شاعت عبارة «سبعة آلاف سنة حضارة» في السنوات الأخيرة، من مصر غالباً، في سياق التأكيد على عراقة ورسوخ الدولة المصرية. فهي، حسبما يُفهم من المقولة، دولة مركزية موحّدة، استمرت في وادي النيل منذ فجر الحضارة، ودون انقطاع، وبالتالي فإن كل المحاولات لتفتيتها أو النيل منها، بشكل مباشر أو غير مباشر، عسكرياً واقتصادياً أو حتى ثقافياً، محكومة بالفشل. والكلام موجّه لأعداء الداخل والخارج، سواء كانوا جماعات معارضة، أو دولاً معادية، وفي بعض الأحيان بلداناً عربية وافريقية، لا تتمتع بـ«العراقة» نفسها.
لا يتعلّق الأمر إذن بالدفاع عن سيادة دولة فقط، أو حتى نظامها السياسي، وإنما التأكيد على تمتعها بخصائص تاريخية وحضارية متفوّقة، ستمنحها النصر على أعدائها، الأدنى منها حضارياً؛ وأيضاً، وهو الأهم والأخطر، أن ذلك الكيان التاريخي حقيقة سابقة ومتعالية عن اجتماع البشر، من سكانه المعاصرين، وعليهم أن يطوّعوا أنفسهم لخدمة الحقيقة، وما تفرضه من معانٍ راسخة لآلاف السنوات، وإلا فسيتعرّضون لعقوبات شديدة، قد تصل إلى الإلغاء التام. يمكن اعتبار هذا نموذجاً واضحاً، وربما ساخراً، لدعاوى أخرى، من بلدان وقوى سياسية مختلفة، قد تتحدث عن خمسة آلاف، أو ثلاثة، أو ألف وأربعمئة سنة، من هوية وثقافة متصلة، وما يجب أن يشتق منها من أنظمة سياسية، وتبعات على الحقوق الأساسية للبشر.
لا داعي لأي مناقشة تاريخية، أو فكرية لمثل تلك المقولات، فالدول القائمة حالياً معروفٌ تاريخ وظروف نشأتها، بهوياتها، وتعاقب أنظمتها السياسية والقانونية، ونمط ثقافتها الجماهيرية، وكلها أحدث مما يتخيّل أنصارها المتعصبون؛ كما أن فكرة كيان حضاري مستمر، بشعب يتمتع بخصائص ثقافية أو عرقية موحّدة، ليست إلا نتيجة حكايات معاصرة، سُردت غالباً في عصر القوميات وحركات التحرر الوطني، قبلها كان المفهوم نفسه غير موجود. إلا أن اللافت الميل الدائم إلى «التأصيل» تقريباً لا توجد فكرة سياسية أو دينية دارجة لا تحاول إثبات حقها التاريخي الذي لا ينقطع، أو يتغيّر، أو يموت. وبالتأكيد فإن الصراع بين «كيانات تاريخية» ضخمة لهذه الدرجة، سيكون عنيفاً جداً، وسينتج كثيراً من العنصرية والقمع، وصولاً إلى الإبادة.
ما تشير إليه عودة تلك المقولات والدعاوى في العموم، هو أزمات شديدة في الدول القائمة، التي كلما انهارت مؤسساتها، وفشلت سياساتها أكثر، لجأت إلى «الحضارة» التي تبدو هنا أقرب لروح تاريخية منها إلى مفهوم سيسيولوجي واضح. لكن ماذا عن الجمهور الواسع، الذي يتداول هذه الدعاوى بشكل كبير؟ لماذا لا يتنبّه الفاعلون في الشأن العام، من مسيّسين ومنتجي ثقافة، إلى خطورة انتشار تلك الأفكار القومية والهوياتية، بين شعوب محبطة؟ ولماذا لا ينتقدونها جذرياً بالشكل الكافي؟ أم أنهم يرون أملاً فعلاً في التعويل على «السبعة آلاف سنة حضارة»؟
كيانات مصطنعة
يمكن تلخيص الجهود التحليلية والنقدية في العلوم الاجتماعية المعاصرة، كونها إعادة تحقيق في جذور ومعطيات كثير مما يُعتبر بديهياً أو «طبيعياً». وذلك الجهد لا يقتصر على تفحّص الروايات المؤسِّسة للدول، أو الأفكار عن الأعراق والثقافات والأديان والأدوار الجندرية، وإنما قد يطال كل مفردة، تحوي مفهوماً، ولها تاريخها الاجتماعي والسياسي شديد التعقيد، الذي أنتجه البشر ضمن أنشطتهم المتعددة. وقد يكون التنبيه إلى أن المفاهيم والروايات والأفكار والأداءات «منتجات» وليست طبائع ثابتة للأمور، أحد المعاني الأكثر أهمية لـ»التنوير» إذ يمكن للكلمات دونه أن تصبح أقرب إلى رموز سحرية، تعطّل القدرة على التفكير والتبصّر؛ وللممارسات أن تصير مجرّد قمع للبشر، وتدميراً لحياتهم، مع سلبهم إمكانية السيطرة على عالمهم بالحد الأدنى. إذا لم تكن مهمة المتداخلين بالشأن العام، أو ما يُفضّل البعض تسميته «النخب» و»المثقفين» الجدل حول كل هذا، وتتبّع الجذور والأصول بطريقة نقدية، فماذا سيكون دورهم؟
في مجال التاريخ السياسي والاجتماعي يصبح الموضوع شديد الخطورة، خاصة في منطقتنا، إذ إن عمليات التحديث، ونشوء الدول وتطورها في القرنين الماضيين، لم تكن سهلة على الإطلاق، وخلّفت كثيراً من الجراح التاريخية، التي لم تندمل إلى اليوم، وما تزال مجموعات كثيرة تحتفظ بتراث، شفوي أو مكتوب، عن عمليات الاضطهاد والتهجير والإبادة، التي تمّت على أسس عرقية أو طائفية. هذا يجعل كثيراً من روايات «السبعة آلاف سنة حضارة» أشبه بتهديد، داخل المجتمعات المحلية، أو تجاه الجيران الإقليميين، إذ يُستشف منها رغبة في الهيمنة، مدعّمة بحق تاريخي ما، يدّعي حاملوه تأصّلهم في الأرض والطبيعة، واحتكارهم لأهم القيم الثقافية والأخلاقية، الأمر الذي سيضع الآخرين في موقف دفاعي بالضرورة، لأن الموافقة على تلك الروايات سترغمهم على الخضوع، أو حتى تشطب من الأساس هويتهم وحقهم في الوجود. كل ذلك يجعل من «التنوير» عبر تفكيك الروايات، وبيان تاريخية و»اصطناع» الكيانات القائمة، سواء كانت دولاً أو هويات أو حتى مقولات ثقافية ودينية، أكثر من مجرّد ترف فكري، بل ضرورة للسلم الأهلي والإقليمي.
على خلاف ذلك، يمكن رصد ميل مقلق، لدى كثير من منتجي الثقافة، بل حتى الأكاديميين، لتأكيد «طبيعية» كثير من الأطر القائمة، وتكرار المقولات، إلى درجة ترديد ألفاظ مثل «الكرامة» و»الريادة» و»الحق» بالأسلوب الشعبوي نفسه الذي نسمعه بين المتطرفين. قد تكون دوافع هذا متعددة، لكن يمكن ردّها غالباً إلى مفهوم معيّن عن «الالتزام» وهو في حالتنا التزام قومي، فربما يعتقد هؤلاء أن شعوب المنطقة أقرب للضحيّة التامة، التي لم تنل بعد تحررها من الاستعمار، وبالتالي فإن تأكيدها لهوياتها، الدينية والقومية، نمط من المقاومة الإيجابية، التي يجب الاندراج بها، أو على الأقل عدم نقدها، فالنقد كله يجب أن يكون في اتجاه واحد، أي نحو الجلاد التام (الاستعمار، «الغرب» الإمبريالية، إلخ). هكذا تتحرّك المنطقة من مأساة إلى أخرى، ومن اقتتال أهلي إلى حرب أبادة، دون الانتباه إلى دور «السبعة آلاف سنة حضارة» الخاصة بنا، أي التكوين القومي/الديني الأحادي والعدواني، الذي يدّعي الطبيعية، في تفجير الصراعات وتحطيم المجتمعات، وذلك بالضبط لأنه مصمم لضمان هيمنة طبقة أو فئة أو إثنية أو ديانة على كل الآخرين. يمكن التساؤل هنا: هل التنبّه إلى كل هذا صعب؟
رفض التعاقد
لا صعوبة بالتأكيد في إدراك خطورة الدعوات القومية والدينية المتطرفة، إلا أن تحديدها فعلاً يتطلّب مفهوماً واضحاً عن التطرّف، لا يقزّمه إلى مجرد مظاهر عقائدية، أو إلى أنماط حياة معيّنة. ربما كان أحد أفضل التعريفات للتطرّف في أوضاعنا هو الشعور المفرط بالعدالة والأحقيّة لدى الأطراف المختلفة، الذي يجعل كثيراً من القضايا، حتى أكثرها تحررية أو ثورية، أقرب لصيغة الآلاف السبعة من الحضارة، أي بديهية وطبيعة ومستمرة، وأشبه بملحمة أو مأساة، تُغرّب عظمتها أبطالَها عن طرح الأسئلة الأكثر أهمية، عن موقعهم وأدوارهم، وعلاقتهم بالآخرين. طرح أسئلة كهذه يحتاج إلى الاعتراف بتعددية المواقع والمصالح والرؤى، وشرعية التعبير عنها، وهذا لا يستقيم بوجود روايات غير قابلة للنقد، تفترض وجود جماعة أحادية وعضوية وأصيلة، تمتلك حقها وحقيقتها الكاملة، وتقمع الخارجين عنها. ولذلك فإن مواجهة التطرف قد تكون بإيجاد آلية، تُشرك البشر المختلفين بتحديد قضاياهم المشتركة، وتحافظ على تعدديتهم في الوقت نفسه، حينها لن تبقى غالباً أمة بسبعة آلاف سنة حضارة، بل ستصبح السياسة والثقافة، والكيانات الوطنية عموماً، أكثر تعاقديةً، وأقرب تاريخاً.
ضعف اهتمام كثير من المتداخلين بالشأن العام، حتى أكثرهم تقدميّة، بتعدد الأصوات، وتعاقدية العلاقات السياسية والاجتماعية، خاصة في زمن الأزمات الكبرى، يشير إلى أنهم لم ينجحوا بعد بتجاوز الروايات القومية والهوياتية الأحادية، حتى لو أطلقوا على عناصرها مسميّات جديدة.
نهاية ترف
قد يبدو الحديث عن تعاقدية وتعددية ترفاً ضمن ظرف تعاني فيه المنطقة من وقائع شديدة الصعوبة، مثل الحروب الأهلية والانهيارات الاقتصادية وتصاعد جرائم الاحتلال، إلا أن هذه الوقائع بالذات هي ما يؤدي إلى انهيار كل الآليات التقليدية لإنتاج الحد الأدنى من التوحّد، بين الكتل السكانية في الدول المختلفة، وتجعل الحديث عن «الحضارة» و»الشعب» أمراً مثيراً لسخرية كثيرين.
ربما الأصح القول إننا لم نعد، بعد كل ما حدث، نملك ترف تجاهل انقساماتنا، والمآسي التي رافقت تكون كياناتنا وهوياتنا الوطنية، والطريقة التي حُددت بها قضايانا المشتركة. لقد اضمحّلت معظم البنى والأنظمة الأساسية، التي كانت تقوم بالحد الأدنى من الوظائف الاجتماعية، ولم يبق منها إلا الخطاب الأحادي المتطرّف، ونخب لا تملّ من تبريره، رغم فشله على كل الصعد، بدعوى أننا ضحايا، لا نُسأل عمّا نفعل. في هذا الشرط ربما كان الأجدى السعي للتفكير أكثر في إجابة سؤال: كيف وصلنا إلى هنا؟ خاصة أن ما وصلنا إليه بات بالفعل مأساة دولية، لا يكفي التأكيد على أن «العالم» مسؤول عنها. الدفاع عن حرية المعتقد والتعبير والتعددية قد يجعلنا نسمع أكثر من إجابة، من أصوات لم يعد التعويل على إسكاتها ممكناً. ربما ستفاجئنا بعض الإجابات، لكنّ هذا لن يكون سيئاً بالضرورة.
كاتب سوري
في الصميم…تماما
أتمنى الخير لمصر ولكن وباختصار ترديد مصطلحات اكل الدهر عليها وشبع وتجشاء مثل ام الدنيا وحضارة عشر تلاف سنة هي نتيجة الافتقار إلى الحاضر ومقوماته اي الإفلاس التام في كل شيء.
اوءكد لكم وسجلوا كلامي ان موريتانيا في بضع سنين ستسبق مصر في ميادين كثيرة وما رواندا عنا وعنكم ببعيد.
نزعة الردة الى الجذور الحضارية لما قبل الاسلام ترافقت مع حركة النهضة العربية التي ترافقت مع الهيمنة الاستعمارية بعد انهيار الخلافة العثمانية فالقومويون السوريون نادوا بالفينيقية وحزب البعث العراقي بالبابلية والأشورية وحزب البعث السوري بأوغاريت وأدونيس ومملكة تدمر والتي من المفارقة أصبحت سجنا كبيرا ووصمة في نظام الطغيان وليس معلما حضاريا يتسترون به فاصبح كاشفاً للعورة بدل غطاء لها والقوميون العرب بعروبة ما قبل الاسلام.وكان ذلك جزءا من المشروع الاستعنمري الجديد لاحلال القوميات محل الدين وطمس الهوية الدينية باستدعاء الوثنيات القديمة وبعث الحضارات البائدة وهذا هو مضمون ومغزى مسمى حزب البعث.وطبعا مشروع النهضة العربية فشل وكان خدعة كبيرة خدعنا بها كما يقول الكاتب المعروف الياس خوري وهو في الأصل احد اعلام هذا الفكر المعاصرين وهذا اكبر دليل على فشل المشروع القومي والردة الحضارية المتنكرة للدين الاسلامي والهوية الاسلامية.
حاليا لازلت حضارة القرنين ونصف ( أمريكا ) هي الأقوى عالميا .
ولو أنه يمكن اعتبارها استمرارا لأورپا ..
خطاب الأصالة الحضارية يتم استخدامه حاليا كوسيلة لخلق هويات اصلية متصلبة معادية لمحيطها. مصر على الاقل لديهم فعلا تاريخ حقيقي.
المصيبة الان ان اكراد الوطن العربي يستخدمون خطاب الأصالة الحضارية عبر اختلاق تاريخ حضاري وهمي يعود لآلاف السنين على امل خلق هوية صلبة. هذه الهوية يتم استخدامها لمعاداة العرب عبر تعييرهم بانهم بدو غير اصليين.
كذلك مسيحي الوطن العربي ربطوا انفسهم بخطاب حضاري معادي العرب يعود لآلاف السنين مما يسمح لهم بتصوير العرب على انهم دخلاء وغزاة.
نفس العقلية في المغرب العربي عبر خطاب الحضارية الأمازيغية ضد العرب البدو.
الذي يجمع كل هذه الخطابات الحضاروية الألفية هو انها اداة لمعاداة الثقافة العربية.