هناك أكثر من مؤشر اليوم في منطقتينا العربية والمغاربية يفسر عنصر الإحباط بمستوييه الفردي والجماعي، الذي طال الجسد الثقافي؛ الأمر الذي ترتب عنه شعور عام بالشك والريبة في كل ما له صلة بالانتماء القومي والهوية العربية الإسلامية.. بما في ذلك الفضاءات المقدسة في العربية السعودية!
كل ذلك، نتيجة ارتماء المثقف – وبشكل لم يسبق له مثيل – في أحضان السلطة الرسمية الحاكمة، فغدا هذا الأخير بموجب هذا الوضع حاميا لكل ما يصدر عن المؤسسات التابعة للدولة، وفي جل الأقطار العربية.. بل تحول المثقف، إلى مجرد بوق يردد ما ترغب الحكومات القطرية العربية الشمولية في تسويقه والترويج له من قصاصات مسفة، وبلاغات مكرورة ومهترئة، وحسب الحاجة والسياق السياسي العالمي. أليس الواقع العربي المنكمش على نفسه، واللاعق لجروحه الوطنية والقومية بحاجة إلى مناعة ثقافية ونظام ثقافي مستقل وقوي، ينهضان كنقطتي توازن وارتكاز جديرتين بالتسجيل والتثمين، من شأنهما الحفاظ على الوجود الاعتباري المفترض لهذه الأمة التي طال أمد ليلها؟
هذه الفرضية المستعصية على الحل، على الأقل في المنظور القريب، في حاجة إلى طاقة وأجوبة رمزية، تقف سدا منيعا في وجه آلة المحو المستهدفة لذاكرتنا المشتركة.
المثقف العضوي المفترض صار سرابا ليس غير. ارتدى لنفسه جبة غير جبته، وأنه، تبعا للميثاق التاريخي صفى حساباته مع قيم الثقافة الديمقراطية وبجميع صيغها المرجعية.
نسجل بأسف كبير بأن مشهدنا الثقافي المغربي يعرف وضعا مترديا لم يعرفه من قبل؛ إذ بلغ درجة متقدمة من الارتكاس، نتيجة اصطفاف نسبة كبيرة من مثقفين وأصوات مبدعة خلف الرسمي من المؤسسات الموسومة بالثقافية تجاوزا، تحت ذرائع وتعلات مختلفة إن لم نقل واهية. لقد عبّدوا الطريق أمام تجارب، همها الأول والأخير تبني خطاب، مفاده الدفاع عن أطروحة النظام بما لها وما عليها. نعم، نحن مع المفاهيم والأطر النظرية الجديدة، المــــؤطـــرة لتجربة الحكم، مع بسط الطرائق المبتكــرة لممارسة السلطة، لكننا، وهذا هو الأهم في حاجة ماسة إلى أصوات مثقفة تمتلك وعييها السياسي والتاريخـــي، قادرة على الصدع بما تمور به ساحتها الثقــافية الوطنــــية من تناقضات صغر حجمها أم كبر، طالما أنها تشكل العنصر المقوم والضاغط على مؤسسات الدولة التي لم يكتب لها – لحد الساعة – القطع مـــع أزمــنة رمادية، والتخلص من أوزار الممارسات المخزنية.
لم يعد المثقف اليوم في المغرب – وإن كان هذا لا ينسحب على الجميع – يرسم معالم أفقه الرمزي بالقدر نفسه من الشجاعة الأدبية والفكرية، التي تحلى بها في الأمس القريب، ولم يعد يهمه سوى الركض وراء المصالح الشخصية.. والبحث عن المغانم بدون عفة! حتى بات شخصية تشكو من آفات كثيرة لا داعي لذكرها.. آفات تنخر الكيان الثقافي وتجهز على رصيده الحضاري.
كل هذا يفسر أن المثقف العضوي المفترض صار سرابا ليس غير. ارتدى لنفسه جبة غير جبته، وأنه، تبعا للميثاق التاريخي صفى حساباته مع قيم الثقافة الديمقراطية وبجميع صيغها المرجعية.. فانتهى به الأمر إلى إحراق كل المراكب.. بعد أن اختار طريق اللاعودة.
بناء على ما تقدم ذكره، فإنه آن الأوان لدق ناقوس الخطر، وبالتالي رفع التحدي في وجه حالة النكوص التي نواجهها اليوم جميعا، من المحيط إلى الخليج ؛ بحيث نمر بأسوأ مرحلة تاريخية بخصوص تدبير الشأن السياسي، محليا وإقليميا ودوليا، خاصة بعد تعاظم دور اليمين في الغرب الإمبريالي.. وإحكام الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة ترامب قبضتها على جل الدول العربية، والتحكم في مواردها ومقدراتها المالية والاقتصادية، الأمر الذي أفقدها استقلاليتها وأشل إرادتها السياسية والسيادية.
نخبنا المثقفة أو التي في حكم ذلك، ارتهنت بالمؤسسات الرسمية، بدون حدود أو علامات، بل أمست قوة مضللة وطاغية ترسم الدائرة التي ينبغي لأي مثقف عدم تجاوز قطرها، وذلك بتسخير وتوظيف كل الإمكانات التي تضعها مؤسسات الدولة تحت تصرفها، وبكيفية أو أخرى.
لعل هذا الوضع الذي نعبر عنه مرة أخرى بالمتردي، يسمح لمثقفي الدولة بوضع المتاريس – إن هم نجحوا في ذلك – في طريق الأصوات المستقلة حتى لو كان رصيد الأخيرة الرمزي أقوى وأوفر من رصيدها. إنها (نخبنا المثقفة) ارتضت لنفسها مسلكا مكيافيليا، نذكر بنصه «الغاية تبرر الوسيلة».
نخلص بموجب ما ورد أن الخط الذي يحكم ثقافتنا، يمتاح من معدن واحد؛ إنه معدن التردي بمعناه العام، وليس بمعناه الأخلاقي.. مما بات معه غير ممكن تحفيز المواطن على تجاوز العقبة الكؤود التي وضعتها أمامه الحكومات، ذات التوجه القطري، المتقوقع على ذاته، المتشبع بأيديولوجية القمع العمودية في مجريات العلاقة مع المواطن.
ترتب عن هذا الواقع القسري المفروض بالقوة على المواطن، شعوره بمحاولة تقبله لأخطر الوقائع وأكثرها غبنا بل عبودية في تاريخ البشرية.. وكأن الأمر قضاء وقدر.
ونعني بذلك تحكم الأنظمة الاستبدادية والشمولية في مصائر الناس بغير وجه حق.
٭ كاتب مغربي