أسطول الحرية: شهادة على الجريمة الإسرائيلية ضد الإنسانية

خلال هذه اللحظات الحاسمة في حياة الأمة وهي تعيش مخاض وعي جديد بالقضية الفلسطينية، التي واجهت وما زالت تواجه العالم أجمعه، باعتبارها آخر قضية عالقة في ملف تصفية الاستعمار، ومع «طوفان الأقصى» وُلد ما اصطَلح عليه الملثم بـ»طوفان الوعي»، وهو ما يتوافق والمحافظة على ذاكرة حيّة دائمة المواجهة مع الصّهاينة حتى لا يطوي النّسيان القضية، ومن علامات الحياة في هذه الذاكرة هبّة مجموعات من المتضامنين الإنسانيين من جنسيات متعدّدة لفك الحصار الظالم على غزّة، التي منذ انسحاب الصّهاينة منها عام 2005 وهي تعاني من الانتهاكات الإسرائيلية، ومنذ تاريخ 2007 أعلنت إسرائيل المنطقة «منطقة عدوّة»، وفرضت المحكمة العليا الإسرائيلية عقوبات على القطاع.
توثيق التجربة:
توالت القوافل الإغاثية لفك الحصار عن أهل غزّة، ومنها «أسطول الحرية» الذي كانت ضمنه سفينة «مافي مرمرة» التركية التي تحرّكت في 27 مايو/أيار 2010 من ميناء أنطاليا، وكان من ضمن ركابها متضامنون جزائريون، من بينهم العربي علالي، البرلماني والسياسي والأكاديمي، الذي أصدر حديثا (2024) كتابا بعنوان: (الاعتداء الإسرائيلي على أسطول الحرية /أحداث ذكريات وشهادات موثقة)، رصد فيه مجريات الرحلة، وما تخللها من أحداث إجرامية إسرائيلية في حق المتضامنين العزّل أفضت إلى قتل وجرح العديد منهم.
تقديم الكتاب بقلم عضو المكتب السياسي لحركة حماس سامي أبو زهري، الذي اعتبر «تجربة أسطول الحرية نموذجا رائعا في المواجهة مع الاحتلال، خاصة فيما يتعلق بحصار غزّة»، ما يحيل إليه كلام أبو زهري هو استمرار ذاكرة المقاومة لكل أشكال الاحتلال التي تهدف إلى اقتلاع الوجود الفلسطيني من الجذور.
ولأهمية الذّاكرة يؤكد الكاتب أنّ «واقع الشّخص في ثنايا الذاكرة ينبعث، دون سابق إصرار ليكشف عن لحظات بعينها، يعتبر الإنسان ذاته كان فاعلا فيها وعليه أن يسجل حيثياتها للتّاريخ وللأجيال القادمة». اهتم الكاتب باسترجاع التفاصيل الدقيقة لحركة أسطول الحرية، وبالخصوص على متن سفينة «مافي مرمرة» التركية. يروي تفاصيل انضمامه إلى أسطول الحرية، إذ صباحا وبمناسبة أدائه لمهامه النيابية التقى عبد الرزاق مقري، الذي سأله إن كان يرغب في المشاركة في رحلة بحرية لفك الحصار على غزّة، يقول: «لم أعط نفسي فرصة للتفكير في هذا الطلب لأنّني كنت أتمنّاه وأرغب فيه»، وعليه كان الانطلاق من مدرج مطار هواري بومدين في الجزائر نحو أنطاليا، لأنّ المبادرة كانت من تنظيم هيئة الإغاثة الإنسانية IHH التركية.
على متن «مرمرة» نحو غزّة:
انطلق الوفد الجزائري وعدد أعضائه 27 رجلا و5 نسوة من الفندق مساء 27/05/2010، صعود السفينة خضع لإجراءات أمنية مشدّدة وذلك لضمان سلامتها وإضفاء الطابع الإنساني على الرّحلة. تتكوّن السفينة «مافي مرمرة» من عدّة طوابق خصّص الطابق السفلي للنساء والباقي للرّجال، وكانت هناك قاعة خاصة للإعلاميين يُمنع دخولها على غيرهم، وخُصّص جزء من الطابق الرابع لأداء الصّلاة وإلقاء الدروس والمحاضرات.
ساد السفينة جوّ من التواصل المثمر بين الجنسيات المختلفة رغم عوائق اللسان، وكان البعض يستصحب مترجما، وأقيمت حفلة على شرف المتضامنين الأوروبيين والأمريكيين، كما كان من ضمن المتضامنين الحاج إسماعيل نشوان، فلسطيني مقيم في الأردن هُجّر قسرا أثناء النكبة، لم يمنعه التقدّم في العمر من المشاركة في القافلة، كما كان مشاركا في كل الرّحلات السّابقة دون كلل أو ملل.
انطلقت الرّحلة يوم الخميس ومضى يوم الجمعة بسلام. توقّفت السّفينة في عرض البحر تنتظر بقيّة السفن، فالتحقت إحداها المسمّاة «8000» التي تعرّضت للتخريب في اليونان من قبل عملاء الموساد، وبذلك لم تستطع مواصلة الرحلة فانضاف ركابها إلى سفينة مرمرة، حيث بلغ عدد المتضامنين بعد ذلك حوالي سبعمئة شخص من ست وثلاثين جنسية، أما حمولة سفن الشحن فقد بلغت مئة ألف طن، تنوّعت بين مواد الغذاء وأدوات طبية ومواد البناء وبيوت جاهزة ومعدّات تقنية كالمولّدات الكهربائية، وجميعها تحمل الطابع الإغاثي الإنساني. تأخّرت سفينة «راشيل كوري» التي انطلقت من إيرلندا عن مجموعة سفن القافلة، ولم تلتحق بهم في عرض البحر بسبب عطل قد يكون بفعل فاعل.
قبل الهجوم الصّهيوني على السفن الإغاثية بُلِغَ المتضامنون عن طريق الإعلاميين أنّ مصر تقترح عليهم تفريغ الحمولات في أحد موانئها ومن ثمة يتم إدخالها برا، فَرُفض ذلك رفضا باتا. كان أقصى ما تصوّره المتضامنون من رد فعل الصّهاينة أن يوجّهوهم نحو مصر بالقوة، أو يعترضون مسارهم نحو غزّة أو سحب السفن بالقوة نحو أحد الموانئ الفلسطينية المحتلة، لكن الصّهاينة باغتوهم بمجزرة رهيبة، وحسب الكاتب استُعملت فيها أربع سفن حربية وغوّاصتان وثلاثون زورقا حربيا أما الطائرات فكانت تأتي الواحدة تلو الأخرى.
الهجوم والاعتداء على السفينة:
في مساء يوم الاثنين تلقّت سفينة «مافي مرمرة» تهديدا من قبل الصّهاينة على جهاز الراديو، ثم بدأ التشويش على أجهزة الإرسال، مما عطل عمل المراسلين، ثم بدأت سفن حربية تقترب من سفن المتضامنين، فأعلن قبطان السفينة ووسائل الإعلام أنّ القافلة البحرية ذات طابع إنساني وإغاثي تحمل مساعدات إلى أهل غزّة وعلى متنها مدنيون عُزّل منهم الشيوخ والنساء والأطفال، وبطلبٍ من القبطان ارتدى المتضامنون سترات النّجاة. تجهزت عناصر الوفد الجزائري لحماية السفينة من أي هجوم محتمل للصّهاينة، ولم يكن في متناول أيديهم سوى خراطيم مياه الإطفاء أو كراسي أو علب المشروبات.
أثناء رجوع الكاتب من الصلاة فجرا إلى مكانه أبصر جنودا مدجّجين بالسلاح يتدلّوْن بحبل يمتد من مروحية إلى سطح السفينة، دون أن يعرف ما يحدث، وعلى يمين مرمرة لاحظ جنودا صهاينة مدجّجين بالسلاح ينزلون من سفينة حربية إلى زوارق حربية في كل منها تسعة عشر جنديا، وبدأت عمليات اقتحام السفينة وإطلاق الرصاص المطاطي والقنابل الغازية والذخيرة الحية، والحزم الضوئية لأشعة الليزر تتركز فوق صدور المتضامنين، وفي هذه اللحظة انخرط المتضامنون في الدفاع عن أنفسهم، لم يكونوا يملكون سلاحا. استولى الصّهاينة على السفينة بعد أن قتلوا تسعة أتراك وجرحوا اثنين وخمسين ناشطا تفاوتت إصاباتهم بين الخطيرة والأقل خطورة، وفقد الجزائري محمد ذويبي عينه اليمنى أما حليم معمري فقد أصيب برصاصة في يده اليمنى. الجدير بالذكر أنّه أثناء نزول الكوماندوس الإسرائيلي على السفينة تمّ أسر ثلاثة منهم، اقتيدوا إلى غرفة العلاج لإسعافهم، ومنهم من كان يبكي بكاء الأطفال، وآخر بلّل سرواله من شدّة الخوف. تمّ تجريدهم من سلاحهم الذي رُمي في البحر مما يدل على أنّ القافلة ذات طابع إنساني إغاثي. استسلم ركاب السّفينة وتمّ تقييد أيديهم، ومما لاحظه الكاتب أنّ بعض الجنود كان يحمل صورا لأشخاص مطلوبين لديهم!

الاقتياد إلى السجن وأصداء الجريمة:
تم تجريد الركاب من متاعهم واقتيدوا إلى ميناء أسدود، وصلوا دون أكل أو شرب ممنوعين من التوجه إلى دورات المياه مع التعرّض للسب والشتم والضرب والإرهاق الجسدي والنّفسي، النّاشطون الغربيون لم تقيّد أيديهم، ومما يذكر أنّ البرلمانية الفلسطينية في الكنيست الإسرائيلي حنين الزعبي، وكانت من أعضاء القافلة، أرغمت الإسرائيليين على فك أيدي البرلمانيين لأنّ ذلك يتعارض مع الحصانة الدبلوماسية، ما عدا الكاتب لأنّه كان يحمل جوازا عاديا لكن مدوّن عليه برلماني. تمّ التحقيق مع الركاب وكانت التهمة دخول الأراضي الإسرائيلية بطريقة غير شرعية، ولكن ما حدث هو اختطاف المتضامنين من المياه الدولية. بعد التحقيق طُلب منهم التّوقيع على استمارات الترحيل، مما يُعدّ إقرارا للتهمة وفي حالة الرفض سيكونون معرّضين لمدد طويلة من السجن، فرفضوا التوقيع. بعد أن تمّ إلباسهم بدلات السجن الكاكية، ومع التعب أخذتهم إغفاءة نوم، فوجئوا بالنداء عليهم لإطلاق سراحهم مرحّلين إلى الأردن ثم بعدها إلى دولهم.
استفاق العالم على الكارثة ودخلت القضية أروقة الأمم المتحدة. استلم الكاتب مراسلة من كارين لوك من مكتب المفوّض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، وأدلى بشهادته أمام لجنة التحقيق، وتشكلت بعثة أممية لتقصي الحقائق التي وقفت على عدّة جرائم قام بها الجنود الصهاينة في حق النّاشطين المدنيين العزّل.
اهتمت عدة وسائل إعلام عالمية بالجريمة مثل جريدة «le parisien» التي عنونت مقالها بـ»الإنزال المميت على القافلة البحرية»، وجريدة «لوموند» التي عنونت مقالها «إسرائيل أمام شهادات المناضلين وغضب المجتمع الدولي»، «الغارديان» أيضا و»ديلي تلغراف»، إضافة إلى جرائد جزائرية ومنها «البلاد» و»الشروق».

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فصل الخطاب:

    الحرية تنترع ولا تهدى تهدى وللحرية ثمن يا أبا اليمن 😎☝️

اشترك في قائمتنا البريدية