«أضغات باب» لعادل لطفي: مراسيم الذات العابرة

كرونوتوب
الباب مرة أخرى في فضاء الشعر، من موقف الطلل إلى صرير الآهات. إنه خزان ذكريات ورموز وتآويل تتداخل وتتخارج مع الكلمة في نسيج القصيدة وما تصبو إليه، وليس مجرد خشب نطرقه لِيُفْتح، أو نُعمل فيه المفتاح لِيُشرع، أو نوصده وراءنا. إن الباب عندما تتولاه ذاتٌ مغايرة، مثل ذات الشاعر، يصير له أكثر من معنى وتأويل غير ما هو في العادة أو على العتبة: إن له لسانا، ووجها، وأسرارا، وجراحا ومراسيم عبور. قد لا يتمتع الباب بمنزلة النافذة، إلا أنه ينطبع بآثار اليد، بالقيم الملموسة، اليومية والرمزية. يظل متصلا بالتفاصيل الحميمية ضمن مسرح الكرونوتوب الذي يمارسه أو يعبر عليه (لقاء، تعرف، عناق، استغراب، قهقهة، انفصال، اكتشاف، ترحيب، توجس). للعتبة بدورها صلاحيات، ليس كحدود يجب احترامها أو عبورها وحسب، بل بما هي حافز يفضي للتو إلى عالم من الاحتمالات قابل للاكتشاف والتعرف في مرمى نظر سالكيها.
يتحول الباب إلى عتبة أساسية في ديوان «أضغاث باب» (دائرة الثقافة، الشارقة 2024) للشاعر عادل لطفي، يجري التبئير عليها واستثمارها بطرائق وحيل تترجح، من نص إلى نص، بين سطح الصورة وتجاويفها، ومعها يبتعث إيقاع العناصر والأشياء في خفتها وثقلها، وهُلاميتها كذلك. من العنوان كعتبةٍ بدوره، يلفتنا هذا التركيب الإسنادي المجازي الذي يُشرع باب الاحتمالات: أضغاث باب. فالدال (أضغاث)، جمع ضِغْث، يقترن وفق قانون الاستدعاء بـ»أحلام»؛ نقول «أضغاث أحلام»، أي هي أحلام متداخلة ومضطربة يصعب تأويلها أو وضع تفسير أو حد لها، على نحو ما جاء في سورة يوسف: «قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين» (الآية 44). وهل الشعر غير الحلم ومجال الرؤيا مع ما تنطوي من تضارب في الدلالة والقصد، وفق ما تقتضيه قوانين بنيته الخاصة، كخطاب نوعي ينزاح عن المعيار ويخرق التماسك الدلالي بقدر ما يشوش الرسالة في فهم القارئ. فدال «الباب» بصيغة التنكير الذي يفيد الشمول والاتساع، واقترانه بمسندٍ ليس من جنسه، وتداعيه دلاليا، يمنح له صفة التعدد إلى حد الاضطراب الذي لا يتوقف على معنى محدد. أي بابٍ هذا الذي يعِدُ به كتابُ عادل لطفي؟
ثمة ميثاقٌ ضمني يمكن أن يفيدنا في تأويل العبارة، أو توقع ما تؤول إليه في صلب العمل الشعري، جاء في المفتتح بصيغة «تقديم». يطالعنا التلفظ الشعري بمعاني حرى تصدر عن ذات الملفوظ (اللهب، الحرقة..)، على نحوٍ يشي بأن هذه الذات تقدم نفسها للقارئ وهي في لحظة غضب وعدم رضا، كما تقرن تلفظها بالغناء كتنفيس عما يجيش في داخلها، ومن المحتمل أن يعبر ـ تاليا- عن صور التغني بالكينونة في هشاشتها وتوترها، وإلا ما معنى أن تُشبه نصوص الديوان بـ»الغرانيق» وهي متجذرةٌ في الماء، وتُشبه سطورها بـ»فحيح اللهب»؛ أي بما يُضادها ويخلق التنافر في بنيتها.

أبواب مواربة
تعزز هذه الالتقاطات من عنوان الديوان وتقديمه، الاقتناع بأنه بصدد مشروع كتابةٍ تتوتر بين الحضور والغياب، بين الذاكرة والنسيان، وبين النسبي والمطلق؛ فالكتابة سَفَرٌ، ورحلةٌ، وذهابٌ إلى الحلم وقدرٌ أنطولوجي، ومن ثمة تُقيم في «جِسْر ما بين بين»، وأن الكتابة «حمالُ أشرعةٍ». ويُتخذ الباب، في هذا المنظور، ذريعة لتجسيد هذا العبور بالنسبة إلى الكتابة، وإلى ذات الكتابة نفسها؛ أو بمعنى آخر، يتحول الباب إلى قناع تتخفى وراءه الذات لصوغ موضوعها، وتصطنع من خلال إحالاته المادية والرمزية مسافة – تدنو وتنأى- مما حولها أو يجري داخلها، في الكلام وفي الصمت:
«مسكينٌ زهرُك هذا النابتُ في الأسفلتْ.
مسكينٌ أنتْ.
لا تفتح بابا في الطين/ المنفى إلا أغلقهُ الصمْتْ»
تكشف هذه الرؤية عن شعرية الباب الموارب، أو «الباب الشريد»، على امتداد الأفق الذي تفتحه الذات وتخرقه، كما لو كانت هذه الذات عبر مراسيم العبور من باب إلى باب تومئ إلى وجودٍ لم يكتمل بعدُ، ورهانها ليس التعرف أو العثور على شيء مرغوب فيه، بل في العبور الدائم الذي يحملها على البحث والتجدد:
«كُلما أغلق الصمْتُ بابا له
بيدٍ
هب من وسط العُرْيِ
كي يفتحه».
الباب مليء بالرموز، وبالحدود التي لا يمكن التغلب عليها. يتبنى الشاعر وجهة نظر داخلية لاستغوار حالاته الذاتية، إلا أن كل حالة هي عدم يقين بالنسبة إليه، بقدر ما هي معرفة بعدم الوصول:
«فَسِرْتُ
وسرْتِ
ولكننا لم نَصِلْ».
وهكذا، في كل مرة يفتح الشاعر بابا، أو يدعه مواربا، على عالم يعيد اكتشافه، حتى بقوة اللاوعي وأحلام اليقظة، وبآثارٍ رجعيةٍ تتصل بالطفولة وذكرياتها:
«أَحِن إلى كأس شايي المعطر بالحَبَقِ، الطفْلِ مِنْ أُصُصٍ مُنْتقاةٍ بِحِرْصٍ أُمُومي،
إلى الشمس تَخْرِقُ نافذة شَقها، الشرْقُ في غُرفتي لِتَرُج حلاوةَ نَوْمي».
إنه معادل موضوعي لعبور عتبة عقله، للنزهة في الغابة، أو ملاذ الذكريات حيث تستمع إلى كل شيء، وتتذكر كل شيء، دون أن تستوعب تماما ما يحدث حولك إلا بالبحث عن باب آخر:
«قادِما من تخومِ الخيال إليك
على صهوة الشوق
والريحُ خطوي
إذا عثرتْ أعثرُ».

تغيير العالم
فالعبور مُشْرعٌ على احتمالات شتى، وشاقة، وخلاله تمتحن الذات وجودها باللغة، من نسيج علاقاتها تقاوم دُوار الأرض بدوار التجربة الجمالية، وتبتهر لنفسها صورة الصوفي «كدرويش يُدوخه جلالُ الدف»، وعلى شاكلته ينفتح الطريق أمامه كاحتمال، كبحث بلا نهاية، كاغتراب، حتى تكاد الصورة تفنى في «لا أحد». إننا أمام تجربة دُوار: دوار اللغة ودوار الوجود:
«لا طريقٌ كي أراني سائرا أو واقفا
أنا فوق جِسْرٍ بين منزلتين
أحيا ما أرى
أنا ما رأيتُ
وما رأيتُ ليَ الوجودْ».
في هذا المعنى، يبزغ عزاء الكتابة وخلاصها، لأنها ما تحياه الذات وتراه هو ما يُقر وجودها الخاص. ليس للذات، هنا، من دليل تتحجج به سوى ما يدل حضورها في الوجود بالعطش إلى الحب والموسيقى والجمال، وبالذكرى والنشيد ضد مهازل العالم الأرضي، وما يدل على حضورها في اللغة كعلامات ورموز دالة تعيد بناء العالم الذي تقيم فيه. هذه حجة الذات الغنائية طوال نصوص الديوان، وحتى القصيدة نفسها تعبر عن ذلك ميتا شعريا:
«كأن «السماء» و»خيطا» و»نهرا» و»تفاحة» كلماتٌ
ستُوقِظُ نَوْمَ السنابِلِ في حضن هذي القصيدة»
هذا ديوان آخر يعكس ما سبق أن عبرتُ عنه ودافعتُ عنه ضمن إبدال الحساسية الجديدة، التي اقترح شعراؤها خيارا مختلفا في الكتابة الشعرية، يقطع مع «المعضلات الكبرى والهواجس التاريخية والسياسية الحرى»، ويستبدل بها «الانهمام بالذات في صوتها الخافت والحميم وهي تواجه بهشاشتها وتصدعها الأشياء والعالم والمجهول». إنه يقترح علينا حساسية جديدة في النظر إلى العالم والإحساس به، وهل ثمة جدوى من الشعر في زمننا اللاشعري، سوى هذه القصيدة التي تُبقي مصراعيها مفتوحا على الأفق، فتلهمنا الشعور والإدراك والرؤية بطريقة مختلفة، نعيد من خلالها اكتشاف ذواتنا وعناصر العالم التي بالغنا في إهدارها، بما في ذلك الباب، حيث «خسرنا ـ يقول عالم الإثنولوجيا الفرنسي باسكال ديبي Pascal Dibie ـ مع اختفاء آلاف اللغات المحلية، كلماتٍ كثيرة وأصواتا كثيرة، وخسرنا بخاصةٍ المتخيل، وهي أمورٌ رافقت الحركات والتقنيات التي تمت بها انحباساتنا». باب الشعر بوسعه من خلال متخيله البديل أن يُدهشنا، أن يفتح أعيننا على ما ضاع في غفلةٍ منا.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية