إذا عدنا إلى أنواع الرحلات اليوم، سنلاحظ أنها ما زالت كما كانت، وكما هي موثقة في الدراسات والأبحاث التي تناولت هذا الجنس الأدبي، مرتبطة بأسبابها. رحلات استكشاف وسياحة، الحج، العلم، التجارة أو السياسة …
ولكن ماذا عن المتلقي؟ عن ماذا يبحث قارئ الرحلة الْيَوْم، بعدما أصبح العالم قرية صغيرة، يسهل معها الوصول إلى أي مكان في الكون، وخارج الكون ربما، واقعيا او افتراضيا؟ الأكيد أن هذه الوضعية رفعت سقف التلقي في ما يتعلق بأدبية الرحلة. عندما قرأت خبر صدور «أغاني الرمل والمانجو» اجتاحتني رغبة قوية للاطلاع على هذه الرحلة. صحيح أنني منذ دخولي عوالم زهير كريم السردية، وأنا مشدودة إلى كتاباته أتابعها بشغف، ولكن دافعا آخر كان وراء هذه الرغبة القوية، ويتمثل في العنوان الفرعي:
« نواگشوط – باماكو»… لماذا؟
صحيح أنني لم أزر موريتانيا إلا مرة واحدة، ولم أتجاوزها إلى أنحاء أخرى من تراب البيظان، أو الصحراء الكبرى، ولكنني بالتأكيد لا أبحث عن وصف للأمكنة ولا معلومات عن السكان أو عاداتهم وثقافتهم.. اهتمامي حسبما أعيه، نابع من دافعين، أحدهما مرتبط بالكاتب، كما سبقت الإشارة، والثاني حب استطلاع، أو رغبة في معرفة كيف ينظر الآخر، بحمولته المعرفية والحضارية، القادم من أقصى المشرق، إلى هذه البقعة من أقصى المغرب، لا كمكان فقط ولكن كروح وثقافة، إلى أي مدى استطاع أن يغوص في أعماق تلك الوهاد ويكتشف عمقها ويتلمس روحها؟ وهل يمكن أن أكتشف معه، وجها آخر لفضاء تربطني به علاقة روحية وثقافية واجتماعية.
صدَّر الكاتب رحلته، بمجموعة من المفاتيح للدخول معه إلى عوالم المكان، وأغلبها مقتطفات من رحلات إلى المنطقة. ويفسر عبد الرحيم مؤدن، هذا الأمر بكون الشخصية المركزية في الرحلة، تعود إلى مرجعيتها الواقعية والنصية، من خلال من سبقها من الرحالة، وكأنه حسب تعبيره: «اكتساب شرعية الانتساب إلى سلطة مرجعية ثقافية». ويختتم الكاتب مفاتيحه بمقطع شعري من «التبراع» شعر النساء الحسانيات:
لقلْب إحموم َ…. والجسم أخبر، فيه أنتومَ
(القلب جمرة مطفأة والجسد أنتم أدرى به)
هذه «التبريعة» المفعمة بالحنين والأسى، حمالة دلالات قد لا نتبينها، وقد نتعثر بها ونحن على أبواب هذه الرحلة. يقول الكاتب في (تقديم لابد منه): «لماذا كرهتُ نواكشوط وقت إقامتي فيها، ولماذا أُحِبُها الآن، وأشتاقُ لكل شيءٍ فيها بعد سنواتٍ طويلةٍ من مغادرتها للأبد كما أظن؟ لماذا أتوقُ لتلك التفاصيل الصغيرة». ما بين الكراهية والحب مسافة رحلة لا تبدو طويلة على الورق، ولكنها عميقة حفرت في صاحبها كما حفرت في مسار الرحلة وفضاءاتها. مفارقة ستطبع هذه الرحلة، وتسم مسارها وأحداثها وتثري عوالمها ولغتها، وتشحنها بروح قلقة تتقلب بين الدهشة والخوف والأمل.
الرحالة ونواكشوط
لماذا كره الرحالة نواكشوط وهو فيها؟ لماذا فشل هذا اللقاء تماما كما رمزت له تلك اللحظات التي كادت أن تكون حميمية مع عاملة الفندق «آوي»؟. صحيح أن «الرحالة» ومنذ نزوله مطار نواكشوط، واجهته مظاهر سلبية كثيرة تحدث عنها وفصّل فيها، ولكن لا أظن أن ذلك هو السبب الأساسي. فشل العلاقة بالمكان قد لا يرتبط به بالضرورة، بل بظروفها وسياقها. يقول: «إقامتنا في هذه المدينة سوف تكون لأربعة أيام فقط… سوفَ نقضيها في فندقٍ رخيصٍ، نعم يجب الحفاظِ على المال المخصص لرحلتنا المقبلة». لم تكن نواكشوط وجهة ولا استراحة طويلة، بل مجرد معبر إلى الحلم أو النهاية السعيدة. ولكن الظروف أحرقت قوارب العبور، وقلبت الأربعة أيام، إلى سبعمئة وعشرين يوما، إلى سنتين قاسيتين عرف فيهما التشرد والقسوة والخذلان. أول ما أثار المؤلف في لقائه المباشر مع موريتانيا، هو مظاهر قلة التنظيم والانضباط. يقول: «وكانت السمة الواضحة للمشهد كله هي العشوائية، بشرٌ يدخلون ويخرجون من دون أن تردعهم نظرةُ شرطي، أو يزجرهم صوت اعتراض، لقد كان بعض المستقبلين عند سلم الطائرة أصلاً، وهذا حسب معلوماتي، يجب أن لا يحدثَ إطلاقاً، حتى الطابور الطويل الذي أمامَ مكتبِ الجوازات، كان مضطرباَ بدون نظام». وقد خصص الكاتب جزءا مهما لرصد مجموعة من الصور التي تظهر انطباعه السلبي عن الحياة في نواكشوط. ولكن وفي المقابل، لم تمنع الظروف البائسة التي واجهت الرحالة، من استيعاب خصوصيات وعمق هذا المجتمع «البيظاني»، وواضح إنها سر ذلك الحب والشوق الذي شعر به وهو يكتب رحلته ويستعيد أيامه هناك. أول دلائل المودة والرغبة في نسج علاقة معرفة وتواصل مع هذا المجتمع، بدأت مع المرأة «ولكن المبهج هو ظهور الأنثى في هذا الوقت العصيب»، رغم أنها ظلت دائما بعيدة عن مسار هذه الرحلة بشكل مباشر. يقول، في وصف جميل وشاعري للملحفة «وهي بالفعل زي مغر ومثير، دائمُ الاتصالِ بالجسدِ والروح»، ويقول عن شعب هذه البلاد التي تكسّر فيها حلم عبوره «وفي الحقيقة إن الموريتانيين، شعب متسامح. عشنا هذه الفكرة بشكل يومي، لا أثر لمظاهر العنف في الشارع».
اعتبر هذه الوقفة، «الصندوق الأسود» الذي بفتحه تضاء كل العتمات المحيطة بهذا النص الممتع المظلم المدهش والمؤلم. هنا تتوارى الرحلة وتبرز السيرة، ولكن كشكل من أشكال التخفيف وربما التطهير، أليس هناك من يعتبر عادة الاعتراف المسيحية مرجعا للأوتوبيوغرافيا؟
ورغم خيبة الأمل لم يكن السارد، يتردد في الإقبال على المعرفة والبحث والسؤال. ففي ليلته الأولى نسي تعبه، وسوء وضعه، فانطلق في جولة تاريخية واجتماعية وحضارية من خلال استماعه المتأني، واهتمامه الشديد بما كان يحكيه له صاحب الفندق، علاقة ستتعمق خلال مدة إقامته وعلى مستويات عدة (الاصدقاء- القراءة -الندوات- الأماكن…).
العراق وصدام حسين
في بداية هذه الرحلة، يقول زهير كريم: «هي رحلةٌ من أجلِ الخلاصِ. إذ إن العراقيين في ذلك الزمن، كانوا يبحثون عن فسحةٍ لاستعادةِ إنسانيتهم، وكينونتهم التي هتكتها الحروبُ والديكتاتوريةُ والحصارُ». وفي أول لقاء على أرض المطار فهم الكاتب، أن العراقيين مرحب بهم في نواكشوط، أكثر من أي شعب آخر. «أن يحتفل بك ضابط الجوازات دون العالمين، هو أمرٌ يستحق أن تشعر لأجله بالراحة على الأقل، قبل أن يشير إلى أنك في أرضٍ يحبُ الناسُ فيها العراقيين». هذا الإحساس المريح لم يفارق الرحالة ومرافقيه (عراقيين أيضا)، ولكن المفارقة أن يكون هذا الحب مبعثه صدام حسين، حيث سيصبح هذا الاسم «المكروه» ورقة جوكر- خلال هذه الرحلة – تفتح الأبواب والقلوب، التي تصعب مقاومتها. ماذا يمكن أن تقول أمام عجوز طيب من قرية «تساليت» الأزوادية، حين يقرر إعطاءك علبة دخان أغلى من كنوز الأرض بعد رحلة شديدة قاسية وموجعة في الصحراء، ويرفض ان يأخذ ثمنها قائلا: «من العراق، العراق؟ أجبناه بأننا فعلا من العراق، كانت الدموع تتغرغر في عينيه وهو ينقل نظراته بين وجوهنا وصورة صدام الباهتة، التي بدت لنا منتهية الصلاحية مثل سلعه المنثورة في المحل.. أعطانا علبةً ثانية، خرج من محله لتوديعنا. شكرناه، لكنه وهو يضع يده على كتف إبراهيم قال بعاطفة كبيرة: سلمولي على صدام… أمانة سلمولي عليه».
هذه المفارقة الغريبة ستتكرر في الجزائر، حينما فشلت إحدى طرق الرحيل، بعد رحلة شاقة ومعاناة أصبح معها الوصول إلى السفارة العراقية حلما، حتى لو كان الثمن ترحيل وعودة إلى نقطة البداية.
بين الرحلة والسيرة، هل تحققت أدبية النص؟
يقول السارد في لحظة اعتراف، كمن يريد التخفف من عبء هذه الرحلة /السيرة: «بل إن شعورا بالتعب قد لازمني طوال هذه الفترة، تعب سببه اضطراري للوفاء لجزء من شريط سيرتي، ربما كنت أفكر إن الوفاء هو طريقة أخرى للتخلص من أثر هذه السيرة». ويتساءل: «لا أدري هل نجحت في توظيف الكتابة كقاتل محترف، قاتل يقشط بسكين الكلمات الطبقات التي خلفتها مصافحة الشيطان. ولكنني أخيرا سأغلق هذه العين المتدفقة.. وسوف أوقف شريط الصور التي كانت تمرّ خطفا مرورا يترك في كل مرة ندبة في القلب».
اعتبر هذه الوقفة، «الصندوق الأسود» الذي بفتحه تضاء كل العتمات المحيطة بهذا النص الممتع المظلم المدهش والمؤلم. هنا تتوارى الرحلة وتبرز السيرة، ولكن كشكل من أشكال التخفيف وربما التطهير، أليس هناك من يعتبر عادة الاعتراف المسيحية مرجعا للأوتوبيوغرافيا؟ يقول كيليطو:» أغلب الظن أن مسألة التعبير عن الذات، أخذت تتبلور مع السيرة الذاتية الحديثة، المبنية على الاختلاف. فالذي يكتب اليوم عن حياته يسعى إلى إثبات تميزه عن باقي الناس، وبالتالي إثبات وحدته». ما بين الرحلة والسيرة الذاتية، تبرز تهمة «الواقعية»، كعائق أمام أدبية النص. والحقيقة ان هذه النظرة التقليدية والنمطية للواقعية، التي تفترض، الكتابة عن حقيقة جافة وفجة، وتغيب الذات المبدعة، فيها الكثير من الإجحاف. لأن العمل الأدبي، له مصدره في النظرة التي يحملها المؤلف عن العالم، كما يرى إيزر. وهذا ما يخلق الفارق ويحقق للنص أدبيته. يقول المديني: «وبمقدار ما كانت الكتابة السردية تتوافق أو تتجاوب نسبيا مع المحددات الحقيقية لمجال التخييل، يأتي النص القصصي مكتسبا خصائص النوع. هكذا ستبلغ الواقعية تفتحها الذي عاش مختنقا في ما قبل، بسبب الفهم الساذج للواقعي. مع هذا التفتح يصبح العمل حسب تعريف زولا، قطعة من الطبيعة منظورا إليها عبر مزاج».
لم تفقد التجربة الحية، هذا النص دهشته، بل إننا في لحظات كثيرة نشعر بأن تلك الأحداث أكثر قدرة على الإدهاش من الخيال نفسه. هذا النص أتى استجابة لنداء عميق من أعماق نفس تسعى إلى مصالحة ما مع ذاتها، مع العالم، مع تاريخها الشخصي والإنساني عموما. وما الرحلة والسيرة إلا قناة سردية أبدع المؤلف في تطويعها. كثيرة هي اللحظات العصيبة والتجارب القاسية، التي مرّ منها صاحب الرحلة، وأمعن الكاتب في وصف تفاصيلها المؤلمة، بلغة انفجرت من عمق جحيم التجربة وحلّقت في سماواتها الخاصة، لتبني جسرا بين الواقع والشعر. يقول بعد وصف دقيق وبديع لتجربة العاصفة، إحدى نوبات غضب الصحراء: «ولقد كان وجودنا إلى جانب بعضنا، نوعا من العاطفة العميقة، ضرورة ما تجعلنا في مواجهة العالم في لحظاته الأخيرة، شعور ما لا يتغذى إلا على المواساة».
المرأة… الحاضر الغائب
المرأة التي افتتح السارد رحلته بشِعرها، أكبر الغائبين عن هذه الرحلة. يقول «ما كان يقلقنا أيضا هو أننا لا نملك مفاتيح الدخول إلى عالم المرأة هنا. والحقيقة أن المجتمع الموريتاني، تقليدي جدا، رغم مظاهر الحرية الممنوحة للنساء، فهن يخرجن ويقدن السيارات، يتاجرن ويسافرن، ولهن محلات في الأسواق، وكذلك يمتلكن حريات واسعة في التعامل مع شؤون حياتهن، بل إنهن يظهرن أكثر حضورا، وأكثر قوة من الرجال. نعم ولكن لم أحصل على امرأة صديقة مثلا، ربما لأن العلاقة مع المرأة تمنحك بعض السلام أو الشعور بأنك تتنفس خارج فكرة الضياع نفسها». هل كان حضور المرأة سيعطي لهذه الرحلة اتجاها آخر؟
رحلة نواكشوط باماكو، رغم أنها قصيرة وغير مكتملة إلا أنها تفتح أبواب رحلات عميقة في الذات والمكان والزمن. وكل قراءة فيها، قد تحمل شبهة اختزال أو تغييب، ولكنها استجابة لـ»رحلة/سيرة « قد تكون كما يقول كيليطو: «فالصدق ستار يخفي أشياء يحرص القارئ على اكتشافها».
٭ أكاديمية وناقدة مغربية