صورة من الأرشيف في "اليوم الوردي" الذي نظمته وزارة الصحة في مدينة غزة في 3 أكتوبر 2022- ا ف ب
غزة- “القدس العربي”: للعام الثاني على التوالي، تُحرم نساء غزة، بسبب الحرب المستمرة، من الخضوع لفحوصات الكشف المبكر عن السرطان ضمن الحملة العالمية التي تنشط في شهر أكتوبر، المعروف بـ”أكتوبر الوردي”، وهي حملات تهدف إلى تقليل مخاطر الإصابة والوقاية من المرض، والعلاج بشكل سريع لمن يتكشف إصابتها بهذا المرض الخبيث.
بيد أن إجراءات دولة الاحتلال العسكرية ضد القطاع كانت أخبث وأكثر ضررًا من ذلك الداء.
ومع مواصلة الحرب الإسرائيلية، التي دخلت عامها الثاني على التوالي، حُرمت النساء بسبب الهجمات التي طالت كل مناحي الحياة، وفي مقدمتها المراكز الطبية والمشافي، من الرعاية الصحية، ومن الخضوع لفحوصات خاصة بالكشف المبكر عن مرض السرطان، فلم تسمح ظروف الحرب، في هذا العام، كما العام الماضي، للمؤسسات الطبية والمؤسسات الخدماتية، على اختلافها، من تنفيذ حملة “أكتوبر الوردي”. فلم تعد المراكز الطبية والمنظمات المجتمعية قادرة على تنفيذ الحملة، بسبب الحرب التي أحدثت دمارًا كبيرًا في المنظومة الطبية وأخرجت عشرات المشافي والمراكز الطبية عن الخدمة، وهو أمر أثر على الأوضاع الصحية الصعبة التي يعيشها السكان، حيث تنتشر الأمراض الوبائية والخطيرة بشكل كبير، فيما لا يجد المرضى العلاج اللازم لهم في مشافي غزة. وينذر ذلك بوجود إصابات كثيرة وخطيرة بهذا المرض، لكن دون الكشف عنها مبكرًا، كما جرت العادة السنوية، وهو ما يعرض حياة المصابات لخطر الموت، أو انتشار أكبر للورم السرطاني في باقي أجزاء الجسم، في الوقت الذي تعاني فيه المصابات من النساء بهذا المرض من قلة الدواء، ومن عدم السماح لهن بالسفر خارج غزة لتلقي العلاج، بسبب الحصار المفروض على القطاع وإغلاق المعابر.
وتخشى عفاف، وهي سيدة في بدايات العقد الخامس من عمرها، وتعيش حياة الحرب المريرة، من انتكاسة طبية تفضي إلى موتها، وقد كانت هذه السيدة التي عولجت في مشافي خارج غزة قبل الحرب، تعاني من “سرطان الثدي”، لكنها كانت، وفق توصيات الأطباء، بحاجة إلى مراجعات وتحاليل طبية دائمة، افتقدتها منذ بداية الحرب.
وتضيف هذه السيدة لـ “القدس العربي” أن هناك الكثير من الأدوية اللازمة لها، نفدت من الصيدليات ومن مخازن وزارة الصحة. وتقول، وهي أم لخمسة أبناء، ولها أحفاد صغار: “اليوم ما في أدوية مسكنة للألم، كيف بدو يكون في أدوية للسرطان”. وتشير إلى أن رحلات العلاج تحتاج أيضًا إلى جلسات إشعاع، لا تتوفر في قطاع غزة، وتقول: “المصاب بالمرض بيكون محكوم عليه بالموت في الحرب”.
والجدير ذكره أن جيش الاحتلال استولى على المشفى المختص بعلاج الأمراض السرطانية في قطاع غزة، وهو المستشفى التركي، منذ قيام جيش الاحتلال بإنشاء “ممر نتساريم”، حيث يقع المستشفى على حدوده، وقام بطرد المرضى منه، ومنهم من فارق الحياة لعدم توفر العلاج اللازم له.
وتوضح هذه السيدة، أن عددًا من صديقاتها وقريباتها، حرصن مؤخرًا على إجراء الفحوصات الخاصة في شهر أكتوبر، خلال حملات الطبية، بعد اكتشاف إصابتها بالمرض، كإجراء وقائي احترازي، غير أن أيًا منهن، كباقي نساء غزة، لم تجر الفحص، خلال العام الجاري والعام السابق، وتضيف: “بدل من أكتوبر الوردي صار أكتوبر الأسود”. وتوضح أنها التقت، خلال فترة علاجها من المرض، بسيدات من غزة، اكتشفن إصابتهن بالمرض، في إحدى حملات الفحص المبكر.
وبالعادة كانت هناك مؤسسات مجتمعية وحملات طبية واسعة تقوم، على مدار أيام شهر أكتوبر من كل عام، بالفحص المبكر، إذ تخضع السيدات لكشف طبي على أيدي أطباء مختصين بمساعدة أجهزة تصوير طبية.
وفي تقرير نشره المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، تحدثت السيدة نڤين حسين محمد (41 عامًا) عن مرضها، وقالت إنه، في عام 2017، تم تشخيصها بالإصابة بـ “سرطان الثدي”، حيث بدأت رحلتها الطويلة مع العلاج الكيميائي والإشعاعي في مستشفى المطلع بالقدس بعد الحصول على التحويلة من وزارة الصحة، حيث واجهت صعوبات في السفر لتلقي العلاج، وأضافت: “في الأيام التي سبقت الحرب كنت أجري صورة للثدي كل ستة أشهر في مستشفى الصداقة التركي، والذي خرج عن الخدمة منذ بداية الحرب، كانت آخرها في أغسطس 2023، وكان يفترض أن تكون الصورة التي تليها في ديسمبر 2023، إلا أن الحرب بدأت، وإلى الآن لم أراجع أي جهة بخصوص هذا الأمر، ولا توجد متابعة، ولا يتسنى لي الاطمئنان على صحتي، الآن”.
وتشعر هذه السيدة بآلام شديدة في المعدة والمفاصل، وقد طالبتها طبيبة موجودة في نقطة طبية في مخيم نزوح، بضرورة مراجعة طبيب مختص، غير أنها لا تستطيع ذلك، وتقول: “بينما أستيقظ، في صباح كل يوم، لتبدأ معركتي مع الحياة بإشعال النار للطبخ، وملء ما يمكن تعبئته بالماء بعد طابور طويل، وغيرها من الأعمال الشاقة”. وتخشى هذه السيدة أن يعود لها المرض في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها.
كما قالت السيدة كفاية فتحي محمد أبو معوض (36 عامًا)/ في إفادتها للمركز الحقوقي: “أنا مريضة بسرطان الثدي منذ ثلاث سنوات، لكن تم اكتشافه متأخرًا”. وأضافت: “أخبرني الطبيب بضرورة إجراء عملية جراحية لاستئصال الثدي بسبب وجود ورم خبيث، وكان من المفترض إجراء العملية قبل اندلاع الحرب، لكن العدوان حرمني من حقي في العلاج”. هذه السيدة نزحت إلى مدارس “الأونروا” في منطقة النصيرات وسط قطاع غزة، في بداية الحرب، حيث تعيش في حالة من الرعب والخوف، ويتدهور وضعها الصحي بشكل متزايد، خاصة أنها لم تبدأ العلاج بعد. وتقول: “إن ظروف العيش في مركز الإيواء سيئة، فلا يتوفر الغذاء الصحي، والطعام عبارة عن معلبات ضارة بصحتي”، وتوضح أنها تفتقر إلى الفيتامينات والمسكنات الضرورية، وتقول: “إن استمرار الحرب يعوق علاجي، ويزيد آلامي، ويضاعف قلقي من الموت”.
وكانت الحرب بدأت ضد غزة في السابع من أكتوبر من العام الماضي، أي مع بدايات انطلاق حملات “أكتوبر الوردي”، وبدأت النساء كباقي أفراد أسرهن، يبحثن عن المأوى والمأكل، ويعانين كغيرهم من حياة النزوح، وهو ما ضاعف الأمراض في صفوفهن.
والجدير ذكره أنه يجري في قطاع غزة تشخيص أكثر من 366 حالة جديدة من سرطان الثدي سنويًا، بمعدل حالة يوميًا، حسب بيانات عام 2022.
ويعد هذا النوع من السرطان الأكثر انتشارًا بين نساء غزة، حيث يمثل نحو 20% من إجمالي حالات السرطان المسجلة، لكن الكشف المبكر عنه جعل نسبة النجاة منه في غزة تتجاوز 65%، ومن الممكن أن يرفع التشخيص المبكر والعلاج الفعّال نسب النجاة إلى النسبة العالمية المقدرة بأكثر من 80%، في حال توفرت الأدوية والمعدات ورفع الحصار عن غزة.
وذكر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، أن الاحتلال الإسرائيلي يواصل ارتكاب “جريمة الإبادة الجماعية” بأبشع صورها ضد سكان قطاع غزة، حيث تطال آثارها الوحشية النساء دون أي حماية. وأوضح أن النساء يقتلن ويُجبرن على النزوح من مكان إلى آخر، في ظل انعدام مقومات الحياة الكريمة، حيث تفقد الأمهات أبناءهن ومعيليهن واحدًا تلو الآخر، كما تحرم النساء الحوامل من الرعاية الصحية، ويمنعن من الإنجاب في ظروف إنسانية آمنة.
وأشار، وهو يتحدث عن معضلة الكشف المبكر، إلى أن معاناة النساء تتفاقم مع نهاية شهر “أكتوبر الوردي”، الذي يحتفي به العالم لتشجيع النساء على إجراء الكشف المبكر عن “سرطان الثدي”، وقال إنه، للعام الثاني على التوالي، تُحرم النساء في قطاع غزة من حقهن في هذا الفحص، الذي يُعدّ أساسيًا للكشف والعلاج المبكر المنقذ للأرواح.
وحسب المركز، فإن الفحص المبكر للنساء وعلاجهن يمثّل تحديًا كبيرًا في مواجهة مرض سرطان الثدي القاتل، حتى قبل السابع من أكتوبر 2023.
ويشير إلى أن حرمان النساء في قطاع غزة من الفحص المبكر، جاء وسط إلقاء جيش الاحتلال الإسرائيلي نحو 85,500 طن من المتفجرات على القطاع، منذ بدء العمليات العسكرية في السابع من أكتوبر 2023، وهي كمية تفوق أضعاف وزن القنابل النووية التي أُلقيت على هيروشيما وناغازاكي، ما يثير قلقًا عميقًا بشأن الآثار البيئية والصحية الكارثية لهذه الهجمات.
ويؤكد أن الدراسات تشير إلى أن التعرّض المكثف لبقايا المعادن الثقيلة الناتجة عن هذه التفجيرات، يزيد بشكل كبير من احتمالات الإصابة بأمراض خطيرة، بما في ذلك ارتفاع نسب الإصابة بالسرطان.
ونقل التقرير الحقوقي عن الدكتور صبحي سكيك، مدير المستشفى التركي، قوله: “تزداد أهمية الفحص المبكر لدى النساء اللواتي تعرضن لعوامل خطر محددة، مثل التعرّض للمواد المسرطنة والملوثات الكيميائية الناتجة عن الأسلحة المستخدمة في النزاعات”.
ويضيف: “النساء في قطاع غزة يتعرّضن لأنواع متعددة من الأسلحة، بما فيها الفوسفور الأبيض ومعادن ثقيلة مثل التانجستون والنيكل، وغيرها من المواد التي تزيد من احتمالية الإصابة بالسرطان”، مؤكدًا أن الآثار الصحية لهذه المواد لا تظهر فورًا، بل تظهر غالبًا بعد سنوات، ويشير إلى أن هذا ما يفسر الارتفاع المقلق في نسب السرطان في قطاع غزة.
وأوضح أن دراسات سابقة مشتركة بين القطاع الصحي في غزة مع وفود من إيطاليا والنرويج، قبل 10 سنوات، أظهرت وجود مواد مسرطنة في الأسلحة والقنابل المستخدمة، ما أدى إلى ارتفاع ملحوظ في معدلات السرطان بين السكان.
ويؤكد المركز الحقوقي أن حرمان النساء من الفحص المبكر لمرض سرطان الثدي، وتأخير اكتشاف المرض يعرّض النساء في غزة لخطر الموت البطيء، وهو انتهاك يدخل ضمن الفعل الثالث من “أفعال الإبادة الجماعية”.
وطالب المركز الحقوقي بممارسة ضغط دولي على الاحتلال الإسرائيلي لإلزامه بوقف جميع “أفعال الإبادة الجماعية”، التي تستهدف المدنيين والبنية التحتية الصحية في قطاع غزة، ما يتيح لهم، بمن في ذلك النساء، الوصول إلى الرعاية الطبية الضرورية.
وشدّد على ضرورة تنفيذ الأوامر الصادرة عن “محكمة العدل الدولية”، وذلك لتيسير تقديم الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية، ومنع جميع أشكال العنف.
وطالب بالسماح بإعادة تشغيل مستشفى الصداقة التركي-الفلسطيني بكامل طاقمه ومعداته، وتزويده بالأدوية والعلاجات الضرورية.