أعداء السلام هم أعداء «إفشاء السلام»

حجم الخط
2

داهمت قوات كبيرة من عناصر الشرطة الإسرائيلية وقوات خاصة و»حرس الحدود» ومختلف الأجهزة الأمنية في وقت مبكر من صباح الثلاثاء الماضي، عدة مواقع في مدينة أم الفحم، وبلدات عربية أخرى، وبضمنها مكاتب «لجنة إفشاء السلام» وأجرت فيها وفي عدد من بيوت ناشطي اللجنة تفتيشات واسعة، واعتقلت عددا من أعضاء اللجان، برز من بينها اعتقال رئيسها الشيخ رائد صلاح لعدة ساعات ثم الإفراج عنه.
جاءت حملة المداهمات غير المسبوقة بعد أن وقّع وزير الجيش الإسرائيلي يسرائيل كاتس، أمرا تحظر بموجبه أنشطة «لجان إفشاء السلام»، بذريعة أن اللجنة تابعة «للحركة الإسلامية الشمالية» المحظورة بمقتضى أمر حكومي إسرائيلي كان قد صدر بحقها في عام 2015.
أصدرت عدة جهات حزبية ومؤسسات شعبية عربية، بيانات شجب واستنكار ضد حملة المداهمة والاعتقالات؛ وعقدت «لجنة المتابعة العليا لقضايا الجماهير العربية» مؤتمرا صحافيا في مقرها الرئيسي في مدينة الناصرة يوم الأربعاء الفائت، أكد فيه رئيسها محمد بركة، «أن هدف حظر أنشطة لجان إفشاء السلام القطرية هو تضييق الخناق على العمل الأهلي والسياسي في المجتمع العربي»، ووصف قرار السلطات الإسرائيلية «بالملاحقة السياسية»، وبأن الادعاءات الموجهة ضد اللجنة «فارغة ولا تستند إلى أي أساس قانوني حقيقي». لن يختلف اثنان على أن تحرك الشرطة والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية ضد لجان إفشاء السلام يأتي ضمن تنفيذ سياسة الحكومة الحالية، التي لا تخفي نواياها الحقيقية، بل تؤكد يوميا أنها عازمة على «تضييق الخناق» وعلى ملاحقة جميع المؤسسات والجمعيات الناشطة بين المواطنين العرب. وقامت الحكومات في السنوات الأخيرة بوضع الرؤى والمخططات العملية لتنفيذ سياستها المعلنة، حتى جاءت حكومة نتنياهو الحالية فباشرت بسن مجموعة من القوانين والأنظمة الإدارية الكفيلة بتحجيم عمل معظم الأحزاب والمؤسسات السياسية والاجتماعية، وترهيب الناشطين فيها، ووضعهم تحت طائلة القوانين الجديدة والمخالفات السياسية «والجنائية» التي ابتكرتها نصوص تلك القوانين.

قد لا نهتدي إلى شواطئ النجاة في حالتي تيهنا وعجزنا الحاضرتين؛ ولكن لا يضيرنا لو تتبعنا ما يقوله عنا أعداؤنا ويعدّونه لنا في السر والعلن، لنعرف كيف نرد عليهم وكيف نبني قلاعنا

لن يكون من الصعب على السلطات الإسرائيلية استلال حججها لتسويغ مخططاتها القمعية، خاصة في الحالة الإسرائيلية الراهنة، وبعد تفشي نزعات الفاشية على المستويين الشعبي والرسمي، واستعداء المواطن العربي الفلسطيني لمجرد كونه عربيا، والمسلم لربطه عقائديا بالتنظيمات الإسلامية المعادية للدولة اليهودية، وفي طليعتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس). في هذا السياق وعلى الرغم من كون لجنة إفشاء السلام هي إحدى اللجان المنبثقة عن «لجنة المتابعة العليا» يأتي القرار الإسرائيلي؛ وفي هذا تكمن خطورته واحتمالات تداعياته في المستقبل، تماما كما حذّر منه بحق، محمد بركه حين قال: «نحن أمام حملة متدحرجة من قبل المؤسسة، لذلك نطالب أن نتوحد كي نتصدى لهذه الحملة». لقد سبقت قرار الحظر الأخير مؤشرات منذرة لافتة لها علاقة بلجان إفشاء السلام وبرئيسها الشيخ رائد صلاح وبنشاطات الجمعيات والمؤسسات العربية داخل إسرائيل؛ لكنها رغم خطورتها، لم تحظ باهتمام جدير من قبل المعنيين بالأمر، ولا برد القيادات المناسب عليها؛ ففي دراسة مطوّلة أعدّها باحثان في «معهد مسجاف للأمن القومي وللاستراتيجية الصهيونية»، حول مسألة تفشي الجريمة داخل المجتمع العربي، نشرت بتاريخ 12/11/2024، وردت فقرة خطيرة نوّه فيها الكاتبان كوبي ميخائيل وجابي سيبوني، إلى نشوء ظاهرة جديدة تتمثل «بتسلل الحركة الإسلامية الشمالية التابعة للشيخ رائد صلاح لصفوف منظمات الجريمة. فبعد إخراج الحركة عن القانون نجحت في إنشاء «جمعيات وهمية» ومن خلالها بدأت تنشط داخل المجتمع العربي.
رائد صلاح، على سبيل المثال، تحوّل إلى «الحكم الأعلى» داخل المجتمع العربي وأخذ يزيد من قوته، على الرغم من إدانته السابقة». هكذا جاء في الوثيقة الصادرة عن أحد معاهد الأبحاث الأمنية المهمة التي تُعرض دراساتها على الهيئات الرسمية وأمام صنّاع السياسات والقرار، خاصة في ما يخص المسائل الاستراتيجية البارزة. لقد كان واضحا أن زج اسم الشيخ رائد صلاح والتعرض لنشاطه الشعبي والأهلي، يستهدف التحريض عليه والمس بشرعية مكانته القيادية، وشرعية المؤسسات التي ينشط فيها، وبضمنها لجنة إفشاء السلام، ويستهدف كذلك ردع الناشطين في هذه اللجان وعموم المواطنين العرب، كما يتضح من الطريقة الترهيبية التي نفذت فيها الشرطة مداهمتها للبيوت، التي استعرض صلاح بعض حيثياتها وكيف تم «تفتيش بيته بمشاركة كلاب بوليسية ومصادرة أموال قليلة لمصروف البيت من محفظته وسيارتين متواضعتين لابنائه».
إننا نواجه مرحلة جديدة من سياسة القمع السلطوية؛ وقد تكون حملة مداهمات يوم الثلاثاء علامة على بدايتها لا ذروتها. فبعد هجمة حماس في السابع من أكتوبر تعززت داخل المؤسسة الإسرائيلية فرضية مفادها، أن داخل «الشارع العربي» تنامت مشاعر التضامن مع مخططات حركة حماس وبرنامجها في القضاء على إسرائيل، وهذا ما قد يدفع فئات واسعة من المواطنين العرب، خاصة بين الشباب، إلى الشروع بتنفيذ أعمال «إرهابية». لقد تطرقت ورقة «معهد ميسجاف» إلى هذه الاحتمالية، حين جزم معدّاها بأن «انتشار الجريمة المنظمة داخل المجتمع العربي يعد خطرا على الأمن القومي الإسرائيلي، لبعدين أساسيين. الأول، لأنه يعزز حالة فقدان المجتمع العربي لثقته في مؤسسات الدولة، وهذا بدوره قد يفضي إلى ازدياد دوافع فك العلاقة مع الدولة وتنامي مشاعر الاغتراب نحوها؛ والثاني يتعلق بترابط العلاقات وتناميها بين المنظمات الإجرامية، وعناصر متدينة وقومية متطرفة وقد تترجم هذه العلاقات، عن طريق تحوّل القتل على خلفيات جنائية، إلى عمليات إرهابية». كما جاء في الورقة على أن هذه الاحتمالات قد تضاعفت بعد أحداث ومواجهات شهر مايو عام 2021 ، وبصورة أكبر بعد السابع من اكتوبر 2023.

كلام خطير فلماذا لم يرد عليه؟
ما قاله المتحدثون في المؤتمر الصحافي الذي دعت اليه لجنة المتابعة العليا هو صحيح ودقيق «فلو جاءت هذه القوات إلى محاربة الجريمة لانتهت الجريمة، ولكنهم لا يريدون»، هكذا صرح محمد بركه، وأضاف: «نحن نتهم المؤسسة بتفشي الجريمة في المجتمع العربي، وكل ما ادّعته الشرطة والمخابرات بحق لجنة إفشاء السلام مردود عليهم، فهذا قرار عدواني ضد الجماهير العربية وضد محاولات إحباطها لانتشار ظاهرة الجريمة بينها». هذه الأقوال صحيحة، لكنها لن تخرجنا من أزمتنا ولن تفكك عقد معضلتنا؛ فكيف يمكن مواجهة هذا العدوان في ظل المعطيات الرائجة داخل المجتمع اليهودي ومؤسسات الدولة؟
لقد أعلنت سكرتارية لجنة المتابعة موقفها «بضرورة الاعتراض قانونيا وقضائيا على هذا القرار وتنظيم نشاط شعبي في مدينة أم الفحم سيعلن عنه قريبا، وكذلك توجيه مذكرة دولية حول مجمل قضايا كم الأفواه والملاحقات السياسية». أتمنى وكثيرون معي أن تؤدي جميع تلك الخطوات إلى صد عدوان الدولة على الجماهير العربية؛ لكنني، وحدسي يقيني، أخشى من أن الجماهير التي يخاطبها البيان تغط في حالة سبات عميق، بعد أن عزفت عن عالم السياسة وعافت «أهازيج» السياسيين. ويقيني أيضا بأن الوحدة التي يأمل رئيس المتابعة محمد بركه تحقيقها ويؤمن بضرورتها، هي مجرد تميمة لن تجد صدورا تحميها ولا أعناقا تحملها. ويبقى التوجه للقضاء الإسرائيلي خيارا ومخرجا؛ بيد أننا نعرف أنها ستكون قفزة أخرى لنا في الهواء، فالمحكمة العليا الإسرائيلية فقدت شرعيتها وسقطت أمام من أطلقوا قوات الشرطة لتهجم على مدينة أم الفحم وأخواتها. أما بخصوص المذكرة الدولية فلا ضير من إعدادها وتطييرها نحو ذاك العدم! فهي على الأغلب لن تجد من يلتقطها في عالم لم تحركه دماء عشرات آلاف الضحايا في غزة والضفة ولا تدمير مدن كاملة على رؤوس أهلها وأشلاء من سقطوا تحتها. فما العمل؟ لا أملك الإجابة في هذه العجالة، لكني أقول: قد لا نهتدي إلى شواطئ النجاة في حالتي تيهنا وعجزنا الحاضرتين؛ ولكن لا يضيرنا لو تتبعنا ما يقوله عنا أعداؤنا ويعدّونه لنا في السر والعلن، لنعرف كيف نرد عليهم وكيف نبني قلاعنا ومن أين نبدأ وكيف نسير قبل أن يجهزوا علينا.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فصل الخطاب:

    السلام على الجميع مسلمين : ونصارى ويهود ✌️🇵🇸😎☝️

  2. يقول محمد الحسنات:

    شكرا للمحامي المخضرم والقدير، والعارف من عرب الداخل بشعاب مكة، بكر ودهاء
    عدو يتلاعب بالجميع بعد أن كشف نواياه في حرب الإبادة الجماعية والمجازر اليومية لقطاع غزة والضفة الغربية بفلسطين المحتلة، وها هو ينقل إرهابه وملاحقاتة للجماهير عرب الداخل مثل،، جمعية إفشاء السلام،، والشيخ رائد صلاح شاهداً ودليلاً عليها بسلميته وعلانية نشاطاتها
    ضمن القانون .

اشترك في قائمتنا البريدية