أمراض الحكام: قهر البدايات وأسي النهائيات
أمراض الحكام: قهر البدايات وأسي النهائيات من مظاهر التمايز بين الواقع العربي وواقع باقي أمم المعمورة، اكتساب الوضع الصحي للحاكم بعدا مصيريا بالنسبة للمحكومين. فبمجرد ما يصاب الحاكم العربي بمرض ما، تحرك كل شيء كان هانئا مطمئنا وساكنا مقهورا، فالموالون في استنفار لا حد له، كل شيء مهدد ولا تفريط بالمكاسب إلا بإخفاء واقع المرض أو تهوين شأنه وتضخيم سلامة الحاكم وحرصه علي مشاريع النهوض والإقلاع والوثبات وكلها معلقة بشخصه الباهر، والمعارضون سلموا باستحالة التغيير في ظل وجود هذا الحاكم فإذا استبد به مرض ما جعلوها فرصة الفرص وأم المعارك التثويرية، إذا حصل ومرض الحاكم انتهي كل شيء وبدأ كل شيء، وهذا أخطر ما في الأمر، ينتهي كل شيء لأن الأمر كان أمره وحده ورؤيته وحده وقراره وحده وتنفيذه علي يد من يختار وحده، ويبدأ كل شيء لأن المتربصين تكاثروا لطول عهد الحاكم وامتداد قهره، فوفر للمناوئين أعمارا وأجيالا باضت وفرخت وهذه فرصتها للبداية من جديد، وأي جديد إنه لن يعدو أن يكون نسخة من قهر جديد، فأين تلاقحت هذه الأجيال ونمت إلا في جو موبوء مسدود كل ما فيه تعفن، فهي تعد للأمر رؤي قد أصابها التلف في البدايات فلا ينتج القهر إلا قاهرا والفساد إلا مفسدا إلا من رحم ربك. لماذا نعتبر المرض خطرا والموت مأساة في واقع الحكم العربي؟طالت عهود الحكام وهم يدعون أن في الأمر استقرارا لازما للنهوض وحشد الطاقات، فكانت آثار ذلك بهذا الدمار للعقول والقدرات، فإذا تحركت للحاكم شعرة ارتج كل النظام من أعلي خادم فيه إلي أخمص قدميه، كل متشابك ممسوك بكلتا يديه، ويا ويل الأمة إن ضاع الخيط من إصبعيه، فلا عجب بعد هذا أن يكون المرض سرا من أسرار الدولة، لا يفصح عنه إلا بالتقطير والتقتير، ولا يسرب إلا بحيث يزيد الرعية جمودا وسكونا ورعبا وخوفا، وفي وعيها أو لا وعيها استحالة أن يصاب الحاكم وبيده مصير الرقاب، وتحت سلطانه أرمادة الطب والمعافاة بل من أين يدخل المرض لجسم منعم مرفه، محمي مخفي، محفوظ مكنوز؟ أما إذا مات فهي المأساة بلا دواء والضياع بلا دليل والوحشة من غير أنيس، فالحاكم كان الأخ والوالد والابن والرافد، والحامي والحافظ، والكاسي والطاعم، وكل هذا توطئة للقادم الجديد الذي سيسير علي الدرب ويكون خير خلف لخير سلف، ألم يكن أقرب المقربين إلي الحاكم الملهم والقائد الموهوب؟لعبة ماكرة دون شك، أن يجعل من المرض تزكية وبيعة، ومن الموت توريثا وتمليكا، ولكن الخطورة المغفول عنها هي عواقب أسطرة الحاكم ورفعه فوق الآدمية، ثم ربط جهاز الحكم والتسيير كله بشخصه.أما آن الأوان لأن تحيا أمة العرب كباقي أمم الأرض بعقولها، وأن تنزع عن الأعين أسطورة الحكام الموهوبين و تؤدمهم من آدم و تؤنسنهم حتي يمكن لها أن تحاسبهم.د جمال حضريالجزائر6