لما كنت في الخامسة عشرة من العمر شغفت بميخائيل نعيمة شغفا حملني على قراءة كل كتبه. وقد لاحظ المفكر اللبناني ناصيف نصار أثناء لقائي معه في مدينة جبيل الخلابة مبلغ اهتمامي بتفاصيل سيرة ناسك جبل صنين، فسألني في ذلك متعجبا، فقلت له إنه الحنين لذكريات سنوات الدهشة والتكوين. كنت في ذلك العهد أذهب إلى «الكنيسة» فأستعير كتابين لميخائيل نعيمة، وما أن أفرغ منهما حتى أعود لأستعير كتابين «نعيميّين» آخرين. ولماذا كانت الكتب في الكنيسة؟! لأن ذلك هو الاسم الذي بقي الناس من جيل والدتي يطلقونه على المكتبة العمومية. إذ إن المبنى الذي يؤويها قد كان، زمن الاحتلال الفرنسي، كنيسة يؤمّها المصلون من الإيطاليين والفرنسيين والمالطيين. ومما بقي في ذاكرتي من سيرة ميخائيل نعيمة، في ثلاثية «سبعون» الصادرة عام 1959، أنه غالبا ما يكون أصغر القوم سنا سواء بين أتراب الطفولة أم أصدقاء الكهولة، وسواء أثناء سني الدراسة في الناصرة أم في الجامعة بعد ذلك في أوكرانيا. وقد كنت منتبها لقصة أصغر القوم (أو «بنيامين العائلة» كما يقول الغربيون، نسبة إلى شقيق يوسف الذي كان أصغر أبناء يعقوب) لأنها كانت تتطابق مع تجربتي الشخصية في المدرسة والجامعة وبدايات العمل المهني. وبالطبع، يحول الحال كلمح بالبصر، فإذا بآخر العنقود يصير في كثير من السياقات هو أقدم القوم!
ولست أدري إن كان باحثو الأنثروبولوجيا انكبوا على هذا الملمح الإنساني «البنيامينيّ» إن جاز التعبير، الذي لا بد أن تعتمل ملابساته وتداعياته في شخصية صاحبه لتفعل فيه فعلها التنويري. إذ إنها تبصّره بحقيقتين على الأقل: سرعة مضيّ سهم الزمن؛ ونسبية الشأن الإنساني وتبدلاته وتحولاته الدائمة. وقد كان لهذا الملمح البنياميني مكانة في سير بعض الشخصيات السياسية. وأهمهم عندي اليهودي العلماني بيار منداس-فرانس. أحرز شهادة الباكالوريا في سن الخامسة عشرة (مبكرا بعامين كاملين) وانتمى للحزب الراديكالي في السادسة عشرة، وصار في الحادية والعشرين أصغر محام، وفي الخامسة والعشرين أصغر برلمانيّ، في تاريخ فرنسا. كما كان عام 1936 عضو البرلمان الوحيد الذي صوت ضد مشاركة فرنسا في الألعاب الأولمبية التي استضافها النظام النازي في برلين.
لست أدري إن كان باحثو الأنثروبولوجيا انكبوا على هذا الملمح الإنساني «البنيامينيّ» إن جاز التعبير، الذي لا بد أن تعتمل ملابساته وتداعياته في شخصية صاحبه لتفعل فيه فعلها التنويري
وكذلك الشأن مع ميشال بارنيي. دخل السياسة في سن الرابعة عشرة، وصار في الثانية والعشرين أصغر مندوبي الأقاليم، وفي السابعة والعشرين أصغر أعضاء برلمان عام 1978. ومن المفارقات، التي ربما تكون من أعجب الموافقات، أن يصير بارنيي اليوم، في سن الثالثة والسبعين، أكبر رؤساء الحكومات في تاريخ الجمهورية الخامسة. بل إن سيناريو الخيال السياسي (على وزن الخيال العلمي) في هذا الفيلم الواقعي قد أراد لأكبر رؤساء الحكومات ألا يَخلُف أيَّ شخص آخر سوى أصغر رؤساء الحكومات في التاريخ الفرنسي! إذ لا يتجاوز عمر غابرييل عطّال الخامسة والثلاثين (فضلا عن أنه لم يبق في المنصب إلا ثمانية أشهر). ولأن بارنيي سليل المدرسة السياسية القديمة، المتميزة بخصال الكفاءة والعمل الدؤوب من جهة وحضور البديهة وروح النكتة من جهة أخرى، فقد قال أثناء مراسم التسليم في قصر ماتينيون: «إنه لرائع حقا أن يكون المرء بنيامين القوم، ولكنه لقب سرعان ما يُفقد إلى غير رجعة! لهذا فقد فقدته أنا منذ زمن بعيد». أما في مستهل خطابه الوجيز، فقد سأل عطال: هل بوسعي أن أقول بضع كلمات؟ وقد كان في ذلك غمز خفي من قناة «الولد» الذي أطنب طيلة ربع ساعة في الحديث عن نفسه وعن مظلوميته لأن ماكرون لم يتح له (بسبب مقامرة الانتخابات المبكرة) أن يبقى في المنصب إلا ساعة من نهار، كما أجاز لنفسه تقديم النصح لبارنيي بوجوب تركيز عمل حكومته على قطاع التربية والتعليم. ولهذا أضاف بارنيي: لقد أعجبني تعبيرك عن الامتنان لجميع من عملوا معك (..) كما أعجبني ما أسديته لي من… لا نقول دروسا، ولكن ربما إرشادات مما يتعلمه المرء لما يكون رئيس حكومة، ولو أن هذا لم يدم إلا ثمانية أشهر»! فيا لرشاقة التعبير المصفّى ويا لفتوّة الخبرة المعتّقة وريعان شباب القلب الذكي!
وبعد، فما أردت اليوم أن أتطرق إلا لجانب إنساني لافت من شخصية بارنيي الذي سبق أن تطرقت هنا لكتابه «الوهم الكبير» (عن ضلالات السياسات البريطانية المعاصرة) واستمتعت بمحاضرة شيقة ألقاها في لندن وقد كانت بجانبه رفيقة عمره إيزابيل.
كاتب تونسي
أنتظر يوم الجمعة بفارغ الصبر لأقرأ الروائع و التي تنشرها يا أستاذ مالك