«لماذا أكتب؟» تساءلت آسيا جبّار، في رسالة نشرتها في مجلة فرنسية عام 1985، قبل أن تُجيب: «أكتب تجنباً للموت، أكتب تفادياً للنّسيان.. أكتب على أمل ضئيل لأترك أثراً، ظلاً، خربشة في رمال متحرّكة، في غبار مُتناثر، في صحراء شاسعة». مرّت أربع سنوات على رحيل الكاتبة (1936- 2015) ويبدو أنّها نجحت، فعلاً، في تجنب الموت، الكتابة أنقذتها. فقد صدرت مؤخراً، ترجمة لمجموعتها القصصية «نساء الجزائر في مخدعهن» إلى اللغة السلوفينية، وهي مجموعة نشرتها قبل حوالي أربعة عقود من الآن.
أن تصل أعمال آسيا جبّار إلى لغة صغيرة في عدد مستعمليها، مثل السلوفينية، لا يتجاوزون مليوني متحدّث بهذه اللغة، فذلك، حقاً، انتصار على موت النصّ، وجدار عازل تقيمه الكاتبة، يفصلها عن النّسيان ويطيل في عمر ما كتبت.
مجموعة آسيا جبّار تقتبس عنوانها من لوحة أوجين دولاكروا الشّهيرة، تتقاطع معها، كي تسرد التّفصيلات التي نراها فيها، وتبتكر حكايات لنسوة الجزائر العاصمة كي توسّع من زوايا النّظر إلى تلك اللوحة. إنّها مقابلة بين الأدب والفنّ التّشكيلي، مُحاورة صامتة بينهما، تخرج منها نسوة وقصص، يتكلّمن بدل أن يبقين حبيسات الصّورة التي أطرّها دولاكروا في الأعوام الأولى من احتلال الجزائر. وعلى عكس الفنّان الفرنسي، فإن آسيا جبّار لا تقيّد نساءها في لحظة تاريخية واحدة، لا توثّق حركتهما في زمن ثابت، بل تفتح لهم نافذة النّظر على مصراعيها، تحرّرهم من هزيمة مدينتهم أمام المحتلّ، وتطيل حبل حكايات ما قبل الاحتلال، إلى إبان تلك الفترة وصولا إلى الاستقلال وما بعده.
عندما أصدرت آسيا جبّار «نساء الجزائر في مخدعهن» كانت تعلن نهاية القطيعة، فاصلة تنهي بها سنوات الهجر، فقد توقّفت عن الكتابة والإصدارات في العام الأخير من السّتينيات، وأعادتها نسوة الجزائر إلى مهنتها الأساسية ككاتبة، بعد تجربة قصيرة، لكنها لافتة في السّينما، وهذا الكتاب الذي فصل بين مرحلتين من حياتها، لا يزال بطاقة تعريف لها في الخارج. وترجمته الآن إلى السلوفينية تُعيدنا إلى سؤال أنه مهما نشر كاتب من أعمال (كما هو حال الكاتبة الجزائرية) فما يترسّب في ذاكرة الآخرين هو فقط كتاب واحد أو اثنان في أحسن الحالات. بحسب المترجمة كاتيا زاكرايتشك، هذه ليست المرّة الأولى التي تترجم فيها «نساء الجزائر في مخدعهن» إلى السلوفينية، فقد ترجمت، في أوائل الثّمانينيات، القصّة الأساسية من الكتاب التي تحمل العنوان نفسه، ولكن عن الإيطالية وليس الفرنسية، وهذه المرّة الأولى التي تنقل فيها المجموعة كاملة، عن اللغة التي كُتبت بها. مع ذلك يمكن القول إن آسيا جبّار هي الكاتبة الجزائرية الوحيدة والمغاربية، التي ترجمت إلى السلوفينية.
العلاقة الأدبية بين الجزائر وسلوفينيا، بدأت من مطلع السّتينيات، تحت تأثير حرب التّحرير، وارتداداتها الخارجية، وبسبب تقارب زعيم يوغسلافيا آنذاك، تيتو مع المحيط العربي، تحت مظلّة «دول عدم الانحياز».
العلاقة الأدبية بين الجزائر وسلوفينيا، بدأت من مطلع السّتينيات، تحت تأثير حرب التّحرير، وارتداداتها الخارجية، وبسبب تقارب زعيم يوغسلافيا آنذاك، تيتو مع المحيط العربي، تحت مظلّة «دول عدم الانحياز»، هكذا انعكس التّقارب السّياسي على نتاج المترجمين. وإذا كان ـ لحدّ السّاعة ـ لا يوجد أي كتاب سلوفيني، ترجم في الجزائر، فقد ترجم السلوفينيون ـ من جهتهم ـ مؤسسي الرّواية في بلدنا. بدءاً من ثلاثية محمد ديب «الدّار الكبيرة، الحريق والنول»، ولم يقتصر الأمر على كتّاب باللغة الفرنسية، وإن «ريح الجنوب»، أول رواية جزائرية باللغة العربية، ترجمت للسلوفينية أيضاً، بل إنّهــــم أيضاً ترجـــموا مسرحية جزائرية، تكاد تكون منسية اليوم، وهي «أطفال القصبة» لعبد الحليم رايس، وصدرت مسلسلة في جريدة محليّة. أمّا الكتاب الجزائري الذي فتح شهية قراء هذا البلد، العالق بين جبال الألب، في وسط أوروبا، فهو «المعذّبون في الأرض» لفرانز فانون، الذي تعدّدت طبعاته، منذ صدوره قبل خمسين سنة.
وتوالت أيضاً الترجمات الشّعرية لمالك حداد وبشير حاجّ علي، ثم أنطولوجيا للأدب الجزائري، ضمّت مختارات لأهم أسماء جيل الخمسينيات من القرن الماضي: آنا غريكي، مولود فرعون، كاتب ياسين، جان سيناك، إيمانويل رابلس، مولود معمري وغيرهم. الأدب الجزائري كان الأكثر حظاً مقارنة بالجارين تونس أو المغرب، في الترجمات في سلوفينيا، ويرجع السّبب في ذلك إلى تقارب تاريخي وتقاطعات اجتماعية بين البلدين.
منذ صدور ترجمة مجموعة آسيا جبار إلى السلوفينية، لا نكاد نسمع سوى عنها؛ ندوات حول الكتاب وأحاديث وحوارات عنها في الراديو، ومقالات في الجرائد، فهناك شيء يشدّ قرّاء هذا البلد الصّغير إلى الكاتبة الجزائرية، تماماً مثلما حصل قبل 18 سنة حين صدرت ترجمة لروايتها «الحبّ، الفانتازيا». هذا الاهتمام المباغت بالجزائر الآن وأدبها يتصادف أيضاً مع معرض مهمّ، في واحد من متاحف المدينة، يعرض أرشيفاً بصرياً وكتابياً مثيراً عن الجزائر، ما قبل وبعد الاستقلال (1962).
وتضيف كاتيا زاكرايتشك: «بدأ الاهتمام بالجزائر من أدبها الثّوري»، كانت تلك فاتحة عقود موالية من التّرجمات، ومن الاهتمام بأدب جزائري، يعاني من التّضييق في الدّاخل، لكنه يلق ترحيباً في الخارج، حيث تكفي الإشارة إلى أن غالبية كتب آسيا جبار التي أعطت اسمها لأكبر جائزة أدبية في البلد، تأسست عقب دفنها، نشرت في الخارج ولم تستورد إلى الدّاخل، ويتوجّب المرور بدور نشر أجنبية إذا أردنا قراءتها.
عودة آسيا جبّار، برفقة «نساء الجزائر في مخدعهن» تثير سؤال تلقي الأدب الجزائري في سلوفينيا، المكتظّة بترجمات من ثقافات ولغات أخرى، وإن كان للجزائر ركن صغير في اهتمام القرّاء والنّقاد، فهـــــذا لا يعـــني أن نفرح بقدر ما يجب أن نُعيد التّأمل في تصدير نتاجنا الأدبي للخارج. لقد تساءلت آسيا جبّار في نهاية رسالتها تلك عام 1985: «هل الكتابة ضربة حظّ أم ضرورة؟» بدون أن تقدّم إجابة تامّة عن ذلك السّؤال.
صحيح أن حظاً لعب دوراً في التّرويج للأدب الجزائري في الخارج، مالت السّياسة بثقلها في تصدير ذلك الأدب، في الماضي، أماً حاضراً، بعد عقود من تدهور الحال العام، قبل اندلاع ثورة 22 فبراير/شباط، التي لم تكتمل، هل يستطيع الأدب أن يتكلّ على نفسه فقط في التّرحال؟
٭ كاتب جزائري
استاذ سعيد شكرا على التطواف الجميل على عوالم آسيا جبار البعيدة عن الأضواء و المتناول القرائي للأسف و شيء مشرف أن يقرأ أدبنا الجزائري و العربي في لغات محدودة كالسلوفينية..تحياتي