أشباح الأيديولوجيا

أخطر ما في الأيديولوجيا هو تحوّلها إلى تاريخ، وإلى قراءة حمقاء لهذا التاريخ، فلا تشمّ منها سوى عفونة الخزن والرطوبة، ولا يبدو منها سوى الـ»دوغما» التي تتبدّى وكأنها تصفية حساب مع الآخرين، وإسقاطات «الوعي الزائف» كما سمّاه ماركس، وبهذا تفقد هذه الأيديولوجيا كثيرا من قوتها الأنطولوجية، وحتى الأخلاقية، لتتمترس خلف التاريخ، بوصفه الصياني، وتدافع عن خفايا مخزنها، ما يجعل خطابها غامضا، وبعيدا عن التداول والاستعمال، وقريبا من الوهم، حيث ينطوي على تمثلات تعويضية، وعلى نحوٍ يجعل ذلك الخطاب عدوانيا وغاطسا في الغلو، والعنف، والكراهية، وأن تمثيله الرمزي للأفكار ينحو إلى استثارة قوى ارتكاسية، فشلت في أن تتجاوز زمنها، وفي مواجهة زيف الوعي بأسئلته وشروطه الموضوعية، وفي اتجاهٍ يجعل مراجعتها للأفكار والوثائق، تتسم بالعدمية في نظرتها إلى الحاضر والمستقبل..
رهاب الأيديولوجيا، لا يخصّ تحديد علاقتها بالفلسفة، ولا بالسياسة والاجتماع فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى الكشف عن علاقة قلقة ومريبة وإشكالية بالأدب، حيث يتقنّع الأيديولوجي بقناع «المؤرخ» العنيف، والإكراهي، وشاهد الزور، في مراجعاته، وفي آرائه ومواقفه، وفي تعاطيه مع الوقائع والأحداث، والنصوص، وفي ما يؤسَس عليها من قراءات فاعلة لكثيرٍ من الأنساق التي تعرّضت إلى صدمات التغيّر، والتحولات الثقافية وصراعاتها. هذه المعطيات لها تمظهرات سياسية واجتماعية ونفسية، إذ كشف للقارئ كثيرا من المفارقات المستفزة، على مستوى مراجعة التاريخ، أو على مستوى علاقتها بالسريات الكبرى، التي كانت الأيديولوجيا جزءا منها، لاسيما أن كثيرا من الأدباء ظلّوا عالقين بأوهام تلك السرديات، ولم يتحرروا بسهولة من عقدة «الدوغما الأيديولوجية» إذ ارتهنوا إلى استغراقات لاوعيها، وإلى نكوصها، واغترابها عن الواقع، بعيدا عن فهم طبيعة التغيرات الكبرى التي فرضت سطوتها على الواقع، وعلى كتابة التاريخ ذاته..

ظل الزمن الثقافي العراقي مزدحما بكثير من مظاهر الرعب، والتحوّل والمفارقة، في سياق مواجهة «الرعب السياسي» و«الغلو الأيديولوجي» وشروط التجديد الثقافي، وهذا ما جعله من أكثر الأزمنة انغمارا بتشوهات الرهاب الأيديولوجي، بوصفه العقائدي والحزبي والثوري، وأن التمثلات التي اصطنعت للمثقف العراقي صورته الثورية، والمتعالية، لم تستطع التخلّص من تداعيات الانهيار السياسي، والانهيار الأيديولوجي، التي انعكست على تمظهرات غرائبية في الواقع الثقافي/ الأدبي، وعلى حساسية الأديب ذاته وردود فعله، فعاش في عوالم كابوسية، أغرقت أدبيته بكثير من السوداوية والإثارة والعدمية، وهناك من بدا متمردا، ساخطا، لا أدرياً، وأكثر عدوانية في النظر إلى تاريخه، وفي مراجعة هزائمه السياسية، وخيباته الوجودية، وربما كان أكثر سخرية ومرارة، ونزوعا إلى التجريب والتمرد، لكن ذلك لم يجعله حرّا في التعاطي مع عقدة «التمترس» داخل تاريخ الأدلجة ذاته، بوصفه تاريخا شخصيا ورومانسيا لسكنى أوهامه الثورية والبطولية، مثلما هو تاريخ حمائي لأوهامه الحزبية والثورية التي فشلت في مواجهة صدمات الفشل والانهيار، فكانت العزلة، واللاجدوى والمنفى، أشكالا تعويضية للخلاص، مثلما صارت اللغة قناعا لهذا الخلاص، حيث تتخاتل فيها الاستعارات والتوريات والإحالات، والأوهام، ما دفع بعضا من أدباء الأدلجة إلى الهروب من الاعتراف القاسي والفاجع عبر التواطؤ مع التاريخ، حتى يبدو خطابهم وكأنه نوع من الإشهار في عدوانيته وثأريته إزاء التاريخ والآخرين، وإزاء شروط النقد والمراجعة، وإزاء ضرورات كشف المسكوت عنه في العلاقة مع الآخر، وفي كتابة السير والمراجعات والمذكرات.
حين كتب الشاعر سامي مهدي «الموجة الصاخبة» والشاعر فاضل العزاوي «الروح الحية» والشاعر فوزي كريم « تهافت الستينيين» و»ثياب الإمبراطور» بدت الأيديولوجيا وكأنها تنطّ بخفّة، وبصخب تطهيري، رغم أن فوزي كريم كان أكثرهم تمردا على صورة المثقف الأيديولوجي، وعلى نظرته الراديكالية للتاريخ والأحداث، إلا أن الكتابين الأولين استغرقا كثيرا بما يشبه الثأر الأيديولوجي، وبالدفاع عن حصون وقلاع وأوهام قديمة، والحديث عن يوميات تحتاج إلى دقة في المراجعة، لكن هذا النمط من الكتابات «الثأرية» تجاوز فعل المكاشفة، ليتحوّل للأسف إلى «سياق» أراد منه بعضٌ آخر من أدباء الأيديولوجيا تصفية حساباتهم مع التاريخ، من خلال التصفية الثأرية مع أشخاص بعينهم، بعيدا عن مقاربة تعقيدات الزمن الثقافي ورهاباته وضواغطه، حتى بدت بعض الأحكام غارقة في المجانية والانفعالية، والتخوينية، وأن ما يحضر من الاجتهادات والمواقف في تلك الأحكام، يتكئ في سياقه على نوع متعسف من فقه «القياس» الذي تم ترحيله من التاريخ الديني إلى الأدب، ومن القراءة الموضوعية، إلى القراءة الغاطسة بالكراهية، والعدوانية، والمرارة وسوء الظن.

الأيديولوجيا والمثقف

هروب المثقف إلى حصن الأيديولوجيا لن يجعله بمنأى عن النقد، فما تصنعه تلك الأيديولوجيا من المقدّس والمضلل سيكون هشا إزاء متغيرات الواقع الثقافي ذاته، وإزاء الأسئلة التي تُثار وتتجدد، وأن تحوّل المثقف إلى فقيه، أو ثوري، أو أخلاقي، أو مؤرخ، لن يحميه من الحقيقة، التي تحتاج إلى بطل ضد، جريء، يملك القدرة على الاعتراف، وعلى المواجهة، بعيدا عن براديغمات المثقف النرجسي والمتصابي والعالق بأهداب تاريخٍ رث.
المراجعة الفاعلة تحتاج إلى شهود صادقين وحقيقين، وليس إلى موتورين، مأزومين، تختلط لديهم عقد الأيديولوجيا بعقدهم الشخصية، مثلما تختلط أوهامهم بشهوات صيادي الغنائم، يبحثون في «الحروب القديمة» عن أوهام قديمة، وبالتالي سيكون الحاضر بكل مفارقاته رهينا بذلك الماضي المأزوم الذي يصنعه أصحاب تلك الحروب، والعالقين بمراثي وهزائم سلطة الأيديولوجي الأكثر تأزما. كيف لمثقف الأزمة، والخواء الداخلي أن يتحدث عن التنوير وعن الإصلاح، وحتى عن الحداثة؟ وهل ثمة إصلاح داخل أدلجته الضيقة، وداخل أوهامه القديمة؟
أحسب أن هذه الأسئلة تصلح كمدخل للحديث عن علاقة هذا المثقف بالوجود، وبعلاقته بقيم الإصلاح والحداثة بالروح الإنسانية، وبالكيفية التي تتطلب منه حيازة وعي حرّ، وأهلية معرفية فاعلة، وقدرة على التجاوز، بما فيها تجاوز أمراض الأدلجة وضيق أفقها، لكي يكون هذا المثقف أكثر استعدادا للمكاشفة والاعتراف، والتخلّص من فوبيا التاريخ، فما جرى طوال عقود من صراعات وحروب ومحن ترك لنا «أرضا يبابا» و»أسماء جوف» فهذه الأرض تحتاج إلى «فلاحين» بالمعنى الثقافي، وليس إلى صيادي أسود، وبالاتجاه الذي يجعل فعل الحرث والحفر يخصّ الأرض والعقل، وليس الحرث في الفراغ الذي يتحرك في متاهاته مؤدلجو الذاكرة والمتحف..

تطهير الأرض وزرعها لن يتم بمحوها، ولا بطرد سكانها، بل بتأهيلهم للمستقبل، وعبر لغة مستقبلية، وليس عبر لغة الثأر والقتل والسحق، التي ستصنع لنا مجددا «أدباء طغاة» وقُطّاع طرق ومستبدين ولصوص، أكثر مما تصنع لنا ثوارا يؤمنون بأن مفهوم الثورة يعني العمل والبناء وليس الهدم، وتعليق الماضي على بوابة الحاضر كنوع الثأر، والعودة إلى روح روبسبير ومقصلته التي سقط تحت شيفراتها.
لا تختلف سلطة الأدلجة المغلقة، عن سلطة الأسلحة والدكاكين وفقهاء الثورة، وربما تكون أكثر خطورة ورعبا من سلطة التاريخ، فالأولى ستظل غارقة في الحمّى والفوضى، والثانية ستكون موهومة بفكرة «الدم الأزرق» وهذا ما يُعطي للحديث عن تحرير «الأدلجة» زخما عملياتيا، ونقديا، وعلى نحوٍ يجعلها أكثر وعيا بمواجهة «تاريخية» الدم الأزرق الذي تحوّل في العالم الحديث إلى «دم بارد» أو «دم مقدس» كما في المملكات الكبرى، التي أعادت إنتاج مفاهيم الدولة والأمة والحرية والهوية والديمقراطية، وفق شروط الحداثة والتنوير، وأن حريتها تكون أكثر جدوى عبر أنسنة تلك المفاهيم، وعبر ربط استعمالاتها وتداولها بالتحرر من رهابات أيديولوجيا التطرف والكراهية وعطب المخازن القديمة..

الأيديولوجيا والمتحف

ربط بعض مؤدلجي الماضي، استرجاع العنف الأيديولوجي، باختراع الكراهية، وبتحويل التاريخ إلى متحف شمع، مسكون بالأرواح والأشباح، وأن نزوعهم إلى المراجعة سيكون رهينا بما تصنعه تلك الأشباح، من ضجيج، ومن أوهام، وحتى من ادعاءات بصلاحية الماضي للحاضر، وبقدرة «الأفندي» المثقف المأزوم في أدلجته، على أن يكون فاعلا في مشروعه الإصلاحي، وفي وعيه لشروط التنوير التنمية، وفي تغذية «المجال العام» كما يرى هابرماس بالفواعل الناجعة للحوار، والمشاركة والتواصل، وهي قضايا باتت تشكل الأساس في صياغة أيّ مشروع نهضوي وتقدمي للحداثة.
الحديث عن الحداثة، لا يعني السقوط في التجريد المفاهيمي، بل يعني في جوهره العمل على التغلّب عن التاريخ، أو إعادة قراءته، وعلى التخلص من عقدة أدلجة المعرفة وتأطيرها تحت سقوف واطئة، وتبنّي قيم التجدد بوصفها خيارات للمستقبل، فلا يمكن اختزالها في نسق مغلق، وفي تاريخ مغلق، ولا بنمط محدد من مثقفي «المتحف» والأيديولوجيا، بل بالانفتاح على فضاء اجتماعي هو نظير لـ»المجال العام» وعلى أسس تتنامى فيه تشكّلات الثقافي، عبر الاجتماعي، وعبر التواصل في إقامة علاقات فاعلة مع المؤسسات التي تصنع التعليم والمعرفة، والتي تُسهم في تطوير رأس المال الثقافي، وتشجيع النخب على تتعايش وتتفاعل داخل المجال العام وليس خارجه.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Sharif Elmusa:

    نحتاج أمثلة وكثيرا من الأمثلة!
    شكرا على النقطة الاساسية

اشترك في قائمتنا البريدية