أمريكا اللاتينية تستمر في منأى عن عدوى الانفصال

يسود وسط الرأي العام العربي أن هذا الفضاء الجغرافي – الثقافي الذي ينتمي إليه هو الوحيد المعرض للتفتيت وصناعة خريطة جيوسياسية جديدة، بإنشاء كيانات جديدة، بينما التاريخ يؤكد أن الغرب نفسه الأكثر تعرضا لهذه الظاهرة السياسية خلال الثلاثة قرون الأخيرة، فيما تبقى منطقة أمريكا اللاتينية في منأى حتى الآن، لكن تسابق الدول الكبرى عليها قد يعرضها لشبح التقسيم والانفصال.
أصبحت اتفاقيات مثل سايس بيكو من الكوابيس التي تؤرق الذاكرة العربية السياسية والاجتماعية، لأنها الاتفاقية الرئيسية التي قامت بتقسيم العالم العربي بعد انهيار الخلافة العثمانية. وتتجدد مخططات الغرب لبلقنة العالم العربي، أملا بعدم وحدة حزام قومي – إسلامي جنوب المتوسط يحيط بالخاصرة الجنوبية للغرب. وهذا ما يفسر زرع إسرائيل والتدخل في الدول العربية، من خلال استغلال السياسات الديكتاتورية لبعض الأنظمة العربية ضد شعوبها مثل حالة نظام بشار الأسد.

تاريخيا، نجحت دول أمريكا اللاتينية في احتواء عدوى الانفصال التي ضربت العالم القديم ومنه العالم العربي والأوروبي والآسيوي، بل إنها تشكل نموذجا يقتدى به ولكن قد لا تبقى صامدة

وبدوره، يتعرض الغرب لتغيير في خريطته الجيوسياسية، خاصة أوروبا، إذ ما بين الحرب العالمية الأولى، وبداية القرن الواحد والعشرين اندحرت إمبراطوريات وتأسست دول وكيانات جديدة ووقعت حروب عالمية، ويكفي الاطلاع على الخرائط من عقد إلى آخر خلال المئة سنة الأخيرة لمعرفة التغيير الكبير الذي حصل في حدود دول أوروبا. ويستمر هذا الهاجس في مختلف الدول وعلى رأسها إسبانيا بإقليمي الباسك وكتالونيا الراغبين في الانفصال، وإقليم كورسيكا في فرنسا واسكوتلندا في المملكة المتحدة وغيرها، وكلها نزاعات ستنفجر في وقت ما وقد تسبب حروبا، وما يترتب عنها من ظهور كيانات جديدة وتغيير للحدود. ويوجد عاملان وراء ظاهرة الانفصال الأول، أن أوروبا والعالم العربي والقارة الافريقية تعاني من صراعات إثنية وثقافية ودينية تبرر الانفصال، والعامل الثاني هو إصرار قوى مثل القوى الغربية على أن السيطرة على جزء من العالم يمر عبر تفتيت وحدة الأوطان مثلما تفعل في العالم العربي. غير أن ظاهرة عدوى الانفصال لم تنتقل بقوة إلى منطقة أمريكا اللاتينية، حيث لم تتغير تقريبا حدودها طيلة 120 سنة الأخيرة، وبالكاد نجد حركات انفصالية هامشية لا وزن لها في القارة، عكس ما يجري في العالم العربي وأوروبا. وفي كل دولة في هذه المنطقة، توجد حركة انفصالية، ولكنها جنينية ومحدودة التأثير، وتكاد تكون من المجتمع المدني أكثر منها حركة سياسية، مثل حالة حركات في فنزويلا والإكوادور والمكسيك وبوليفيا. ويمكن استعراض عدد من العوامل التي ساهمت في تجنيب منطقة أمريكا اللاتينية عدوى الانفصال حتى الآن، وعلى رأسها: طبيعة النظام السياسي، حيث تبنت غالبية الدول النظام الرئاسي الفيدرالي على الطريقة الأمريكية، وتتمتع الأقاليم والإثنيات بالحكم الذاتي، الذي يلبي الكثير من مطالبها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
كما تحررت منطقة أمريكا اللاتينية من الاستعمار الأوروبي بداية القرن التاسع عشر، وكان استعمارا إيبيريا، إسبانيا والبرتغال في غالبيته، ولهذا بقيت بعيدة عن مخططات القوى الاستعمارية الكبرى وهي فرنسا وبريطانيا. والمثير أن فرنسا مثلا ما زالت تستعمر غويانا. وهناك عامل آخر، إذ لا يمكن التقليل من دور الولايات المتحدة، فقد تبنت عقيدة مونرو في بداية عشرينيات القرن التاسع وهي أمريكا للأمريكيين، ووقفت بذلك سدا في وجه تسلل الاستعمار الفرنسي والبريطاني بعد حصول أمريكا اللاتينية على استقلالها من إسبانيا والبرتغال. ولو كان البلدان الأوروبيان قد نجحا في التسلل استعماريا إلى المنطقة، وقتها كانا سيطبقان المنهجية الاستعمارية الشهيرة وهي: فرق تسد. كما تجنب البيت الأبيض تطبيق سياسة التقسيم، وكانت سياسته دائما هي المساهمة في الانقلابات لتغيير الأنظمة التي لم تكن تعجبه، وليس تشجيع حركات مسلحة إثنية انفصالية. كل هذه العوامل ساهمت في برودة مشاعر الانفصال، وإن ظهرت في سياقات مختلفة عن العالم العربي والأوروبي، وغالبا ما ترتبط بتوسيع صلاحيات سياسية، واقتصادية خاصة في بعض الأقاليم، ويكون رد الحكومة الفيدرالية هو تلبية هذه المطالب. وعلى الرغم من وجود كل هذه العوامل التي تقف سدا في وجه الانفصال، إلا أن الخرائط الجيوسياسية تأبى الاستقرار وغالبا ما تكون هناك مفاجآت سياسية. في هذا الصدد، تبقى المنطقة معرضة مستقبلا للانفصال، لأنها أصبحت محط صراع بين القوى الكبرى، خاصة الصين والولايات المتحدة في إطار حرب باردة جديدة. وعندما يحصل صراع دولي حول منطقة استراتيجية، تحضر الأجندات السرية القائمة على استغلال الفوارق الاقتصادية بين الأقاليم، ثم الاختلافات الإثنية الثقافية. ويجري استغلال تاريخ حركات سياسية وإثنية للبدء في الحديث عن كيانات مستقبلية. تفيد الدراسات السياسية في أمريكا اللاتينية أن ثلاث مناطق قد تسجل ظاهرة قوة للانفصال وهي ما يسمى «جمهورية كاليفورنيا السفلى» وهو إقليم مكسيكي يريد الارتباط أكثر بالولايات المتحدة، وما يسمى بجمهورية زوليا في فنزويلا، التي فيها أكبر احتياطات النفط في العالم، ومن دون شك تغازلها الولايات المتحدة. ولا ينظر الغرب بعين الارتياح لطموحات البرازيل الدولية ومنها دورها في مجموعة البريكس، ولهذا ليس من باب الصدفة الصعود المستمر لحركة «الجنوب بلادي» خلال السنوات الأخيرة، ، تاريخ بدء البريكس بقوة، وهي حركة تريد الانفصال بولايات الجنوب الثلاث وهي بارانا وريو غراندي ديل سور وسانتا كتارينا. وتستند في شرعيتها إلى جمهورية ريو غراندينسي التي حكمت المنطقة في ثلاثينيات واربعينيات القرن التاسع عشر.
تاريخيا، نجحت دول أمريكا اللاتينية في احتواء عدوى الانفصال التي ضربت العالم القديم ومنه العالم العربي والأوروبي والآسيوي، وهي تشكل نموذجا يقتدى به. ولكن قد لا تبقى صامدة، إذا تضاعف صراع القوى الكبرى عليها خلال العقود المقبلة، هذه القوى التي قد توظف العنصر الإثني والفوارق بين الأقاليم لإنشاء كيانات جديدة. التاريخ يؤكد لنا أن الخرائط جيوسياسية لا تستمر صامدة كثيرا، بل هي تتغير كما هو حال الكائن الحي.
كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول زهير:

    الدول التي تعلمت كيفية إدارة الموارد المحدودة بحكمة، وعملت على بناء هوية وطنية قوية من خلال التعليم والثقافة، بدلاً من تعزيز الهويات الإقليمية أو الإثنية بشكل مفرط، تكون أكثر قدرة على الحفاظ على وحدة وطنية قوية حتى في حال ظهور ثروات جديدة في إقليم من الأقاليم.

  2. يقول علاء:

    ربما السبب في أن النعرات الانفصالية لا تظهر في أمريكا اللاتينية هو أن شعوبها ببساطة لا تجد وقتًا للانفصال؛ هم مشغولون دائمًا بثورة جديدة! فعندما يثور الناس على كل شيء بدءًا من الحكومة وصولًا إلى العادات اليومية، يصبح الحديث عن الانفصال أمرًا ثانويًا. فكيف يمكن لشعب ثائر أن ينشغل في مطالبة بالاستقلال عندما يكون لديه بالفعل خطة للثورة القادمة؟ على الأقل، الثوار لا ينفصلون، بل ينضمون لمعارك جديدة.
    في نفس سياق المقال، يمكن القول إن التغيرات الجيوسياسية لا تحدث بالضرورة في جميع الدول، حيث أن القابلية لتلك التغيرات تعتمد على العديد من العوامل الداخلية والخارجية، بما في ذلك التركيبة السياسية والاجتماعية والثقافية للدولة.
    اليابان مثلا، تعتبر نموذجًا لدولة تتحدى نظرية هشاشة الخرائط الجيوسياسية، بحكم تاريخها الطويل كدولة مركزية قوية (سواء خلال فترة الإمبراطورية أو الحكومات الحديثة)، حيث استطاعت بناء مؤسسات تدير شؤون البلاد بشكل متماسك، كما أن السكان في جزرها يميلون إلى الثقة في الحكومة المركزية لأنها تعتبر ضمانًا للاستقرار…(تتمة)

  3. يقول علاء:

    …كذلك، بسبب الموقع الجغرافي الذي صاغ عقلية ونفسية السكان عبر التاريخ، طور اليابانيون شعورًا قويًا بالتضامن الداخلي لمواجهة التحديات الخارجية، سواء كانت غزوًا أجنبيًا (مثل محاولات الغزو المغولي) أو كوارث طبيعية مثل الزلازل والتسونامي. كما أنه تاريخيًا، اعتمدوا على بعضهم البعض لإدارة الموارد المحدودة، مما عزز ثقافة التعايش المشترك، وهو ما أدى إلى بناء شبكة اجتماعية متماسكة يُنظر فيها إلى أي انقسام على أنه تهديد للاستقرار. وهنا تجدر الاشارة إلى أن الانسجام الاجتماعي “الوا” ، هو أحد الأعمدة الرئيسية التي شكلت الثقافة اليابانية على مدار التاريخ.
    ثقافيًا أيضا، تعتبر التقاليد العريقة حجر الزاوية في تكوين الهوية الثقافية والشخصية الاجتماعية للشعب الياباني، كما أن اليابان استندت إلى قيم تقليدية مثل الانضباط، الولاء، والانسجام، مع التكيف الذكي مع الحداثة…(تتمة)

  4. يقول علاء:

    …الإعلام الياباني كذلك، الذي يتميز بتوجهه المحافظ نسبيًا، يعكس هذا الالتزام بالحفاظ على وحدة المجتمع وتراثه، و هناك تقليد طويل من الانضباط الاجتماعي والتوجيه الذاتي في وسائل الإعلام، وغالبًا ما يُعتبر التركيز على النظام والانضباط الاجتماعي أكثر أهمية من الحريات الفردية في بعض السياقات. وبالنسبة للشق الاقتصادي، سعت اليابان إلى تقليص الفوارق بين أقاليمها، ما أدى إلى تراجع النزعات الانفصالية.
    اليابان أيضا تتوفر على نظام إمبراطوري عريق، والذي رغم كونه رمزيًا اليوم، إلا أنه لعب دورًا محوريًا في الحفاظ على الانسجام الاجتماعي والتماسك الداخلي بين الأقاليم المختلفة. ومقارنة بدول أخرى، فإن التحفظ الإعلامي والصمت المدروس للنظام الإمبراطوري الياباني يُعد استراتيجية واعية للابتعاد عن الجدل وتعزيز صورة الحيادية والرصانة، خاصة في هذا العصر الذي يتزايد فيه تأثير وسائل التواصل الاجتماعي و يبحث فيه الجميع عن الاهتمام والظهور، بشكل أصبح وسيصبح فيه التحفظ بمثابة عملة نادرة.

  5. يقول علاء:

    فقط من أجل التصحيح، أقصد مؤسسة إمبراطورية وليس نظام.

  6. يقول سعدان. باريس:

    شكرا للكاتب و محاولة إيقاظ ذوي الهمم والتحدير من زا رة الانفصال خاصة ما تتعرض له بعض الدول العربية من انقسامات سواء بسبب الاثنيات العرقية كما أن هناك محاولة لتمزيق العالم العربي أكثر مما هو ممزق منذ الاتفاقيات الاستعمارية و المثير للجدل هو أن هناك بعض الدول العربية تشجع بعض الكيانات للانفصال وتمدها حتي بالسلاح ضد بعضها ! لهذا لن نلوم فقط الغرب وإسرائيل علينا أن نكون واضحين في ما بيننا ،

  7. يقول Omar SAMID:

    .السلام عليكم.
    فعلا، بلدان أمريكا الجنوبية ظلت الى حد ما، في مناى عن ظاهرة الانفصال رغم وجود بعض الحركات الانفصالية، لكن هذه الحركات بقيت محدودة التأثير لأسباب ذكرها الكاتب واخرى لم يذكرها.

    أقوى هذه الاسباب ان حركات الانفصال التي تعلن عن نفسها في دولة ما بهذه المنطقة، لا تجد في الجوار من باويها على أرضه ويسلحها من مال شعبه، ويعبيء منابره الإعلامية واجهزته الدبلوماسية للدفاع عنها في المحافل الدولية.
    ولكم في حركتي الباسك وكاطالونيا مثلا. فهذه الحركات لا تجد لها مكانا ولا سندا في دول الجوار.

    ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن الكلام بالمناسبة ياتي على حركة بوليساريو. فلولا الجزائر وارضها واموالها واعلامها وديبلوماسيتها، لما كانت هذه الحركة قادرة على العيش فما بالكم بخوض الحرب؟؟ .

    تحية للكاتب العزيز وشكرا لجريدة القدس المحترمة والسلام على من نظر واعتبر.

    1. يقول Rachid:

      الصحراء الغربية حررها أبطال الساقية الحمراء و واد الذهب من الاستعمار الاسباني والمغرب لم يطلق ولو رصاصة واحدة على الاسبان. كل الأحكام القضائية سواء محكمة العدل الدولية او محكمة العدل الاروبية في قراراتها تعتبر المغرب والصحراء الغربية أقليمين منفصليين ولايمكن أستغلال ثروات الصحراء الغربية بدون استشارة الشعب الصحراوي وممثله الوحيد البوليزاريو المعترف به في كل المحافل الدولية

  8. يقول مسلم:

    راءع راءع راءع
    بعد انهيار الخلافة العثمانية. وتتجدد مخططات الغرب لبلقنة العالم العربي، أملا بعدم وحدة حزام قومي – إسلامي جنوب المتوسط يحيط بالخاصرة الجنوبية للغرب. و لكن ابى القذافي و بومدين الا ان يكونا معولين لهذا الغرب من حيث يعلمون و لا يعلمون و رحبوا بجيفارا و كاسترو لتمزيق افريقيا و اتوا بالمرتزقة من الجهة الغربية للاطلسي من امريكا الجنوبية التي تحرم الانفصال في اراضيها و المؤسف جدا ان من ورث بومدين لا زال يؤمن و يصر على الانفصال

اشترك في قائمتنا البريدية