كان الفنان الراحل نور الشريف يتبع سياسة خاصة في إدارته لموهبته كممثل، فهو صاحب الخبرة والمطلع على أسرار السوق السينمائية والمزاج العام للجمهور بمُختلف شرائحه الثقافية، لذا تعوّد طوال مسيرته الفنية على أن يسير بإبداعه في خطين متوازيين، خط ينتقي فيه أدوارة المهمة التي يُخاطب من خلالها طبقة المُثقفين ويطرح عبرها جُل القضايا الاجتماعية والسياسية. وخط آخر يحرص على مده بمنهج محسوب وهو الذي يُضمن فيه أفلاماً وأدواراً أخرى تعتني بذوق الطبقة الشعبية العريضة وتراعي رغباتها وتنزل بمستوى اللغة التعبيرية إلى درجة استيعابها لتحقيق النجاح الجماهيري وعمل التوازن الضروري في قانون العرض والطلب.
وقد نجح الفنان والنجم، خلال سنوات طويلة في الحفاظ على ثقة الجمهور بكل نوعياته، فالمُتلقي المُثقف تجاوب مع رسائله الثقافية والسياسية والإنسانية واقترب من مضامينها، واعتنى بتحليلها على النحو المطلوب والمتوافق مع أفكاره وميوله فأقبل على أفلامه الاستثنائية المهمة مثل «ضربة شمس» و«البحث عن سيد مرزوق» و«آخر الرجال المُحترمين» و«أيام الغضب» و«كتيبة الإعدام» و«ناجي العلي» و«زمن حاتم زهران» و«العار» و«الصعاليك» و«جري الوحوش» و«كلام في الممنوع» و«قلب الليل» إلى آخر سلسلة الإبداعات المتميزة في أرشيفه السينمائي.
وكذلك أثار الفنان شغف السواد الأعظم من الجمهور البسيط بالأفلام التي تبنت مفاهيم تتفق مع قناعاته وتُرضي غروره كـ«دائرة الانتقام» و«بئر الخيانة» و«عيون الصقر» و«عفريت النهار» و«لهيب الانتقام» و«الفتى الشرير» و«الظالم والمظلوم» و»الصرخة» وغيرها من النوعيات التجارية القائمة على الفكرة التقليدية لانتصار الخير على الشر.
ومن بين هذه النوعيات، فيلم قدمه نور الشريف عام 1993 بعنوان «أقوى الرجال» مأخوذ عن قصة للكاتب التركي عزيز نيسين والسيناريو والحوار لبسيوني عثمان، وتدور أحداثه حول مفهوم القوة والضعف من المنظور الاجتماعي والبيئي الشعبي، فالبطل زكي شخص هادئ الطباع ومسالم لكنه فقير، ويُعاني من قصر ذات اليد، لذا فهو مغلوب على أمره ومُضطهد من فتوات الحارة، وصاحب البيت الذي يقطن فيه هو وزوجته سهير رمزي وابنه الوحيد الذي لا يتعدى عمره 6 سنوات.. ولأنه لا يميل للعنف ويؤثر دائماً السلامة، يُعاني الأمرين ويعيش بين الناس كأي إنسان طيب ودود، يقدم المساعدة والنصيحة ويبذل قصارى جهده في إرضاء من حوله لينعم بالاستقرار والبُعد عن الشر والأذى، إلى أن تأتي الرياح بما لا تشتهي السُفن، فلسوء حظه يرتكب خليل مرسي ربيب السجون والضالع في القتل والنهب والسرقة والمُلقب بالوحش جريمة جديدة ويهرب. ولأن زكي (نور الشريف) قريب الشبه من هذا المجرم حسب الافتراض الدرامي تُنسب إليه كل الجرائم ويُزج به في السجن مظلوماً، ويفشل في الدفاع عن نفسه لوجود بعض القرائن ضده، وهناك يلتقي بجمال إسماعيل الذي يُلقنه درساً مهماً من دروس الحياة ويقنعه بضرورة التخلي عن طيبته الساذجة وتقمص شخصية الوحش ليهابه المساجين، ويتمكن من التعامل معهم بما يناسبهم، ويوصيه أيضاً بأن يتبنى هذا الأسلوب بعد خروجه من السجن فالحياة من وجهة نظرة غابة واسعة وعلى الإنسان أن يكون وحشاً فعلياً بين الكائنات المُفترسة، كي يتسنى له الاستمرار فيها، إذ لا مكان للضعيف بين الأقوياء.
تلك كانت محاور القصة التي كتبها عزيز نيسين واستلهم منها بسيوني عثمان تفاصيل الحكاية السينمائية، حيث يرى صُناع الفيلم الثلاثة كاتب الرواية الأصلية والسيناريست والمخرج أحمد السبعاوي، أن نظرية البقاء للأقوى في مُجتمعات يغيب فيها القانون ولا تتحقق فيها العدالة ربما تكون هي النظرية الصحيحة، طالما أن الإنسان الطيب لا يستطيع حماية نفسه وذويه ويُنظر إلى طيبته على أنها محض ضعف، في حين يخضع غالبية الناس أو بعضهم لمن يتوهمون مجرد وهم بأنه قوي، حتى إن كان مصدر القوة المزعومة هو الخروج على القانون!
يرصد الفيلم من خلال تصاعد الأحداث تحولات البطل الجذرية من النقيض إلى النقيض، فأمام بطش الظالمين وتجبرهم في الحارة التي يسيطر عليها البلطجية والمجرمون تتكون الشخصية الجديدة للبطل المهزوم، فيصير أشد شراسة من أعدائه ويُمعن في القتل وسفك الدماء، لاسيما بعد الاعتداء على زوجته ومحاولة اغتصابها أمام عينيه والشروع في قتل ابنه الوحيد. ويستعين المخرج أحمد السبعاوي هنا بالطب النفسي لتفسير تحول البطل من قمة الهدوء والسكون إلى قمة الإجرام، وفي ضوء النظريات العلمية يُقدم الدكتور أحمد شعلان الطبيب النفسي الشهير كضيف شرف قراءة توضيحية لتطور الشخصية ومعاناتها النفسية والعصبية. وبذلك ينتقل المخرج من المستوى الروائي التمثيلي للقصة والأحداث إلى الرؤية التسجيلية العلمية بأطرها التخصصية المُتصلة بالحقائق البحثية المدروسة، وهي القيمة الحقيقية المُتضمنة في الفيلم التجاري الذي حاول نور الشريف أن يُمسك فيه العصا من المنتصف، في محاولة تقديم مُعالجة درامية إنسانية من واقع الحياة، وفي الوقت نفسه اللعب على وتر رغبات الجمهور الاعتيادية، بطرح ما يُمكن أن يرى المُتلقي البسيط نفسه فيه مع اعتماد النهاية المُفضلة له بانتصار البطل المظلوم، أو قدرته على الثأر لكرامته كما ينبغي أن يكون عليه الحال في الواقع المُعاش وفق الثقافة العامة لغالبية الناس.
بهذه التركيبة الفنية الإبداعية استطاع الفيلم في جزء من أحداثة أن يوازن بين ما يُعجب القاعدة العريضة من رواد شباك التذاكر وقوته الشرائية، والقليل من النُقاد ونسبة ضئيلة من النخبة المُثقفة.
قبيل وفاة الفنّان فريد شوقي؛ سألوه منْ هو الوريث لفريد شوقي؟ فأجبابهم: نور الشريف.وبعد وفاة نور الشريف ومحمود عبد العزيز لم يكُ وريثًا له حتى اليوم.أرى بعد وفاة الفنان عادل إمام بارك الله في عمره؛ ستفرغ الساحة الفنيّة المصريّة من العمالقة.وأرى أنّ الفنان المصريّ الذي لم يأخذ فرصة العمالقة وهو يستحقها الفنان : كريم عبد العزيز.