أطفال سوريا يكتشفون الشمس

حجم الخط
4

طفل في الثالثة من عمره، أما اسمه فليس مهماً، لأن المساجين أرقام. وأمه في فزع، لا تدري أين تولي وجهها. لا تعلم من فتح باب الزنزانة، لكنها تعلم أنها صارت حرة، ومن شدة هول اللحظة نسيت ابنها، لكن التاريخ لن ينساه، لقد جابت صورته العالم بأكمله، وهو في حيرة من أمره. عيناه في شرود، يخفض بصره تارة، وتارة يرفعه إلى الموبايل، فهو لم يسبق له أن شاهد تلك الآلة. لكن الموبايل سوف يجعل من صورته مختصر سوريا في زمن البعث. أغلب الظن أن ذلك الطفل قد ولد في السجن، فما هو عدد الأطفال الذين ولدوا مثله في الظلمة؟ فمن ولد خلف قضبان من المحتمل أنه لم ير الشمس. لكن الأقدار أرادت له حياة أخرى، سوف يرى الشمس، ويرى عصفوراً، سوف يصاحب أمه إلى بيت وإلى سوق، سوف يرى بحراً وجبلاً، سوف يرى العالم بعدما كان عالمه بين أربعة حيطان، لكن ذكرى السجن لن تمحى من باله، فذاكرة الإنسان تصنعها الأعوام الأولى من حياته. ذلك الطفل وهو يقف على عتبة الزنزانة كان يبحث عن وجوه يعرفها، عن وجه أمه أو واحدة من المعتقلات اللواتي رافقنها في عزلتها.  لا بد أن جميع المعتقلات اللواتي رافقنها كن أماً لها. فالنسوة يزددن قرباً من بعضهن بعضا في لحظات الألم القصوى. في السجن قد يتخلى السجين عن إنسانيته، ولكن في وجود طفل سوف يجد تشبثاً بها. فالأطفال يعيدوننا إلى أصولنا، إلى فطرتنا، إلى حقنا في العيش والحلم. ولأن هذا الطفل قد عرف الظلمة، فسوف يصير أكثر تعلقاً بنور النهار. لا شك أنه لم يعرف من الألعاب عدا أصابع أمه، ولم يسمع من الأغاني سوى بكائها أو أنينها، لا صوت اخترق أذنيه عدا صرير الأبواب وغضب السجانين وتأوهات سجينات. لغته الأولى كانت لغة الخوف، لكن صار بوسعه أن يتعلم لغات أخرى، أن يرى ألواناً جديدة، أن يوسع من دائرة أحلامه.

ذلك الطفل لم يتح له أن يذهب إلى روضة، ولا أن يلعب في أرجوحة، فلا أغراض رآه من حوله عدا العصي وقضبان الحديد. لم يلامس كرة ولم يصنع طائرة من ورق، لكنه سوف يرى الآن طائرات تحلق في الجو، وسوف يسأل أمه عنها: ما هذا الشيء؟ وما اسم ذلك الشيء؟ فهو لا يعرف أسماء الأشياء، لكن الطفل يولد كي يتعلم، ومثلما تعلم المشي سوف يتعلم الإشارة إلى الأمور بأسمائها. سوف يدرك أن الحياة في الخارج، على الرغم من مساوئها، فإنها أقل وطأة من حياة في السجن، الذي ولد فيه. في السجن الأشهر في سوريا، في صيدنايا، الذي طافت شهرته أكثر من شهرة مثقفي البلاد وعلمائها. فقد كان أرضاً للعذاب، كان قرية من قرى جهنم على الأرض. هذا الطفل لا يعلم أن الآلاف من مواطنيه، ممن كانوا في سن جده أو أبيه، قد فارقوا فيه الحياة. إن مجرد ذكر اسم صيدنايا من شأنه أن يبعث رجفة في الأطراف، لا يعلم أن ذلك المكان كان نهاية المطاف للكثير من البشر، لكنه ببراءته وفي عامه الثالث نجا منه، بينما آخرون قضوا فيه ثلاثين عاماً.

قد تبدو له الحياة في الخارج مثيرة للقلق، فمن ولد في ظلمة يصعب عليه التآلف مع حياة النور، لكن لا خوف عليه وهو يرى الابتسام على الوجوه من حوله، لأن أمه لا تزال إلى جانبه، قلبها يحرس خطواته مثلما يحرس أنفاسه، وبدل أن تحكي له حكايات، فقد صار هو نفسه حكاية، حكاية عن الجرح الأعظم، في زمن لم يرأف بالأطفال، فكيف نرجو منه أن يرأف بالبالغين! بينما أكتب هذه الأسطر، لا بد أن ذلك الطفل رأى أشجاراً وسأل أمه عنها، لا بد أن يكون قد شاهد بيوتاً مثل التي حكت له عنها، فالأمهات يعدن صغارهن بأجمل الأشياء، بزرقة السماء وسمفونية المطر، لكنها لم تكن متأكدة من قولها، لم تعلم أن الزمن سوف يرحمها مثلما رحم ابنها. مع ذلك، فالحياة لن تكون سهلة، على الأقل في الأيام الأولى، سوف يصعب عليه هذا الانتقال، بعد حرم طوال سنين من ضوء النهار، لكن في عينيه لون سوريا وشساعة الأحلام التي تملأ قلوب أطفالها، بمثل هذا الطفل يمكن أن نرجو بأن يكون المقبل أقل ضرراً، أن يعود البلد إلى أهله وإلى تاريخه، بفضل أولئك الأطفال الذين حرموا من حقهم في الضحك، ثم عاد إليهم.

أتخيل ذلك الطفل عندما يكبر، ماذا سوف يحكي لأقرانه؟ عن اليوم الذي ولد فيه؟ أم عن اليوم الذي خرج فيه إلى النهار؟ فاليوم الذي خرج فيه من الزنزانة هو يوم ميلاده كذلك. يبدأ عداد العمر من اللحظة التي خرج فيها إلى الشارع، منذ اللحظة التي رأى فيها أطفالاً في سنه، رأى فيها بشراً يسيرون من غير وجل، وهو اليوم الذي لم يسمع فيه وقع خطوات العسس في السجن. ذلك هو أطول يوم في حياته. إنه واحد من أطفال آخرين لا نعرفهم، آخرون مثله ولدوا في ضيق، ولكن في صبر، يتحملن خوف الأمهات، ذلك الخوف الذي يعلو على كل اللغات. فعندما فتح باب الزنزانة، ورأى ذلك الشاب الأم وابنها، وهو يحمل موبايل في يده، لم يقل لها: أنت حرة أو عودي إلى بيتك. بل قال لها: «لا تخافي». يعلم ألا شر أكبر من الخوف الذي يجثم على صدور الأمهات. خوفهن على أنفسهن وعلى أطفالهن. «لا تخافي»، كرر قوله لها. هل يمكن أن نقنع من عاش في خوف أن يتخلى عن خوفه؟ «لا تخافي»، هكذا يمكن أن نقول لها نحن كذلك. فهي وابنها خرجا من سواد إلى نهار رحب. «لا تخافي»، لأن طفلك في الأمان وهو الذي سوف يخلصنا من كوابيس ما سبق.

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الجليل تامر:

    مقال جميل. على أمل أن تلفظ سجون عربية أخرى حرائر وأحرار ذنبهم أنهم أرادوا مكانا تحت الشمس إسوة بباقي الخلق.

  2. يقول الجزائري:

    نفس الحكايات عندما سقط هتلر صوره الحلفاء كأنه الشيطان بعينه. التاريخ يكتبه المنتصر على مزاجه.

    1. يقول السوري:

      الحمد الله الذي أسقط المجرم السفاح بشار قاتل الأطفال والشيوخ والنساء الي مزبلة التاريخ

  3. يقول ابو حديد:

    والله يجب ان يعلق ويصلب ويقطع أجزاء كل من ساهم بتعذيب المساجين السوريين امنيتي ان ارى الان المعذبين اين قوتهم وتجبرهم لا يتم العدل الا ان يذوقوا ما فعلوه بالابرياء

اشترك في قائمتنا البريدية