تتنوع أساليب اشتغال الفنانين التشكيليين، انسجاما مع صِيَغ مراودتهم لفراغات اللوحة. فإذا كانت فئة منهم وضمن رؤيتها الأكاديمية المنضبطة لمفهوم التشكيل، تستهل عملها بوضع تخطيطات أولية على الورق لتكون دليلها في ارتياد فضاءات اللوحة، فإن الفئة الأخرى، وضمن رؤيتها المغايرة للعمل الفني، تميل إلى الاحتكام إلى قانون الصدفة والتلقائية، حيث تستقل اليد بمراودتها للأشكال والألوان، بعيدا عن أي تصور قبْلِيٍّ لِما ينبغي تشكيله وتظهيره تحت ضوء الرؤية، باعتبارها تكون مأخوذة بهاجس الرغبة، في استكشاف مجهول ما. والشيء ذاته يصدق على اختيار الفنان لإطار اللوحة، الذي تؤَثِّر هندسته في توجيه حركية اليد، وفي إبداع ما تقتضيه خصوصيته من تشكيلات ملائمة.
في سياق هذه الاختياراتِ، يمكن النظر إلى تجربة الفنانة المغربية خديجة الفحلي، في مراوحتها بين جمالية التخطيط القبْلي لِما ينبغي تظهيره، وجمالية اقتفاء متعة الفرشاة، في شطحها الحُرِّ لِما تجترحه من عوالم، وما تصطفيه من أشكال هندسية تتوزع بين البناء العمودي والأفقي، فضلا عن الدائرة المتميزة بإشراقتها الخاصة بين أجرام إبداعاتها. بمعنى أننا سنكون بصدد متعة التوليف بين الرؤية التشكيلية لِمعلوم سبقت رؤيته والتفكير فيه، انطلاقا من وضْع خطاطات أوَّلِيَّة له، بُغْية تنزيله من أفق التصور إلى واقع التحيين، ورؤية مغايرة، قوامها البحث عن ذلك المجهول المنتظر انبجاسه من اللوحة، عبر تنشيط طقوسية الشطح، الممارس من قِبَل الفرشاة. متعة تقترن بهاجس تنويع البحث الجمالي عن ذلك المحتملِ، الذي تتطلع ذائقة الفنانة خديجة الفحلي، لأن يكون منتميا بالقوة وبالفعل، إلى قِبْلَةِ انتظاراتها. إذ مِن هذا المنطلق، سيكون في إمكان العين أن تستأنس على سبيل المثال لا الحصر، بإحدى الثيمات المركزية المهيمنة على تجربتها. أي ثيمَةِ جمهرة النساء اللاتي سبق لعين الفنانة أن شاهدتهن، وهن مستسلمات لمباهج اليومي وأتراحه. ولربما كُنَّ قد زُرْنَها في أحلام يقظاتها أو نومها، كي يتقاسمن معها معاناتهن في أزمنة ذكورية تضيق معها هوامش البوح. أيضا قد تكون تلقَّت أخبارهن في لحظة ما، مِن طقس إنصاتها أو قراءتها لحَكٌي شفوي أو مكتوب. نساء وفَدْن على فضاءات اللوحات من كل حدب وصوب، ومن كل فج عميق من فجاج الذاكرةِ. نساءٌ تعودت عدسة العين على التقاط أطيافهن، خلال تتالي تشكيلاتهن على مرايا واقع حربائي، أو متخيل لا أثر فيه للمستحيل. وها هن قُبالتك، بعد أن تفرغت لوحات الفنانة لاستضافتهن بكل ما في جمالية روحها من سخاء وأريحية، هنا والآن، ولربما إلى الأبد.
وكما في الكتابة الهيروغليفية، حيث يأخذ الحرف شكلا أيقونيا، يحيل على قصد الدلالة، فإن قوام النساء لدى الفنانة خديجة، يأخذ هو أيضا شكل حروف متتالية ومتراصة، تملأ فضاءات اللوحات، التي أمست شبيهة بصفحات تشكيلية، تَنْكتِبُ عليها سردية الأجساد، ما يُبَرِّرُ استغناءهن عن الحد الأدنى من شروط المقام، بما هو مكان يستدعي تِبْيانه تنشيطَ إوالياتٍ تعيينية، كفيلة بتحديد طبيعته المعمارية والوظيفية. ذلك أنهن يكتفين بحضورهن بوصفهن حروفا، تحيل تشكيليا على مقام / مكان ما، دون أن تكون مدعُوَّة بالضرورة إلى استحضاره في ذاته، كي تتأمل العينُ صيغة وجودها فيه. فالمكان في أعمال الفنانة خديجة الفهلي، يحرص بدوره على الاحتفاظ باستقلاليته داخل اللوحات، مُنَزَّها عن ممارسة أيٍّ من وظائف الاستضافة أو الاستقبال. إذ يكفيه أن يكون هنا، سعيدا ببعثرة هندسته التراثية بين التفاصيل، وفرحا بتسلُّلِه الباهت إلى الذوات الأنثوية، المتقمصة لأجسادٍ شبيهة بالحروف، كي يُشْعِرك بواقع انتمائه لمحفلهن.
هكذا بالكاد، يومئ لك المكان كي تراه، فيما النساء يتناسلن بين ثَنِيَّات اللوحة استجابة لمشيئة الفرشاة وأيضا، استجابة لنداءات ذاكرة، مكتظة بسيل هادر من أشكالهن التي لا يستقر تناسخها على قانون تعبيري، ثابت ومعلوم.
ثم هكذا إذن تتجلى الملامح والصفات. فهن نساء أو بقايا نساء. مكتملات أو في طور التكوين. نساء بكل الأوضاع الممكنة والمحتملة التي يمكن أن تساور أجسادهن. متبرجات أحيانا حين يشاء اللون، وآناً مدثرات ببقايا أسمالِهِنَّ التي تعمَّدت الفرشاة رتْقَ ما يطالُ نسيجها من فَتْق. نساء غادرن للتَّو مَخْمَل اللوحات الاستشراقية، أو هُنَّ في طريقهن إليها. أميرات هن ربما، مسبيات، محظيات، ومستجلبات من أسواق الإماء، أو هكذا يخيل لي. نساء متأهبات لِمَا لا عِلْم لهن به، أو هُن سادراتٌ تماما في قزحية أهوائهن. نساء غادرن للتو أبُخرة الحَمَّام، غايات أظن من موسم ما، أو هُنَّ الآن رائحات إليه. مَسٌّ جارف يتخبط ألوانهن، من الغبطة، المحنة، من الصمت، أو من فائض اللغو. هكذا، أتوهم أن استحضار الفنانة لمجموع هذه النماذج النسائية، التي تستقل كل منها بهويتها وجماليتها التشكيلية، يستند أساسا إلى رغبتها في استدعائك، كي تفتح العين على انسجامهن داخل ما يفرقهن من شَرْط الاختلاف. وأيضا، كي تتقاسم معها رمزية تجسيدهن الفعلي، لتاريخ طويل من الأسئلة الشائكة التي لا تطمئن إلى جواب شافٍ ومقْنع، ما دام قدر الأنثى هنا أن تعيش مستسلمة لضراوة تلك الحرب الأبدية، التي تخوضها مع صفاتها وأحوالها.
لكن ومع ذلك، يحدث أحيانا، أن تضيق الفنانة خديجة بمحفل نسائها الغاص بحقائقه وأسراره، والغاص بأصداء زغاريده ومواويله المتعالية والمكتومة في آن. تضيق مؤقتا بكل هذا وذاك، فلا تتردد في استبعاد المحفل تماما من فضاءات لوحاتها، كي تستبدله بحالة من الصمت البصري والإيقاعي، الذي سيكون عليك أن تستنطقه عَلَّهُ يبوح. هي تقنية قوامها العودة بهاجس انبناء الشكل إلى اللحظة الصفر من زمنه. أي مرحلة ما قبل تشكل الأجساد والأمكنة، حيث لم تُعلن العناصر بعد عن كينونتها، وحيث وحدها الذرات المِجْهرية تمارس انتشارها المتلاحم والمتداخل على أديم اللوحات، مبشِّرة أو مُنذرة باحتمال ظهورٍ ما. قد يكون الظهور ذاته الذي سبق لنا أن عايَنَّا مشاهده في المراحل التجسيمية، كما قد يكون الظهور المفاجئ واللا متوقع، الذي لم يسبق لضوء الرؤية أن احتفى بتَجَلِّيه. ولعل السر في استدعاء هذه الذرات المجهرية، يشي باحتمال انبثاق ما لم يتم التفكير فيه بعد، ولِما لم تتحقق من قبلُ رؤيته. وهذا الاختيار الجمالي الذي يتوزع على فضاءات اللوحات ذات الهندسة المستطيلة والمربعة، سيجد في الدائرة ضالته العظمى، بوصفها شكلا مهيبا وبسيطا في آن، من حيث وضوحه والتباسه، والشبيه بتلك العجلة الأسطورية، التي تعتمدها الظواهر في اجتراحاتها لمساراتها وارتحالاتها المعلنة والخفية. فالدائرة هي بامتياز رمز المتعالية، المحيل على مقولة اللامتناهي، كما هي سيدة ذلك المركز السٍّرِّيِّ الذي تتمثل الأبعاد لسلطته الفيزيائية والدلالية، والذي منه وإليه تؤول كينونة كل حركة وفعل. وهو ما يغري السؤال التشكيلي عموما، باقتحام أسرارها، التي طالما كانت موضوع مقاربات متعددة الاختصاصات والمرجعيات، منذ فجر الأبدية إلى الآن، حيث يقف الكائن مندهشا أمام فتنة الدائرة النهارية المسماة بالشمس، وسحرية الدائرة الليلية المسماة بالقمر. والشيء ذاته يصدق على تجربة الفنانة خديجة الفحلي، حينما استدرجتها جمالية البحث إلى متاهة الدائرة، قصد استشراف لا مُفَكَّرِها العالق بِبَرْق السؤال، حيث يتمحور بحثها الذي خصَّت به مقام الدائرة، حول التجليات المضمرة، التي يمكن أن يكتسيها اللون الواحد خلال تدرجاته الدلالية، داخل تخومها المحفوفة بدينامية ذلك المحيط الغامض.
هنا تحديدا تأخذ الدائرة شكل رحم لامتناهٍ، مفرط في خصوبته، وجاهز لإغراق فراغاتها بكل ما فاض عن ذاكرة الأشكال والأجسام من نَثِيثِ اللون. وهي اللحظة التي سيكون فيها على العين، أن تبادر إلى تأويل مَشْهَدِيَّةِ القماش، وقد أمسى متلألِئاً بأنوار تلك الزخات البِينُولُوبِّيٍّة، التي وحدها أنامل الأنثى، قادرة على فَكِّ أسرارها وطلاسمها.
ثم، ما الذي يحول دون التكهن بأن ما اعتبرنا محفلا نسائيا، ليس في حقيقة الأمر سوى أطياف الفنانة خديجة، وهي تنتشي باستحضار ما كان وما سيكون، من أزمنتها المتعددة، والمتوزعة على مدارات الأشكال والألوان؟
كاتب مغربي