أفقية القصيدة العمودية… في مجموعة «نقش على جناح لاماسو»

حجم الخط
0

ينبغي أولاً أن نطرح سؤالاً مفاهيمياً مُتشعباً في جدوى الفن والأدب عموماً، والشعر خصوصاً: لماذا قصيدة العمود؟ وإلى أي حد استطاع هذا الشكلُ الكلاسيكي الصمود أمام التغيرات والتحولات السياسية والتاريخية والثقافية والاجتماعية في العصر الحديث؟ وهل المشكلة في القصيدة العمودية نفسها، أم بما تحمله؟

لنفترض أن عُمر هذا الشكل الشعري الذي كتب به الشاعرُ خالد اليساري مجموعته يعود إلى 250 عاماً قبل الإسلام، حسب الرأي الأشهر للجاحظ، وعمر الإسلام حالياً 1445 عاماً، أي: تجاوز عمرُ القصيدة العمودية 1600 عام، وقد شهدت هذه الحقبة التاريخية الطويلة جداً، تقلبات وانهيارات وتحولات على جميع الأصعدة، وتلك من أساسات الحياة: تغير دائم، لا ثبات لنظام سياسي أو أخلاقي أو ديني أو فلسفي أو فكري، بينما بقيت القصيدةُ العموديةُ قصيدةً عموديةً بالمعنى المعجمي للعمود، من حيث كتابتُها من الأعلى إلى الأدنى، يميناً فيساراً، ووفقاً لهذه التقنية، فإن هذا الشكل الشعري بالضرورة يكون انعكاساً لتفكير عمودي، وليس أفقياً.

الشعر العربي عبر تاريخه قدم أسماء مهمة لتجارب نوعية ومهمة، كتبت القصيدة العمودية بشكل أفقي، وربما من النهاية إلى البداية، أميةُ بن أبي الصلت مثالاً في ما وصل إلينا من شعره إذ كان شاعر قصيدة عمودية أفقية، وكذلك امرؤ القيس في نحو 80 في المئة من تجربته، والمعري في تجربته كلها، فضلاً عن المُجدد أبي تمام. ولعل سؤالاً يخطر على بال القارئ هنا: ما القصيدة الأفقية؟ وكيف نعرف أن مَن مِنَ الشعراء المذكورين آنفاً، كتبوا قصائدهم وفقاً لهذا المفهوم؟ هنا يلزمنا القول، إننا جميعاً لم نكن مع المذكورين من الشعراء، ولكن تجاربهم طالها التفكيكُ والاستيعابُ والمقابلةُ والمقاطعةُ والمقارنةُ مع نتاجات شعراء آخرين، وأثبتت بمرور الزمان وتوالي التجريب بوصفه أعلى سمات الأدب، إنها تجارب غير تقليدية من حيث المعمارُ الفني والفكري للنص، فضلاً عن ما وراء النص الذي كان يُمرر عبر النص نفسه رسائلَ وجودية: يسأل عما فوق السماء وتحت الأرض آنذاك، ويستغرب أيضاً:

في اللاذقية ضجــــةٌ      ما بينَ أحمد والمسيــحْ

هذا بناقوس يـــــدق     وذا بمئذنة يصيــــحْ

كل يعـزز دينَـــــهُ    يا ليت شعري ما الصحيحْ

وعبر ما مضى ثمة سؤالٌ يطرح نفسَه: يعيش معظمُ شعراءِ القصيدة العمودية في مدن حديثة نسبياً، توفر لهم الاتصالات بالعالم عبر الهواتف الجوالة والشبكة العنكبوتية، ويصل الماءُ إلى بيوتهم دون ذهاب إلى النهر، وكذلك الكهرباء، دون الحاجة إلى ضرب حجرٍ بحجر لتُضاء هذه المدن، فما جدوى القصيدة العمودية إذن، وكُتابُها في بيوتٍ تسيرُها حركةُ التكنولوجية العالمية؟

باتت لغةُ القصيدة العمودية ـ في كم كبير منها ـ واضحةً ومكررةً في نفسها: استعاراتٌ وكنايات وتشبيهات بقوالب متوارثة في الأعم الأغلب، وحديثٌ دائم وتوظيف للناي والرمال والصحراء والخيام، هذا من حيث اللغة، أما من جهة البناء، فما يزال هو البناءُ المتوارثُ نفسه: صدرٌ وعجز يُوتر بقافية، وهنا تحديداً، لا يُبرأُ الشكلُ العموديُ من تعميق المأساة العربية؛ ذلك لحتمية امتلاكه سلطةً وتأثيراً قوياً على مستوى التفكير بما في داخل هذه القصيدة العمودية أو تلك: البناء العمودي ثابتُ المعادلة متسلسل التدرج، والاجتهادُ فيه يتطلب مغامرةً فكريةً وفلسفية شخصية، إذ إن الخطأ أو التقليد في البناء العمودي يُكلف صاحبه سقوطاً من أعلى المُعاصَرة والجدوى من الشعر، إلى أدنى استعادة التراث والإساءة إليه بصورته ابنةِ زمانه ومكانه، وهو ما يكون في مأمن منه الشاعرُ الأفقي، الذي يختط لنفسه مساراً كتابياً قائماً على قطيعة واعية ومقصودة مع التراث.

تضم مجموعةُ “نقش على جناح لاماسو” الصادرة عن دار خطوط للنشر والتوزيع في عمان 2023، واحداً وعشرين نصاً، ضمنها الشاعرُ قصيدَتي نثر وواحدةً من التفعيلة، ووفقا لما تقدم يمكن القول إنها مجموعة (قصائد عمودية بنصف أفقية)، وذلك لما يلي:

أولاً: بشكل عام، تنتمي لغةُ هذه المجموعة إلى حد ما إلى مشغل جماعة قصيدة الشعر التي ظهرت في العراق إبان مرحلة تسعينيات القرن الماضي، وهي لغة عقلية صارمة على مستوى البناء والصياغة والتفكير اللغوي والشعري داخل النص، وعلى الرغم من كونها كذلك (قصيدة الشعر)، فإنها بدأت احتجاجاً جزئياً داخل منظومة القصيدة العمودية، وانتهتْ قضيةً تاريخية؛ بمعنى أنها خرجت على الملك (قصيدة العمود) من حديقة قصره، واكتفت بالدخول إلى فنائه، دون أن يدري الملكُ نفسُه ما إذا كان هناك أي احتجاج عليه.

ثانياً: ولأن المجموعة هذه عمودية بامتياز، فإن كاتبها استهلك عشرات الاستعارات والكنايات والتشبيهات الموجودة في أي قصيدة عمودية تُكتب الآن في العراق والوطن العربي، ولكن الفرق بين ما كتبه اليساري هنا وما يكتبه الآخرون في بلدان أخرى، هو أنه استخدم قسماً كبيراً منها بالمفهوم الفلسفي في أغلب النصوص، وقسماً أقل ينتمي للسائد المعروف على امتداد جغرافيا القصيدة العمودية.

ثالثاً: الجو العام للمجموعة كلاسيكي من الخارج، وحداثي نسبياً من الداخل، إذ عالجت النصوصُ موضوعاتٍ تاريخيةً وتراثيةً ودينيةً ذاتيةً ووطنية، فضلاً عن قضايا اجتماعية يومية وتجارب شخصية تندرج تحت السيرة الذاتية للشاعر، وهذه الحداثة النسبية في نصوص المجموعة لا تكشف عنها إلا قراءة دقيقة فاحصة مفتشة عن عناصر الانقلاب المفاهيمي للشعر والتراث، فضلاً عن الاقتصاد اللغوي والتكثيف التعبيري في صياغة جُملة شعرية متوترة مُستفِزة، إلى جوار تدويخ الثوابت والإطاحةِ بها، وإذا ما اختُبرت نصوصُ المجموعة بهذه الأدوات، فإنها ستُعلن إما عن صمودها، أو قبولها بمراجعة نفسها في الأقل.

رابعاً: عناوين نصوص المجموعة هذه، في جزءٍ منها عناوينُ إشكالية أعلنت عن ذلك هي بنفسها، وبطريقة صريحة جداً، أمثال: (مقاطع مقتبسة من تفسير سورة إبراهيم، سيلفي مع الجنة، شاهد عيان من محرقة أصحاب الأخدود)، ونص (سيلفي مع الجنة) يقول الشاعرُ اليساريُ عبر حوار شخصي معه إنه قصيدة نثر، لكنه في الحقيقة نثرٌ شعري خالص وليس قصيدة نثر، لأنه اكتفى بالتخلص من البنية، ولم يتوفر على أي من صفات قصيدة النثر: (كالحساسية مثلاً وتكثيف الفكرة واختبار اللغة بنفسها)، العناوين الثلاثة الآنفة الذكر تصدرت نصوصاً تفكر بالمراجعة، وتنحو منحى الاستفزاز وإثارة الأسئلة الفارقة في التاريخ والتراث.

خامساً: في هذه المجموعة مصابيح إنارة خافتة في إضاءة مساراتٍ للتجربة الصوفية في الأدب العربي الحديث، تعمد اليساري تقليل مستوى النور فيها، ليكون ظله أعلى، وهذا ما يمكن أن أصفه بـ(الإضاءة الجانبية) في غرفة التصوير الشعري التي يكون فيها الشاعرُ ذاتين: الأولى كاتبة، والثانية راصدةٌ لحركة الكاميرا على مستوى التفكير والإخراج.

سادساً: تشير هذه المجموعة إلى أن اليساري مقبلٌ على تحول شعري في  الأيام المقبلة؛ لسبب يخصه ويبدو غير معقد، هو أنه قارئٌ من طراز القراء المفككين المثيرين للأسئلة، وليس مِمن يقرأون وفقاً لما يدعم قناعاتهم في الشعر والثقافة بشكل عام، وبمعنى آخر: إنه يقرأ ويُكسر ويعيد إنتاج ما تحصل عليه بصورة جديدة وفقاً لما يُشبه عملية جمع التكسير: المحافظةُ على جوهر الفكرة، وتقديمُها بصورة مغايرة.

سابعاً: تضم هذه المجموعةُ مساراتٍ مُتعَبةً من التفكير داخل النص، وهذا ما أملتْه على الشاعر ثقافتُه وحساسيتُه الشعرية وموقفُه من التاريخ والتراث، ويمكن القول: إن اليساري استطاع التفكير داخل النص بطريقة أفقية، لا نريد معها الجزمَ أنه كتب بعضاً من نصوص مجموعته بادئاً إياها من النهاية أو الوسط، أو وفقا لحركة عقارب الساعة.

ثامناً: هذه المجموعة الشعرية نصفُ مغامرةٍ كتابية بحسب المفهوم العام للكتابة، وعملٌ ناجح وفقا لمفهوم القصيدة الكلاسيكية، لأنها اشتملت على أجواء من هنا وهناك، ومارستْ مستوىً عالياً من التفكير الشعري العقلي لا التفكير العاطفي الحماسي المفرط الذي سجل حضوراً خفيفَ ظلٍ في أجوائها، إلى جانب الابتعاد عن الاستهداف الحسي المباشر للمتلقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية