أطماع إسرائيل وأمريكا لا تنتهي

لا يمكن أن نُصدّق أنّ أصحاب المصالح ودعاة الهيمنة والتنافس على النفوذ، يعنيهم تغيّر المشهد السياسي أو الاقتصادي في المنطقة، على نحو ترسيخ العدالة الاجتماعية، بديلا للطغيان السياسي والفوضى والتخلف البنيوي الذي أضر بالدول والشعوب. لقد سلطوا اهتماماتهم على الربح أكثر من أي شيء آخر، وأدخلوا العالم في مرحلة من الكساد والحروب والأوبئة والأزمات المتعددة. وغيبوا السلام والأمن الدوليين، تلك حداثتهم وليبراليتهم وما يعبدون. المواطنة في عيون كثير من الناس صارت اليوم مجرد فعل من أفعال شراء السلع وبيعها بمن في ذلك المرشحون، ولم تعد فعلا من الأفعال التي تزيد رقعة الحريات والحقوق من أجل خلق ديمقراطية حقيقية.

أطماع إسرائيل القديمة والجديدة تتضح كل يوم، ولن تكون القمة الاستراتيجية لجبل الشيخ آخرها بما يؤكد أنّ أطماع إسرائيل وأمريكا في المنطقة لا تنتهي بسقوط الأنظمة أو بقائها

الولايات المتحدة، لا تزال دولة خارجة عن القانون، كما يصفها تشومسكي. يشهد عليها في ذلك حلفاؤها وزبائنها الذين يفهمون حقا أن القانون الدولي «حيلة» و»قناع» يضعه الأقوياء على وجوههم حين الحاجة.. ويحددون درجة الشفافية الملائمة لكل حالة، وذلك السلوك له من الحصانة ما يحميه لدى المجتمع الثقافي، الذي له من الحدود القليلة، التي يمكنه أن يخدم بها السلطة. والأسوأ في ذلك أنّ الروابط الإنسانية أهم ضحية من ضحايا الحداثة والنيوليبرالية. في سياق مثل هذه الحداثة، التي شاخت وانتهت مشروعا مهزوما ومهدود الأركان، بأجنحة ليبرالية منتكسة، لا يسمحون في سياقها التاريخي بأن تكون العدالة للجميع، أو أن يرتقي هذا المصطلح فوق أي حدود سياسية أو جغرافية، وفي علاقة بالمنطقة، يريدونها فقط دولا ضعيفة غير متجانسة، تستسلم دائما لإرادة الهيمنة، ولأدبيات التطويع والإخضاع، هذه أصبحت حقيقة واضحة لا جدال فيها، وكل هذا يفرض تحدّيا كبيرا على الدولة العربية في استعادة مناعتها على أسس جديدة من سلطة القانون والمواطنة العادلة، واستيعاب التنوعات المجتمعية، وتحويلها إلى مصدر قوة، بما يقلص انكشافها داخليا وخارجيا. وهذا ما نأمله لسوريا الجديدة بعيدا عن سيناريوهات أخرى، فحجم الدمار الذي لحق بالمنطقة منذ التدخل الأمريكي البريطاني في العراق، مازال يلقي تداعياته. ومسارات الفوضى والتخريب متواصلة. لقد دعموا سياسة واشنطن تجاه العراق باعتبار ذلك ايذانا بنظام عالمي جديد خططوا له. ومازالت تنكشف مخططاتهم التي تستهدف دولا إقليمية أخرى، ويرفعون شعار الديمقراطية تماما مثلما حدث إبان غزو العراق وتنصيب بول بريمر حاكما عليها.
المخاوف التي تجد صداها في الإعلام الغربي والعربي قد تكون مبررة بالنسبة لسوريا الجديدة، على اعتبار أنه من مصلحة الجميع أن تنجح سوريا. فالسوريون لا يريدون تحمل المزيد من الصراع والدمار، والمجتمع الدولي لا يستطيع أن يتحمل رؤية سوريا تتفكك. ويتعين على البلدان المهتمة الآن أن تبذل كل ما في وسعها، بما في ذلك تشجيع الانتقال السلمي الشامل، وتوفير المساعدات الإنسانية والاقتصادية الكافية، لضمان عدم تحقق أسوأ المخاوف بشأن سوريا ما بعد الأسد، «فورين أفيرز» مثلا، تعتبر أنّ الخطر الأكثر إلحاحا الذي يهدد سوريا ليس التطرف الإسلامي، بل الفوضى التي قد يطلقها انتصار المعارضة. وهناك خطر حقيقي يتمثل في خروج الوضع في سوريا ما بعد الأسد عن السيطرة، وأن تنحدر البلاد ليس فقط إلى صراع مفتوح بين الجماعات المسلحة، بل أيضا إلى أعمال انتقامية فردية لا حصر لها، وتصفية حسابات دموية. لم تكن هناك دول كثيرة ترغب في سقوط حكومة الأسد، ولم يكن هذا لأن الحكومات الأجنبية تحب الأسد أو توافق على الطريقة الوحشية التي يحكم بها سوريا، بل كانت هذه الدول تخشى من قد يحل محله، حكم المتشددين المتطرفين، وسفك الدماء الطائفي، والفوضى التي قد تبتلع ليس سوريا فحسب، بل أيضا جزءا كبيرا من الشرق الأوسط. على هذا الأساس، ينبغي للجهات الخارجية أن تثبط بقوة أي صراع فصائلي جديد، وأن تقاوم إغراء تعزيز مصالحها الخاصة، من خلال دعم مجموعة على أخرى. لأنّ تفكك سوريا سوف يكون أسوأ، بالنسبة للسوريين والمنطقة. وإذا غرقت سوريا في الفوضى، فلن يكون ذلك مجرد كارثة إنسانية، بل يعني أن قضية ديكتاتورية الأسد أصبحت مبررة. أحمد الشرع، المعروف بأبو محمد الجولاني الحاكم الجديد لسوريا، أكّد في مقابلة مع صحيفة «التايمز» البريطانية، ضرورة رفع العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على سوريا خلال حكم الأسد، مطالبا المجتمع الدولي بوقف هذه الإجراءات التي أسهمت، وفقا له، في تدهور الوضع الاقتصادي والإنساني في البلاد، ودعا الحكومات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية، إلى رفع «هيئة تحرير الشام» التي يقودها من قائمة الإرهاب، حتى تتمكن سوريا من إعادة البناء. كما طالب بإعادة النظر في قرار مجلس الأمن 2254 نظرا للتغيرات التي طرأت على المشهد السياسي. وفيما يخص الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة للسيادة السورية، اعتبر الشرع أن إسرائيل يجب أن توقف غاراتها الجوية على سوريا وتنسحب من الأراضي التي استولت عليها، بما فيها المنطقة العازلة، بعد سقوط نظام الأسد، فالمبرر الذي كانت تستخدمه إسرائيل كان مبنيا على وجود حزب الله والميليشيات الإيرانية، وهذا السبب لم يعد قائما، لذا يجب على إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها بعد انهيار النظام.
«لا نريد أي صراع سواء مع إسرائيل أو مع أي طرف آخر، سوريا لن تستخدم كمنصة للهجمات، والشعب السوري بحاجة إلى فترة راحة».. وسوريا «لن تستخدم كقاعدة للهجمات ضد إسرائيل أو أي دولة أخرى»، مؤكدا التزام دمشق باتفاقية فض الاشتباك 1974 مع تل أبيب. مثل هذا الحديث يحمل الكثير من الدلالات فيما يتعلق بمستقبل سوريا ضمن الأجندات الإقليمية، وما يتعلق بالقضية الفلسطينية أساسا، وفي علاقة أيضا بالأراضي العربية التي استولت عليها إسرائيل وطبيعة العلاقة مع هذا الكيان الغاصب والمعتدي.
لإسرائيل مصلحة مباشرة في إضعاف الوجود الإيراني في سوريا، ما سيضر بإمدادات الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله اللبناني، فضلا عن احتمالات إجبار الروس على مغادرة البلاد، لكن السؤال الأبرز الآن يدور حول بدائل النظام المتاحة. هذا السؤال مطروح في الأوساط الإسرائيلية، وأمثال يارون فريدمان يحذّر من أخطار نشوب تنظيمات مماثلة لـ»داعش» أو نشوء دولة متطرفة، ما يشكل تهديدا أكبر لإسرائيل مقارنة بالنظام السوري الذي ظل، رغم عدائيته، محافظا على الهدوء في مرتفعات الجولان لمدة 50 عاما. الإطاحة بالأسد تعني في تقدير عدد من الباحثين الإسرائيليين بداية عهد جديد من الفوضى وعدم الاستقرار، مع تصاعد القوى التي تهدد مستقبل سوريا وإسرائيل والمنطقة ككل. ولكن في كل هذا أطماع إسرائيل القديمة والجديدة تتضح كل يوم، ولن تكون القمة الاستراتيجية لجبل الشيخ آخرها ربما، خاصة مع الاستيلاء على المزيد من أرض الجولان، واقتطاع مساحات جديدة من الجغرافيا العربية وضمّها. بما يؤكد أنّ أطماع إسرائيل وأمريكا في المنطقة لا تنتهي بسقوط الأنظمة أو بقائها..
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Ahmed:

    مقال ممتاز. شكرا للكاتب
    فعلا اطماع أمريكا والكيان لا تنتهي

  2. يقول Ahmed:

    الكاتب أتى في نهاية المقال على زبدة الحقب خلاصة رائعة

    1. يقول العبيدي:

      كل الشكر أستاذ دام حضورك. نعتز بأمثالك من قراء القدس العربي

اشترك في قائمتنا البريدية