ضربتان على الرأس تؤلم… فما بالك لو كانت ثلاثا!! ففي أسبوع واحد تابع التونسيون ثلاثة مشاهد مصوّرة، مختلفة الشخصيات والسياقات والمناسبات، لكنها تصبّ جميعها في غير مصلحة السلطة السياسية وسياساتها المختلفة، بل وتصبّ ضدها بشكل مفتوح وحاد أحيانا.
الضربة الأولى برنامج تلفزيوني حول قضية التآمر المزعومة على أمن الدولة الداخلي والخارجي والتي اعتقل فيها عدد كبير من القيادات السياسية من مشارب مختلفة منذ عامين دون أن يعرضوا بعد على المحاكمة، التي تقررت أخيرا أن تكون في الرابع من الشهر المقبل. قناة تلفزيونية خاصة تسمى «قرطاج بلاس» عرضت حلقة من برنامجها الجديد «رؤى حرة» الذي يقدّمه الصحافي زياد الهاني استضافت المحامية دليلة مصدّق التي تدافع عن عدد منهم. البرنامج الذي استمر لزهاء الساعتين يعتبر عمليا تشريحا كاملا لملابسات هذه القضية، وكيف أنها بنيت على أسس واهية بالكامل من قبل حاكم تحقيق هو نفسه الآن خارج تونس وملاحق قضائيا بتهمة التآمر!!.
طوال هاتين الساعتين تم استعراض أبرز ما جاء في قرار ختم بحث القضية، وكيف استند إلى شهادات أناس هلاميين أو غير ثقاة بالمرة، وكيف كانت رواياتهم للمؤامرة المزعومة سريالية بدرجة مبكية ومضحكة في آن واحد. لم يكتف البرنامج بذلك بل عرض أغاني حماسية تضامنية مع المعتقلين، وفي نهايته توجّه مقدمه إلى الرئيس التونسي محمّلا إياه المسؤولية المباشرة عن كل هذه القضية المفبركة. النتيجة أن هذه القناة أبلغت مقدّمه قرارها بوقف البرنامج، وقد يكون محظوظا أنه لم يعتقل هو نفسه، كما اعتقل في السابق على مجرد كلمة في برنامج إذاعي، علما أن إدارة السجن الذي يقبع فيه المتهمون في القضية قطعت عنه الكهرباء ليلة البرنامج حتى لا يتابعه هؤلاء!!
الرئيس الحالي «لا منجزات له سوى ترميم مسبح بلدي وهو لا يفعل شيئا سوى التجوّل بملف أحمر في يده مقبّلا الأطفال هنا وهناك»
الضربة الثانية، مداخلة في جلسة لمجلس نواب الشعب الموالي للرئيس من قبل نائب شاب في الواحدة والثلاثين من العمر هو أحمد سعيداني شنّ فيها هجوما لاذعا وغير مسبوق على قيس سعيّد متهما إياه بالعجز عن تحقيق أي منجز هام طوال الخمس سنوات التي قضّاها في سدة الحكم حتى الآن، واصفا المرحلة الحالية بأنها «مرحلة الكذب على الشعب» ومرحلة «بلا بوصلة واضحة». وأضاف هذا النائب في مداخلة جريئة للغاية جرى تداولها على نطاق واسع، أن لرؤساء تونس السابقين لاسيما الرئيس المؤسس الحبيب بورقيبة منجزات تنسب له، ولوزرائه، إلى الآن بينما الرئيس الحالي «لا منجزات له سوى ترميم مسبح بلدي وهو لا يفعل شيئا سوى التجوّل بملف أحمر في يده مقبّلا الأطفال هنا وهناك» مع خمسة رؤساء حكومات في خمس سنوات، متسائلا عما إذا كان يوجد حول الرئيس من يقول له «إلى أين أنت ذاهب بنا» ذلك أن «السفينة ستغرق بنا جميعا» كما قال.
تزداد قيمة هذه المداخلة أن هذا النائب نفسه هو من كان وصف في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 الرئيس قيس سعيّد بعقبة ابن نافع، فاتح بلاد إفريقية، والقائد القرطاجنّي الكبير حنّبعل، كما أنه هو نفسه الذي قال في يوليو/ تموز العام الماضي إلى أنه كان يفترض شنق راشد الغنوشي قبل أربعين عاما، وأن المعارضين مكانهم المقابر، فما الذي غيّره هكذا يا ترى؟!!.
أما الضربة الثالثة فكانت الجدل الذي أثارته زيارة وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي إلى تونس إذ لم تكن هذه المناسبة الأولى التي يخرج بشأنها بيان رئاسي يختلف تماما عما يصدر من جهة أجنبية التقت الرئيس أو أجرت معه مكالمة هاتفية أو حتى زارت البلاد. هذه المرة تحدث البيان الرئاسي عن استقبال الرئيس للامي فخاض في مسائل شتى مع سطر وحيد أشار إلى أن من بين ما تم التطرق إليه في اللقاء «الهجرة غير الإنسانية التي تديرها شبكات إجرامية عابرة للحدود».
هذا السطر اليتيم تحوّل في فيديو نشره وزير الخارجية البريطاني إلى القضية الأساسية التي جاء من أجلها لامي إلى تونس وذلك حين أشاد بجهود تونس في منع تدفق المهاجرين غير النظاميين عبر أراضيها نحو أوروبا مما ساهم في تخفيض أعدادهم بنسبة 80 في المئة، مع بث لقطات له وهو يتابع جهود حرس الحدود التونسيين في هذا الشأن مع مشاهد لطائرات بلا طيّار تساعدهم في رصد هؤلاء المهاجرين وأغلبهم من إفريقيا جنوب الصحراء. أما أكثر ما أثار حفيظة الكثيرين في تونس فهو ما أعلنه لامي من تخصيص لندن مبلغ 5 ملايين جنيه إسترليني لمساعدة تونس على تمويل مشاريع تحول دون رغبة هؤلاء في المخاطرة بحياتهم للهجرة إلى أوروبا عبر «قوارب الموت». لقد كان المبلغ زهيدا للغاية، بل ومهينا، إلى درجة دفعت أحد المدوّنين إلى السخرية منه بالقول إن الإنكليز أعطوا تونس 5 ملايين لحراسة سواحلها وطولها 2290 كيلومترا لمنع تدفق المهاجرين نحو أوروبا، وهم أنفسهم من أعطوا حارس مرمى نادي «مانشستر يونايتد» لكرة القدم، الكامروني أندريه أونانا، 55 مليون لحراسة مرمى طوله فوق 7 أمتار بقليل!!. شر البليّة ما يضحك.
كاتب وإعلامي تونسي
عندما يتظاهر معظم الشعب التونسي , يكون التغيير !
لكن معظم الشعب التونسي صامت !!
ولا حول ولا قوة الا بالله
المصيبة من البديل!
تونس، مثلها مثل العديد من بلدان الجوار، تواجه تحديات معقدة تتعلق بالهجرة غير النظامية، حيث لا يمكن اختزال أسبابها في عامل واحد كالفقر أو نقص الفرص، بل تتداخل معها مشكلات أعمق، من بينها على سبيل المثال لا الحصر، انتشار الاقتصاد غير المهيكل. فهل يمكن القول إن الاقتصاد غير المهيكل هو مجرد نتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة، أم أنه خيار تفرضه اعتبارات أخرى؟ ولماذا يفضل بعض الأفراد التوجه إليه أو البقاء فيه رغم انعدام الاستقرار والتغطية الاجتماعية؟ هل لأن تكاليف الاندماج في الاقتصاد الرسمي مرتفعة، أم أن الفرص فيه غير متاحة للجميع؟ مثلا، لماذا لا تتحول الأسواق التي تُنشئها الحكومات إلى بديل جذاب للباعة الجائلين، الذين يفضلون البقاء متنقلين بدلًا من الاستقرار فيها؟ هل المشكلة في تصميم هذه الأسواق نفسها، أم في موقعها، أم في غياب استراتيجيات تحوّلها إلى مراكز جذب حقيقية بدلًا من أن تبقى مجرد أماكن عرض غير نشطة تجاريًا ؟ أم ربما أن المشكلة أعمق وتتعلق بعدم الثقة في استدامة هكذا حلول؟…(تتمة)
…هذه التساؤلات أيضا تتقاطع مع عوامل أخرى أكثر عمقا، فهل يرتبط انتشار الاقتصاد غير المهيكل بعوامل ثقافية تجعل بعض الفئات ترى في العمل المستقل، حتى وإن كان غير منظم، حرية أكبر ويتيح مرونة أكثر من التقيد بالبيروقراطية الرسمية؟ وهل هذه العوامل الثقافية تخص فقط البائعين أم أنها تعني أيضا المستهلكين؟ ثم هل هناك أسباب نفسية تدفع البعض لتجنب الالتزام بقواعد الاقتصاد الرسمي، مثل عدم الثقة في المؤسسات أو الخوف من الضرائب والإجراءات القانونية، أو ربما الخوف من الفشل بسبب غياب ثقافة ريادة الأعمال وضعف خدمات الإستشارة والتدريب، أو أن الأمر يعود ربما إلى التوارث الثقافي للعشوائية والارتياح في إطارها ؟ ثم هل الاضطرابات وعدم وضوح السياسات الاقتصادية المؤدية إلى انعدام الاستقرار، بالإضافة إلى عوامل سياسية أخرى، هي ما يجعل البعض يفضل البقاء في الاقتصاد غير المهيكل بدلًا من المخاطرة باستثمارات غير مضمونة في الاقتصاد الرسمي ؟…(تتمة)
…ربما كل هذه العوامل وأخرى، تساهم في خلق بيئة تجعل الاقتصاد غير المهيكل أكثر جاذبية، لكنه في الوقت نفسه يكرس عدم الاستقرار، مما يدفع العديد من الأفراد إلى البحث عن مستقبل أفضل خارج بلدانهم، حتى وإن كان ذلك عبر الهجرة غير النظامية. فكيف يمكن إذن معالجة هذه الديناميات بطريقة شاملة لا تقتصر على الحلول الأمنية فقط، وعبر البحث عن إيقاف موجات الهجرة بالقوة، بل تأخذ في الاعتبار الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لهذه الظاهرة.
صحيح…ماذا فعل قيس سعيد لتونس خلال خمس سنوات من الحكم المطلق؟!!
للأسف سوف يبقى نفس الحال في تونس إن لم يقم الشعب التونسي بطرد من أكل الدستور في ليلة ظلماء ..
من يتابع المشهد التونسي يكتشف التناقض الذريع بين هامشية الإنجازات الرئاسية الذي توحي بأن قيس سعيد يتصرف وكأننا في نظام برلماني لايتدخل فيه الرئيس في شؤون البلاد و لا يساءله أحد عن منجزاته، من جهة… و -من جهة أخرى- الصلاحيات المطلقة التي منحها الرئيس التونسي لنفسه، من خلال دستوره الفريد، الذي جمع في يده كلّ السلطات : التنفيذية والقضائية والتشريعية، مما يمنح الحقّ للمواطن التونسي أن يرى في قيس سعيد المسؤول الأوحد عن النجاح أو الفشل.