يعتبر أسامة مهران أحد أصوات الشعر العربي خلال سبعينيات القرن الماضي، وهو عضو مؤسس لجماعة إضاءة المصرية الشعرية 1977، حملت الصحف والدوريات المصرية والعربية، نصوصه خلال تلك الحقبة، ولكنه لم يصدر ديوانه الأول «حد أدنى» إلا العام الماضي 2020، ثم أتبعه ديوانه الثاني «لا ينتظر الورد طويلا في الشرفات» وهما يحملان بعض النصوص التي كتبت منذ أربعين عاماً تقريباً، وعلى الرغم من ذلك فإنها تحمل من الجدة والحداثة ما يثير دهشة المتلقي، ويتركه نهبا للسؤال عن الأسباب التي وراء تهميش تلك التجربة من شعراء ونقاد السبعينيات، لماذا لم يحتف بها، كما احتفوا بتجارب أقل منها نضجا وتوهجا؟ ولماذا لم يهتم الشاعر نفسه بإبراز تجربته كما ينبغي؟ لماذا لم يهتم بإصدار مجموعاته الشعرية إلا متأخراً جدآ؟
أسئلة تفضي إلى الحيرة، وحيرة تفضي إلى السؤال عن شللية الوسط الثقافي، وميليشيات تلميع الزائف على حساب الأصيل المتجذر في طمي الإبداع. الشاعر نفسه يدرك (صعوبة الأسئلة واستحالة الإجابة، أدرك أهمية فاء السببية، وضرورة همزة الوصل، لماذا قرر الآن إصدار الديوان الشعري الأول؟ ولماذا تأخر عن القارئ العربي أربعين سنة، لكي يقول كلمته في تجربة حسبتها شديدة الخصوصية؟ هل الخوف من الفشل؟ أم الحذر من عدم التأكد؟ هل اليقين المتردد؟ أم الشك المتعمد؟).
تجربة شعرية شديدة الخصوصية
نحن أمام تجربة شعرية شديدة الخصوصية في معناها الفني، ومبناها ومعمارها التشكيلي، ولغتها الصافية.
تتسم نصوص أسامة مهران في مجموعتيه الصادرتين حديثاً «حد أدنى» «لا ينتظر الورد طويلا في الشرفات» بالثراء والتنوع الفني، والتجريب في أطر النص الشعري وأنساقه داخل وحدة الإيقاع التفعيلي، والبعد عن النظم الذي يئد روح الشعر، معبراً عن مكنونات روحه المفعمة بالحياة:
كاد الماضي الأجملُ
يتوارى في الأذهانْ
كان يطل علينا من وادٍ
ينتحلُ النسيانْ
وعيونً الصبح المرهقة الرؤيا
تتجلى في نظرةِ عشقٍ
في لفتة فنانْ
لبلادٍ جاءت
وبلادٍ رحلت من دون مكانْ (ديوان حد أدنى)
كما أنه يعبر من خلال نصوصه عن المشتركات الجمعية للإنسان، فتذوب ذاته في ذوات الآخرين، فالشعر في جوهره هو خلاصة المعرفة الإنسانية في شتى أنساقها ومصادرها، إذ أن المشترك الإنساني هو الذي يوحد بين آمالنا وآلامنا، ويجعل كلا منا دائماً على بعد حرف من الآخر:
لا شيء يعذبني غيري
لا شيء يقربني من
غوغاء المشهدْ
فجميع الرفقة مرتحلون
إلى الطوفان الأبعدْ
منتظرون على كرسيٍ مجهدْ
جربت السرعةَ كي ألحقْ
بقطارات من دون طريقْ
ومسارات من غير صديق ْ
من دون هوية
لا تتوقفْ
لا تتحرك
إلا بمسافة ليلٍ
إلا بإشارةِ مبعدْ (ديوان لا ينتظر الورد طويلا في الشرفات)
لا ينزع أسامة مهران ـ شأن السبعينيين ـ إلى الغموض في نصه الشعري، بل على العكس تماماً يأتي نصه واضحاً سلسا، لا يضع حواجز بينه وبين المتلقي، كما أنه لا يميل إلى حشو نصه بالألفاظ الغريبة، بل يختار معجمه الشعري من بسيط اللغة، لكنه يشكلها كما تقتضي رؤيته ووعيه، فتكتسب أبعاداً أعمق، لا تستعصي على التأويل، ومعرفة مراميها، بعيدة عن التشتت الدلالي والإبهام:
لا وقتْ
فالشاشةُ لا تبصر مثلي
غير بشاشاتٍ حبلى
بمراراتٍ كانت
أو كنتْ
والساعة تمضي
والوردة تذبل
تتجلد
تتدلى
من خوصِ النهر الخالد
من حبل سريٍ
في بطنكِ أنتْ
الساعة تمضي مسرعة نحوي
أو نحو الكذبة
في الضوضاء المحبوسة فينا
في الرمح الساطعِ
في تيهِ ليالينا
في عمق الشطَّ (حد أدنى)
كما لا يخفى على المتلقي هذا الحس الوطني الذي يغلف نصوص الشاعر، بدءا من استدرار الذكريات القديمة، والحنين إلى الماضي، كدأب الرومانسيين، مروراً بعتاب الوطن على تلك الحالة من الضعف والوهن والتمزق والتشظي، التي أصابت جسده فتهاوى، وصولاً إلى الشكوى إليه من لوعة الفراق، وجراح الغربة، ويظهر هذا بشكل جلي في رثائه لعبد الناصر:
في غمضة عينٍ
رحل الأبْ
بسرعة عصفورٍ أنهكهُ
نبضُ المشوار الصعبْ
انطفأت ضوضاءُ الشارعِ
إيذانًا بترجل شعبْ
كان الأفق مليئاً بشظايا محترقة
وعذارى منتحرة
وبقايا منتشرة
وغنائم حربْ
كاد الرجل يودّعُ أُمتهُ
بعد رحيل الضيفْ
كانت شمس الحريةِ
توشك أن تتباعدَ
مثل رحيق الصيفْ
تبت أيدي من ترك
المعجزة الكبرى حتى تموتْ
من قدّم فنجان القهوةِ
للقائدِ
في آخر أيام الطاغوتْ (لا ينتظر الورد طويلا في الشرفات)
سؤال مستعصي عن الإجابة
ونراه يلوذ مرة أخرى بالسؤال، السؤال المستعصي على الإجابة، تنحدر حروفه كتحدر الدمع من عيني يتيم، وتتشابك الأسئلة التي تقض مضجعه، وتحرمه السكينة، والسؤال هنا ليس مجرد أداة للمعرفة وحسب، بل هو مفتاح أول للدخول إلى بؤرة الواقع الذي يحاصرنا بويلاته وغرائبه كلما حلمنا بتغييره:
لماذا تغير هذا الوطنْ؟
وكل العمامات تسقط قُدّام عيني
وتسقط خلفي
وتجرح فيَّ صيامي
وتطلق أعيرةً من بعيدٍ
فتُدمي جيوشًا
وترمي حشودًا
وتعتق بعض العبيدْ
أهذا الذي قد نراهُ
سيأخذ شكل المحنْ؟
لماذا تغير هذا الوطنْ؟ (لا ينتظر الورد طويلا في الشرفات)
وأمام تعاظم الألم، وضغوط المعاناة، نبحث دائماً عن كف تربت على أوجاعنا، وتمسح الدمعة من مآقينا، فلا يكون أمامنا إلا المرأة، الحبيبة، صورة الوطن المفتقد، والحلم المنتصب دائماً في ذاكرتنا، وأمام أعيننا، تصبح المرأة معادلا موضوعيا للوطن، وامتزاج صورة المرأة بصورة الوطن والأرض وارتباطها، إنما يعكس صورة الانتماء إلى أديم تلك الأرض، وهذا ما نراه مجسدا في نصوص أسامة مهران:
من أول نظرة
أحببتك
آمنتُ بقداسكْ
بالشهد المتجمهرِ
في أنفاسكِ
بالدمعةِ حين تحط
على هُدبٍ تائه
في كراسكْ
بالليل المتجولِ
بين ضفائر شعركِ
والمتحول في إحساسكْ
لكنكِ
حين تغضين الطرف عن العشرةِ
في السرِ
وفي العلنِ
حين تكونين الوطن
المتبقي من وطني
أحسبك لديَّ الملهمةَ
المؤمنة بجميع تعاليمي
وجميع مخارج ألفاظي
وخيول تهاويمي
فتكونين الإبنةَ
والخالةَ
والعمةَ
أو ما تلفظه خواتيمي (حد أدنى)
نستطيع إذن أن نقول، إن الوطن والمرأة هما القاسم المشترك في نصوص الشاعر أسامة مهران، فهو يرى الوطن أحياناً في صورة المرأة، ويرى المرأة أحياناً أخرى في صورة الوطن.
كاتب مصري