أسفار العراقي عبد الله إبراهيم… تمثيل التجارب الثقافية ومعرفة الآخر

صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت 2022 الكتاب الجديد للناقد العراقي عبد الله إبراهيم، الموسوم بـ(الأسفار) والأسفار جمع سَفَر؛ الذهاب ، والمجيء ، وقطع المسافات الطويلة بين جغرافيات مختلفة، وقد اختاره المؤلف بديلا عن الرحلة، والترحال، والارتحال، وهو بديل لم يصمد طويلا في متن الكتاب، فسرعان ما غادره الناقد إلى الاستعمال القديم ليسمي أسفاره رحلات، كما في: رحلة أوروبا، وبريطانيا، وغيرهما، وليس هذا مما يؤخذ على الكتاب، فقد اهتدى مؤلفه وهو يصوغ متنه بأعراف آداب الارتحال، ونهج على منوالها دون إرغام، فكتابه لم يُذعن لقالب التقليد المسبق، بل كان إعادة صوغ ليوميات دوّنها عن الأماكن التي قصدها في يوم ما، وعاد إليها محررا ومفسرا ومؤولا، مسترجعا تجربة الارتحال ذاتها، مستعيدا ما غُمر بمتعةٍ خلالها، وهذا كاف لأن يدلنا على أن الأسفار، أو الارتحال، أو الترحل ألفاظ متداخلة مع بعضها، لم تكن موضع مشكلة في المتن؛ فقد أدت دلالة واحدة لها شأن بالإضافة السردية التي حصلت في مجمل الأفكار التي طرحها المؤلف، وهو يرتقي بالأسفار عرضا، وتأويلا إلى مستوى أخذت فيه وضعا مشوقا، دعا إلى الشعور بالمتعة أمام سيل التجارب التي نهضت في المتن.
تحيل قراءة الكتاب على أن الأسفار هي الارتحالات المقترنة بالكتابة التي تقع بين عالمي التخيل والحقيقة، أي أنها كتابة مهجنة أخذت من عالمي الحقيقة، والخيال في ممارسة التعرف والاكتشاف، ومن هنا بدا لي أن الالتباس الحاصل في مفهوم الرحلة؛ أي رحلة، عائد إلى هجنتها التي تحيل على أشكال تعبيرية مختلفة، لكنها هُجنة أسهمت في الإغناء الشكلي، والمضموني للرحلة لتجعل منها متنا مفتوحا على آفاق متعددة.
كان المؤلف في أسفاره قد وقع تحت هيمنة رغبة راودته للسفر منذ وقت مبكر في حياته؛ فهو يعتقد أنه خيارٌ ينبغي أن يحيا به الإنسان ليحقق بعضا منه، فلا يمكن للمرء العيش، ما لم يبتكر شيئا يَحيا من أجله، ويكون إحدى ركائز حياته، وعلى المستوى الشخصي هو لم يفاجأ بالسفر؛ لأنه واظب على التفكير فيه، وتوقع حدوثه، وقبل بتأخره مرغما؛ لاعتقاده أنه آت في يوم ما، فكأن حدسه استجاب لأهوائه، حتى حسب ذلك في بعض الأوقات من طيش الغرور، وثمار الرغبة.
بدت مقاصد الأسفار واضحة في مقدمة الكتاب، التي رأت أن دوافع الارتحال وغاياته تتمثل في الحصول على ثمرة التعرف والاكتشاف، والتعرف مقصد من مقاصد الرحلة، وهو مؤشر كبير على حركتها وتصوراتها، ولاسيما حين تكون تواصلية في سعيها الذي يستثير الذاكرة، ويعمل على إيقاظ حواس الرحالة، ومجساته التي تعمل في أقصى حالات التحسس، والتواصل الحضاري مع الآخر بوصف (التعرف) ثقافة لا علاقة لها بوسائل التواصل السابقة المبنية على فكرة الحرب، والتجارة، وغيرهما، إنما علاقتها بوسائل المشاركة والاندماج والانفتاح الاقتصادي والمجتمعي، أما الاكتشاف فيرتبط بقدرة الرحالة على إظهار المخبوء، والجوهري إلى العلن بهدف الإعلان عن وجوده، وهو يحيل المرئي إلى مقروء.
كان المؤلف قد رأى أن غاية الأسفار ليست في الامتثال إلى أعراف العالم، بل في معرفة أحواله، واستيعاب تجاربه، وإدراجه مؤثرا في نظرة الفرد إلى نفسه، وإلى العالم الذي قَدِم منه، ومهما كان التباين قائما بين العوالم، فالتخوم متداخلة، والمصائر مترابطة، وذلك عنده يُثري الهوية، ويصقل التجربة التي لا تأتي إلا من خلال جملة سياقات منها الأسفار، وكان المؤلف قد عدّ فضول المعرفة العقلية، والرغبة في الاستمتاع – وكلاهما يسهمان في التعرف والاكتشاف- سببين رابضين وراء كل أسفاره، وقد عاهد نفسه أن لا يزور بالكتابة أسبابا يسترضي بها نفسه، أو يستعطف بها غيره، في إشارة دالة إلى خلو أسفاره من مقاصد لا تمت إلى ثقافة الحقيقة بصلة.
كتب عبد الله إبراهيم أسفاره برؤى واضحة، كشف عن مضمونها في المقدمة مؤداها أنه التزم الصدق في سرد الأسفار، لا لأن ما كتبه تأريخ مهم، بل لأنه مثل فيه عين المسافر التي التقطت ما هو قابل للرؤية، ليشكل قيمة مكانية لها سلطة الاستحواذ على الذائقة، فقد اختار للكتابة أسلوب صوغ ميسور يشبه أسلوب حكاية ممتعة بعيدة عن المستوى البلاغي ذي الجزالة المتعمدة، والإيجاز، والعبارات المكتنزة بالمجاز رغبة منه في وصول سيرته إلى جمهور كبير، ومتنوع مراعيا فيها إلى حد كبير التدرج المكاني في كتابتها، لاعتقاده أنه لا ينوي تقديم كتاب تاريخ، أو جغرافيا، هذا أول تحديد ألزم (المؤلف) نفسه به، على الرغم من أنه كان على دراية واسعة بمختلف الأساليب التي سلكها كتاب الأسفار؛ ولهذا كان قد تساءل في مقدمة الكتاب: هل شق الكتاب دربه من وقائع الأزمنة الحالية إلى أحداث الأزمنة الغابرة، أم قبع أسيرا في حاضنته الأولى، واكتفى بها؟ هذا سؤال شغل المؤلف، فهو ليس مؤرخا، وليس روائيا همه تخيل الأحداث، وحْبك أطرافها، إنما هو مسافر تملك حق الذهاب والإياب، حيث وطأت قدماه أرضا، وحيث وقعت عيناه على مشهد، ليتدارك الحاضر بالماضي، ويرمم مآثر الماضي بوسائل الحاضر، وبهذا الصنيع اهتدى بأعراف آداب الارتحال، ونهج على منوالها دون إرغام، فكتابه لم يُذعن لقالب مسبق الصنع، وليس من غاياته إثبات قضية أو دحضها، بل إعادة سبكٍ ليوميات دُونتْ عن الأماكن التي قصدها، وعاد إليها محررا ومفسرا ومؤولا، فكأنه استرجع تجربة الارتحال ذاتها، واستعاد ما غُمر به من متعةٍ خلال الأسفار، في وقت لم يعمد فيه إلى المبالغة في ما شاهد، فليس همه التقليل من شأن ما رأى.
لا تُقبلُ كتابة الاسفار- حسب رأي عبد الله إبراهيم- النيابة؛ أي الكتابة على لسان الآخر، فالمترحل يباشرها بنفسه، ويتولاها بذاته؛ لأنها حاملة لخبرته ورؤيته، وهي لا تتجلى إلا بمباشرة التعبير عنها بنفسه، ولا يجوز له أن يُغالي في الانشغال بصورته في المكان الذي يرتحل إليه، إنما يُشغَل بصورة ذلك المكان في عينيه حتى نسيان ذاته؛ فذلك سهل عليه استيعاب روح المكان، واستيفاء طبيعته، بدل أن يجعل منه مرآة لإثبات وجوده قصد الإعجاب بذاته؛ فالسفرُ هو أن يرى المرءُ المكانَ في نفسه لا أن يرى نفسَه في المكان.

فليس كتاب (الأسفار) سفرا في الجغرافيا وحدها، بل ترحل في التواريخ، والأديان والفنون والعمران والظواهر الاجتماعية، فما أراده عبد الله إبراهيم من الأسفار الانفتاح بوساطة السرد المتعدد الخصائص والخطابات والرؤى على حياة الآخر البعيد، فقد كان معنيا بتقديم تجارب ثقافية إلى المتلقي إيمانا منه بمهمة الرحالة التي تتجاوز الشعور بالمتعة الشخصية إلى العمل على ضرورة معرفة ثقافة الآخر، وإيصالها بحيادية تامة.

وكان هم المؤلف أن يرى ما وراء المرئي، وألا يكتفي بظاهر ما يرى، في إشارة إلى سعيه الثقافي للوقوف عند مضمر المظاهر التي هي الأكثر خطورة في سياقات السفر والحياة، وتكمن خطورته في كونه مجموعة من القيم الكامنة التي تمارس تأثيرها دون حساب، وهي تكشف عن حمولتها المؤثرة في الجميع لتكون سلطة تأثير ثقافي، فالأسفار تجربة مفيدة، وتكون أكثر فائدة إذا قُدمتْ للقارئ بأسبابها وظروفها، وصعابها وملابساتها، من هنا جعل الرحالة عينيه مرآة تنعكس فيها صور العالم، أو جعلها مِسبرا به يسبرُ ما تقع عليه عيناه، وما يثار في نفسه من مشاعر، فدون ذلك تصبح كتابة الأسفار ترفا، لا عمق لها، ولا غاية، ولكي تؤدي وظيفتها في الكشف، والاستجلاء يتوجب على الرحالة اعتماد درجة من التخيل لا ينقطع عن تمثيل الحقيقة، لكنه لا يجعل منها غايته الأخيرة، فأحوال المترحل، وسجل خبراته، ينبغي أن تشتبك بما يشاهده، ثم تنصهر في نسيج يجعل من تجربته سردا ثقافيا لا تاريخا محضا.
وكان عبدالله إبراهيم قد عدّ نفسه ضمن فئة من الناس ممن يفضلون رواية خبراتهم عن الأشياء، أكثر مما يحبون تصويرها، فالرواية عن طريق اللغة توحي بأن وظيفة اللغة تنوب عن الأشياء نيابة حقيقية؛ أي تحيل على واقع يعيش من خلال اللغة، يمكن استحضاره، ويمكن تحديد أبرز معالمه، فهو مجموعةٌ من العمليات التي تُظهر الممارسات التي تنتمي إلى شحنات الوعي الإنساني، المسرودة بقصد الإفصاح عن أنساقها، التي هي أعلى درجات التحسس الحياتي على لسان الرحالة، من خلال جملة التمثيلات التي أنتجها وهو يقدم سردا ممثلا لحركة المجتمع وأفراده ونشاطه وثقافته وعلاقته بالمكان والزمان، بعيدا عن تعسف الموجهات السياسية والاجتماعية والنفسية.
أكد ابراهيم في مقدمة الكتاب، أنه ليس في نيته الانتقاص من قيمة ما رأى في الأسفار، بالإعلاء من شأن اللغة تزلفا، وهذا يعني أنه وضع أسفاره على محك الحقيقة، والقراءة الدقيقة لمتن أسفاره التي تشير إلى اعتماده (اليوميات) بوصفها المدونة الأساسية لمتن الأسفار؛ فهي غنية في سردها، وكان دوّنها بين 2001-2016، وهذا يعني أن أصول (الأسفار) لا يمكن جرحها، فهي موضع ثقة بين المؤلف والمتلقي.
في السرد الروائي، كما في السيرة الذاتية، يحضر ميثاق ينظم طبيعة العلاقة بين الروائي والمتلقي، وهذا ما وجدته في مقدمة (أسفار) من خلال وجود تطابق بين ما قاله صاحب الأسفار، وما يتلقاه المتلقي، وقد تم ذلك بوساطة التصريح الذي أكد من خلاله عبد الله إبراهيم، أن ما كتبه هو أسفار بالإحالة الضمنية على جنسية الكتاب، وقد أدى هذا التصريح إلى حضور ميثاق قراءة بين المؤلف نفسه، والمتلقي، وهو ما بدا واضحا في إعلان المؤلف الذي مؤداه: كل ما ورد من أحداث في متن الكتاب هو من تجارب الأسفار التي قام بها، وحيثما ورد ذكر أمر شكك فيه عَرضه للتحقيق بهدف الاطمئنان إليه، وهو لا ينفي عن كتابه الوقوع في الخطأ في ضوء خبرة مترحل عابر لا قدرة له على الإلمام بالعوالم التي زارها، إنما كانت قدرته في بيان وجهة نظره فيها ما أسعفه الوقت في تدقيق ذلك، فكان هدفه المعلن تمثيل التجارب المعرفية، والثقافية التي رافقته، مع رغبة في إشراك القارئ في تلقيها.
انفتح متن الكتاب على عدد من الرحلات، التي جاب من خلالها أرض الآخر وثقافته؛ أولها الرحلة الأوروبية؛ وهي رحلة الرهبة التي رافقت الجاهل بالمكان، لكنها سرعان ما تبددت بعد أن حصل على تأشيرة سفر من السفارة الفرنسية في الدوحة إلى باريس، ودول أوروبا الغربية، وهكذا توجه إلى المغرب، ومنها إلى إسبانيا ليزور غرناطة وقرطبة وأشبيلية، ثم توجه إلى مدريد وطليطلة ليغادر إلى باريس، وبواسطة القطار سافر إلى بروكسل، وللمؤلف سفرة أخرى إلى أوروبا بدأها من إسطنبول بوابة أوروبا الشرقية، واليونان، وإيطاليا، والنمسا، ولوكسمبورك، والنمسا، وألمانيا، وباريس، ثم زار لندن وأمريكا، ليختم كتابه في زيارة إلى فلورنسا الإيطالية.
وبعد: فليس كتاب (الأسفار) سفرا في الجغرافيا وحدها، بل ترحل في التواريخ، والأديان والفنون والعمران والظواهر الاجتماعية، فما أراده عبد الله إبراهيم من الأسفار الانفتاح بوساطة السرد المتعدد الخصائص والخطابات والرؤى على حياة الآخر البعيد، فقد كان معنيا بتقديم تجارب ثقافية إلى المتلقي إيمانا منه بمهمة الرحالة التي تتجاوز الشعور بالمتعة الشخصية إلى العمل على ضرورة معرفة ثقافة الآخر، وإيصالها بحيادية تامة.

أكاديمي من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول انتصار الطياري:

    أستاذي شعلة متوقدة نسأل الله لها دوام العطاء

    1. يقول عبد الحميد:

      ارجو البريد الالكتروني للاستاذ عبد الله ابراهيم من فضلكم

  2. يقول محمد الأحمد:

    يكشف دفاضل عبود التميمي عن مفهومه الدقيق لمسار الاسفار في العقل البشري، رحلة مواجهة المعلوم بالمجهول … مغامرة فكرية لانعكاس تجربة سبق ان باغتتها الامواج ودفعت بها بعيداً عن وجهتها.. تلك المغامرة احتكاك النصل بالحجر، لتغيره نحو الفعل التام. انه يقرأ – هنا – الكتاب من وجهة نظر عالم بالسرد وفنونه، قراءته تدعم بداية معرفية في رحلة عطاء دعبد الله ابراهيم.. لقد اوجز هذا المقال وكشف.. انه تفاعل الكاتب الحقيقي مع نص مايء بالأمل بل بالعطاء.. لا يسعني الا ان أن أقول حييتم.

اشترك في قائمتنا البريدية