياسية في السودان. فالمؤتمر الوطني يستمر في التلاعب بكافة فرص الوصول إلى حلول سياسية تساعد في وقف الحرب في مناطقها الثلاث المشتعلة فيها في السودان (دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق) وتسمح بتحقيق حد أدنى من الانفراج يساعد على تقليل حدة الاستقطاب السياسي في البلاد، مستعينا على ذلك بدلاله على الوسطاء الدوليين الذين يتعاملون معه كأمر واقع يحتاجونه في اداء خدمات مختلفة (وهو منهج خطر جدا وخاطئ جدا نناقشه في مقال لاحق)، وضعف القوى السياسية المعارضة التي استثمر في تدميرها على مدى سنوات حكمه. ولكن دلال المؤتمر الوطني مردود عليه، فهذه الحروب الأهلية والاستقطاب السياسي وانعدام المساحات الديمقراطية تبقيه رهينة دائمة للاستقواء بالأجنبي الذي يستخدمه لأداء المهام التي يريدها منه، ولكن لا يدعمه الا بالقدر الذي يبقيه رهينة له. والطغاة يقرأون من كتاب واحد، لا يعلمهم ان الضامن الوحيد لهم هو شعبهم، وليس القوى الأجنبية مهما بلغت درجة خدماتها لها.

قمع المعارضة للبقاء في السلطة

المؤتمر الوطني وجنراله البشير ظلا على مدى ثلاثين عاماً من الحكم يعتمدان على قوة أجهزتهم الأمنية وميليشياتهم العسكرية للبقاء في السلطة وقمع الحراك المعارض. ولم يألوا في سبيل تسليحها وتموينها وخلق المزيد من المليشيات المتنوعة المسخرة لحماية كراسي سلطتهم، في توجيه ميزانيات الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية الأخرى ليتم صرفها على ما يتم تسميته بشكل عام القطاعين السيادي والأمني، في صرف ذو دفاتر مفتوحة تلتهم أكثر من ثلثي الموازنة العامة. وهو ما جعل من الأزمة الاقتصادية أكثر حدة وقسوة على الفئات الأكثر فقرا، والتي أصبحت تفتقر إلى أي شبكات حماية اجتماعية عامة، وتواجه أقدارها منفردة في معركة أسطورية تواجه فيها تصاريف القدر دون أن تملك أي قطاع عام يساعدها في التصدي لها. هؤلاء الفقراء هم الذين اجتاحوا الشوارع مدفوعين برغبتهم في الحياة، ليس لن يخسروا شيئا لأن المؤتمر الوطني لم يترك لهم شيئا ليخسروه، ولهم كل شيء ليكسبوه… حريتهم وأمنهم والعيش الكريم. ما يحدث الآن في السودان هو مخاض تغيير شامل… ثورة حقيقية تولد من رحم معاناة شعب حليم، فاض به الكيل وانفجر.

كاتب سوداني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية