هل يمكن القول إن جيل القراء الجدد يكشفون عن واقع مغاير لحالة القراءة؟ وهل إن توجهاتهم وخياراتهم ستكون فيصلا في التعرّف على طبيعة ما يتحول ويتغير في الأفكار الجديدة؟ وكيف سيسهم المتغير القرائي في تغيير سياقات عمل دور النشر، ودوافع البحث عن الأرباح الثقافية؟ وهل ثمة تصورات عن علاقة هذا التغيّر بشكل وأداء «المؤسسة» التي تصنع الكتاب؟
أسئلة مفتوحة، يمكن أن تكون مثيرة ومفارقة إزاء ما يحدث في عالم الكتب، في معارضها وأسواقها ودور نشرها، وفي التعرف على ما تفرزه الاستبيانات من مؤشرات حول هويات الكتب الأكثر مبيعا، والأعمار الأكثر استهلاكا لهذه الكتب، بعيدا عن السياقات النمطية والمرجعيات الأيديولوجية والدينية، التي تعمل على تكريس عناوين معينة، والترويج لبعض أسماء المؤلفين والمؤلفات، وإخضاع بعض الكتب إلى رهانات الإعلانات الممولة والباحثة عن مردوديات تجارية.
ما حدث في معرض الجزائر للكتاب 2024 شكّل صدمة للكثيرين، إذ تقوّض معها ما يمكن تسميته برمزية «الكتاب الفائق» و»المؤلف الألمعي» لتضعنا أمام جيل جديد من القراء الشباب، الباحثين عن الشغف، وعن نمط مغاير للكتب التي لا تتكئ على التاريخ والسياسة والفخامة، فنجد كثيرا منهم مأخوذين بجاذبية سرديات كتب المغامرة والخيال والفنتازيا، والتحفيز على رؤية العالم عبر مزاج طري يتوخى الإثارة والفضول. ما أثارته كتب الكاتب السعودي أسامة المسلم المعروضة في المعرض من جدل، ومن تزاحم شديد، كشفت عن ظاهرة هذا التحول، وعن توجهات مغايرة للقراءة، حتى بدت كتبه وكأنها «إشاعة ثقافية» أو «تظاهرة ثقافية»، جذبت إليها قراءً لم تلتفت لهم دور النشر العربية، ولم تراهن على وعيهم النافر، وعلى حيوية التجدد والمغايرة في تلقيهم، فهم من أجيال المراهقين والشباب، ومن المجذوبين إلى كتب المغامرة والتطبيقات الإلكترونية والذكاء الاصطناعي، تحولت جاذبية الكتاب عندهم إلى هوس، والفضول إلى شغف، والشراء إلى تنافس، حدّ أن بعض أصحاب دور النشر، بدأت تراجع حساباتها حول هوية «المؤلف» وشهرته واسمه اللامع، مثلما كان الشك بـ»موت الكتاب الورقي» واضمحلال القارئ الورقي، قد أخذ بُعدا نفسيا فيه الغلو أكثر من الواقعي..
كتابات مثل «خوف» و»بساتين عربستان» و»عرين الأسد» و»النداء» و»هذا ما حدث معي» وغيرها، اطلقت العنان للحديث عن حكايات مفتوحة في سحريتها وغرابتها، وعن مفارقات في استراتيجيات الكتابة، وعلى نحوٍ يتغيى وجودها، من خلال التحوّل في النظر إلى المحتوى، وإلى مدى قدرته على الإثارة والجذب وإشباع الفضول، وإلى استنفار الحماس حول الأفكار التي يحملها، وإلى الفنتازيا والخيال اللذين يجعلان القارئ «الجديد» غير المسكون بأشباح المكتبات الكبرى المنزلية، أو المدرسية، أو العامة، مكشوفا على مؤثرات ثقافية فارقة، وعلى يوميات ما يفرزه العالم الرقمي من تطبيقات، ومن ثقافات تستغرقها الهيمنة البصرية، وتستغوي استهلاكها عبر صناعة ما يشبه «الوعي الفائر» وغرائبية التمثيل الحكواتي في بالخطاب السردي/ الروائي، الذي أثارت بعض أسئلته الغرائبية كتب المسلّم.
هذا الازدحام الكبير حول كتبه، وبحضور حاشد لأعمارٍ معينة يفترض النظر إليه كظاهرة مثيرة، تتطلب مراجعة أنثروبولوجية لهوية القارئ الجديد، ولطبيعة الأفكار التي يمكن أن يتقبلها، ويتفاعل معها، لكي تجذبه إلى مجالها النفسي والتأثري، وإلى طبيعة خطابها ومحتواها الفكري، وباتجاه ينعكس على ما يجري في معارض الكتب، ويدعوها إلى إعادة النظر بمفاهيم التسوق والاستهلاك، وحتى بتمثيل الرمزية الفائقة التي يمتلكها هذا القارئ الجديد، على مستوى علاقته وثقته بتلك المعارض، أو على مستوى علاقته بالمكتبة العائلية والعائلة ذاتها، وبمدى تفاعلها معه لتشجيعه على شراء هذا الكتاب أو ذلك، فكثير من أولئك القراء الشباب والمراهقين لم يأتوا منفردين، بل جاء أغلبهم إلى المعرض بصحبة عوائلهم.. هذا المشهد ليس عابرا، ولا حتى غرائبيا، فبقدر ما هو مشهد حقيقي، عميق الدلالة في صورته وأنموذجه، فإنه يكشف من جانب آخر عن مدى الإهمال الذي تتعرض له شرائح مسكوت عنها في المجتمع الثقافي، بوصفها فئات هشة كما تُشير إليها بيانات منظمات اليونسيف والصحة العالمية، مثلما هي فئات عمرية أكثر عرضة لمؤثرات التغيّر في الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وفي تغير أنماط الحياة والتعليم والاستهلاك الثقافي. «إثراء الخيال» كما قال المسلّم، هي وجهة نظره لكي يصنع من خلالها أحداثا غريبة ومثيرة، تستفز مخيلة الشباب والمراهقين، وربما تجعلهم إزاء أنموذج عربي للبطل الرمزي، وللشخصية الباحثة عن المجهول، والتي قد تكون نظيرة لحكايات سلسلة «هاري بورتر»، التي تحولت إلى ظاهرة عولمية، تمثلتها الشخصية الجاذبة والمغامِرة، والمائزة في طفولتها الساحرة، وفي سلوكها التطهيري إزاء الشر، من خلال اصطناع شكل حيوي لصورة البطل الجميل، الباعث على التعاطف والانحياز.
الحكايات وسحر الفرجة..
لا تعني روايات المسلم، أو حكايات كتبه تمردا على ما هو سائد في سرديات أدب الأطفال، أو عن قصص البالغين، بقدر ما كانت تحمل معها نزوعا نحو المغايرة، والانفتاح على ما يشبه سرديات جديدة للفرجة، وعلى نحوٍ يجذب معه تصورات مفارقة عن عالم أشد إثارة وجاذبية، تقوده شخصيات ساحرة في سلوكها، وفي تحريك غرائز البحث عن الذات، وعبر تنامي الشخصية التي تشكل واحدا من علامات البناء الثقافي لشخصية المراهق الباحث عن خصوصية، وعن هواجس حريته، وربما سيجد أولياء الأمور من الآباء والأمهات، مجالا في هذا العالم التخيلي لتقليل إدمان أولادهم وبناتهم على تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، وألعاب الفيديو والكومبيوتر، ومن الانغمار في فضاءات الذكاء الاصطناعي، التي جعلها الأطباء سببا من أسباب أمراض التوحد والعزلة والشخصية الانطوائية.
قد تختلف ردود الفعل أزاء سرديات أسامة المسلّم، فتوزعت بين القبول بجدتها وحيويتها، ورفضها بوصفها تهديدا للبناء العلمي والتربوي للشخصية، وتأثيرها السلبي على هوية «الجيل الثقافية»، وعلى الصورة المثالية لـ»الثقافة الرفيعة» التي سخر منها علي الوردي في حديثه النقدي عن «أسطورة الأدب الرفيع»، وعدّها واحدة من مشكلات النخب الثقافية، ومصدرا من مصادر تناشزها وعزلتها عن شرائح المجتمع الأخرى..
وباتجاه آخر نجد أن قراءة حكايات المسلم تكشف عن مؤثرات ذات أدوات مغايرة، على مستوى صياغة سردية لمخاطبة «العقل الثقافي» وبهدف تشكيل خريطة مفتوحة للترف على التنوع القرائي، قد تبدو فيها مستفزة، ومفارقة، لكنها تعمل على تجاوز وصايا «المعلم القديم» وطريقته التلقينية في الدرس، وفي الدفع القسري إلى القراءة، فهذه الحكايات الروائية، بلغتها البسيطة تطرح موجة قرائية مثيرة، كما وصفها الروائي واسيني الأعرج، وليس من المسوغ رفضها أو إخراجها من طقوس سوق الكتاب، ومن برامج التوجيه القرائي، لأن ذلك قد يدفع إلى ردود فعل رافضة لجيل له حساسيته في التخيل، وفي تلقي الأفكار، وفي النظر إلى العالم، وحتى في ترسيم حدود علاقته مع الآخرين ومع التداوليات الثقافية، فضلا عن أن هذه الحكايات، أو السرديات لا تشبه بالضرورة «الأكلات السريعة»، كما يصفها رافضوها، وأن ما تصنعه من «خيال علمي» قد يدفع إلى تشكيل شخصيات مغامرة وعدوانية، ربما تصدم التلقي التقليدي، وحتى تصورات الآباء والأمهات، لكنها في واقع الأمر ستكون جزءا من التحدي، ومن الحاجة إلى التغاير، وأن الحديث عن تعميم مضارها، لن يكون دقيقا، ولا مقبولا لا في توصيف علميتها وموضوعيتها، ولا في طبيعة علاقتها بالمنظومات التقليدية للتربية والتعليم، فالمراهقون والبالغون في عالم ـ ما بعد الحداثة – سيكون لهم عالمهم الوجودي وزمنهم النفسي والثقافي، وأنهم يواصلون العيش على التواصل في عالم «القرية الصغيرة»، بتوصيف ماكلوهان، وهذا ما يجعلهم ينحازون إلى التداول الجماعي المحرض على التخيل، فيبحثون عبر التنافس عن المثير وغير المتوقع، وعبر وسائط جديدة، تُقرّبهم من عوالم الحكايات المشوقة، والشخصيات الغريبة، ومن سحرية عوالم التقانات الحديثة والذكاء الاصطناعي، حيث تتغذى غزائزهم وأحلامهم وشغوفهم بطاقة أخرى للتخيل والإثارة، وهذا ما يجعلني أجد ضرورة في مناقشة هذا الأمر وظواهره بعيون نقدية مسؤولة، تربوية وعلمية وثقافية ونفسية، وبعيدا عن أي وصايا قامعة، أو سياسات رسمية أو غير رسمية تقوم على المنع والعزل، لأن ذلك سيدفع إلى الغلو وإلى البحث في عوالم التطبيقات والوسائط عما يشبع الغرائز والحاجات.
كاتب عراقي
الاخ الكاتب المحترم الاحداث التي تتناولها وقعت في معرض الكتاب بالمغرب وليس بالجزائر