أمريكا بعد اقتحام الكابيتول: مَن يجبّ الترامبية؟

حجم الخط
5

قد يصحّ الإقرار، بادئ ذي بدء، أنّ نظام الانتخابات الرئاسية الأمريكية، على علاته ومظانه الكثيرة، أثبت مرونة عالية في الجوانب الإجرائية التي تعود قواعدها إلى ما سنّه «الآباء المؤسسون»؛ وتسري بالتالي على الحزبين الوحيدين، الجمهوري والديمقراطي، ولا تملك مؤسسة ديمقراطية عليا مثل الكونغرس سبيلاً لتعطيله على نحو يغيّر أصول اللعبة جذرياً، حتى إذا تعرّضت إلى مسّ هنا أو هناك، رقيق أو عنيف. ذلك ما تشهد به وقائع ما بعد انتخاب جو بايدن رئيساً وكمالا هاريس نائبة للرئيس، رغم صنوف المقاومة العنيفة التي اعتمدها الرئيس الخاسر دونالد ترامب؛ والتي تطورت على نحو منهجي حتى بلغت ذروتها في العصيان الذي نفّذه أنصاره في قلب العاصمة، واقتحام مبنى الكابيتول أثناء انعقاد اجتماع مشترك لمجلسَيْ النواب والشيوخ للتصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية.
غير أنّ هذه المرونة لا يصحّ لها أن تجبّ مقدار العطب الداخلي العميق الذي أصاب، ويواصل إصابة، الديمقراطية الأمريكية المعاصرة كما تعاقبت فصولها منذ نهايات الحرب العالمية الثانية على أقلّ تقدير؛ بافتراض أنّ سماتها التكوينية الإيجابية، القياسية إذا جاز القول، خرجت من عباءة الليبرالية التنويرية لتدخل تحت عباءة النيو ــ ليبرالية، المتوحشة المناهضة للتنوير إلى درجة الاصطفاف المحافظ واليميني في أمثلة عديدة. وليس مثال العطب الأبرز، والراهن، سوى صعود ترامب والترامبية، ليس في مستويات السياسة والاجتماع والاقتصاد والعلاقات الدولية والثقافة، فحسب؛ بل كذلك في سيرورات متكاملة من استطالة الترامبية في قلب الحزب الجمهوري، الذي لم يتوقف عند مزيد من الانغلاق المحافظ والعصبوية البيضاء والعنصرية المبطنة أو حتى الصريحة، بل استمرأ حالة من التبعية والخضوع و»التقولب» حول شخص ترامب، تكاد تذكّر بظاهرة عبادة الفرد دون سواها.
وكان الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، لأسباب داخلية وخارجية في آن معاً، قدوة غالبية من أنصار الحزب الجمهوري؛ ومن الإنصاف الافتراض، اليوم، بأنه اهتز في قبره لمرأى مشاهد اقتحام الكابيتول (ولسنا نعرف حتى الساعة ما إذا كان تمثاله داخل المبنى قد صمد أمام غضبة الجموع الترامبية). ففي خطبة الوداع، مطلع كانون الثاني (يناير) 1989، ذكّر ريغان الأمريكيين بأنه لم يكفّ عن التغنّي بـ»»المدينة المضيئة» على التلّ، رمز الديمقراطية الأمريكية المشيدة على «صخور أقوى من المحيطات» التي باركها الربّ رغم عصف الأنواء كي تتآخى مع «شعوب من كلّ نوع تعيش في اتساق وسلام». لم تكن هذه حال التآخي التي خامرت ذهن ريغان حين أفسحت الصخور الدروب الواسعة لاجتياح الرمز المضيء، بأعلام عنصرية وعصبوية ونازية، وبشعارات لم تعد تعترف من الديمقراطية إلا باسم ترامب وإسقاط نتائج الانتخابات الرئاسية؛ في غمرة ذهول أجهزة الأمن والاستخبارات المحلية والفدرالية في عاصمة القوة الكونية الأعظم، على مرأى ومسمع العالم بأسره.
وذلك الباب الشهير، في قاعة الكابيتول الكبرى، الذي يدلف منه رؤساء أمريكا لإلقاء الخطبة السنوية التقليدية حول حال الاتحاد، تجاوزت أحدث صورة له المخيّلة السوريالية: ثلاثة من رجال الأمن يصوبون مسدساتهم نحو نفر من أنصار ترامب يحاولون تحطيم الباب. أمّا مكتب نانسي بيلوسي، رئيسة البرلمان والهيئة التشريعية الأعلى إلى جانب مجلس الشيوخ، فلم يُشبع غليل المقتحمين أنهم عبثوا به، بل توجّب أن يتركوا لها رسالة وعيد: عائدون! «انقلاب» جدير بأنظمة العالم الثالث، اهتدى بعض المعلقين الأمريكيين إلى العبارة الملائمة؛ أو «عصيان» في التعبير المهذب الذي استخدمه الرئيس المنتخب بايدن؛ وقلّة استعادوا العبارة التي تُنسب إلى سنكلير لويس، الكاتب والمسرحي الأمريكي حامل نوبل: «حين تصل الفاشية إلى أمريكا سوف تكون ملفوفة بالعَلَم والصليب»…
وتلك، لا يخفى، سياقات تردّ إشكالية الراهن الأمريكي إلى قيمة عليا دائمة، لا تحول ولا تزول، هي مفهوم «الحلم الأمريكي»؛ ذاك الذي يعلن ترامب أنه يريد إحياء جذوته في النفوس عبر الشعار الأثير حول جعل أمريكا عظيمة مجدداً. المفهوم صوفي بالطبع، وهو سحري سار ويسير على ألسنة الساسة الأمريكيين في كلّ مناسبة تخصّ، أو تمسّ، علاقة الولايات المتحدة بالعالم ما وراء المحيط؛ أو، في التكملة، كلما تعيّن عليهم أن يدغدغوا أنفة الأمريكي أو غطرسته الموروثة بمعنى أدقّ؛ فما بالك إذا اتصل الأمر بالذات، التي تضخمت خلال أربع سنوات من الترامبية البيضاء والعنصرية وشبه الفاشية أو بعض الفاشية كاملة متكاملة. التاريخ الأمريكي من جانبه يروي تفاصيل أخرى عن الحلم، فيسجّل قيامه على الفلسفة الطهورية أوّلاً، ثم انفتاحه ــ سريعاً ودون مقدّمات لاهوتية أو أخلاقية ــ على شهوات لاطهورية، قوامها الفتح والتوسع والهيمنة والأسواق والاستثمار والاحتكار، وما إلى هذه من أخلاقيات رأسمالية.

تكفي متابعة أعمار الجموع التي اقتحمت مبني الكابيتول كي يدرك الناظر أنّ هستيريا الأمريكي السبعيني كانت تكمل سعار الأمريكي العشريني أو الثلاثيني؛ وما بينهما نساء عجائز ونساء صبايا، سواء بسواء

وبالطبع، الحكاية الأشهر في هذا الصدد تقول إنّ المهاجر الإنكليزي جون ونثروب أبحر في عام 1630 على ظهر السفينة أرابيلا، في طريقه إلى «العالم الجديد»؛ وعلى مبعدة فراسخ قليلة من شواطىء أمريكا نطق ذلك البيوريتاني الحالم بالجملة الذهبية: «إنني أحلم بأمريكا على هيئة مدينة في أعلى هضبة خضراء، تحفّ بها البراري والمراعي والكنائس». هكذا بعفوية شاعرية رعوية، ولكن بما يكفي من براغماتية جعلته يردف بالقول: «هدفي هو الحرّية، ولكنّ مخططاتي على المدى البعيد ستكون الاستئثار بأقصى ما يتيحه لي الربّ من عقارات وثروات». وبالفعل، أرسى ونثروب قلوعه عند صخرة ماساشوستس الأشهر، ثم أقام مستعمرة بوسطن، وأسّس شركاته من عرق الزنوج العبيد ودمائهم، وانتُخب حاكماً مدى الحياة.
ومذاك، ما انفكت هذه المشكلة البكر تتفاقم وتتضخّم: أنّ «الأمّة الأمريكية العظيمة» مصابة بتخمة الحديث عن الصخرة البيوريتانية والحلم الأمريكي، في التجريد والإطلاق والضبابية والصوفية؛ ولن يعلو نجم سياسي، جمهوري أم ديمقراطي، ليبرالي يساري أم محافظ يمين، علماني أم متدين… إلا وبعض بضاعته المستعادة هي الحلم الأمريكي؛ وتستوي في هذا التنويعات اللفظية، والكثير منها ركيك كسيح الدلالة. المشكلة الأخرى أنّ صخوراً من نوع مختلف كانت تنتظر خطاب ونثروب الانفتاحي ذاك، وعليها تكسّر الخطاب الأصلي بسرعة قياسية، بمنأى حتى عن صخرة ماساشوستس التي يحرسها طهوريون غلاة يرسمون مبادىء الحلم الأمريكي على غرار تقنيات راعي البقر في جمع القطيع.
هو الحلم ذاته الذي رفع ترامب إلى مصافّ مرشح الحزب الجمهوري في انتخابات 2016، رغم النقائض والفضائح والعراقيل؛ ثمّ إلى سدّة البيت الأبيض، وموقع اتخاذ القرارات التي طوت أكثر من صفحة سطّرها رؤساء جمهوريون أعلى منه شأناً ومكانة؛ وصولاً إلى القبض على مقادير الحزب الجمهوري وتحريك كبار ممثليه في مجلس النوّاب والشيوخ كما تُساق النعاج. وإنه، بذلك، الحلم الذي يتوجّب أن يذكّر بمساوئ الديمقراطية الأمريكية، بعد استذكار محاسنها غنيّ عن القول، وفي الطليعة منها أنّ صعود ترامب وأمثاله لم يكن مصادفة أو ضربة عشوائية، وليست اعتبارات الأمن والاقتصاد والشعبوية والعنصرية والبذور الفاشية هي وحدها المسؤولة؛ إذْ ثمة سوابق كثيرة لا تضرب بجذورها إلا في التربة ذاتها التي تختصر أزمات النظام الرأسمالي المعاصر.
هذه هي أمريكا المعاصرة، ما قبل ترامب وما بعده أيضاً؛ وتكفي متابعة أعمار الجموع التي اقتحمت مبني الكابيتول كي يدرك الناظر أنّ هستيريا الأمريكي السبعيني كانت تكمل سعار الأمريكي العشريني أو الثلاثيني؛ وما بينهما نساء عجائز ونساء صبايا، سواء بسواء. والسؤال بذلك بسيط مشروع: أين ينتهي الحلم وتبدأ الديمقراطية، أم العكس؟ وبالأحرى: بعد اقتحام الكابيتول، مَن يجبّ الترامبية؟
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامي صوفي:

    الغريب هو رضوخ الجمهوريين لكل تجاوزات ترامپ خلال حكمه، مع أنه الحزب الجمهوري يُسمى «الحزب القديم الكبير». و هذا للأسف يدل أن قيادات الحزب باتوا مجموعة من السياسيين الخانعين، تترواح هذه القيادات بين مستحاثات مصابة بالعُقم السياسي، الى أخرى مضطربة عقلياً و مغسولة باليمين المسيحي.
    و لذلك فإن ما حدث البارح، هو إنذار مبكر للحزب الجمهوري بضرورة إصلاحه. و هذه الضرورة ملحة جداً لكي لا يصبح ما حدث البارحة «شأناً عادياً» يمكن تكراره. و إصلاح الحزب يكون بإعادته إلى الوسط المحافظ غير المتطرف، و ابتعاده عن اليمين المسيحي، و تسليم قيادته لعناصر شابة من التي عارضت ترامپ في الحزب، و هي موجودة رغم قلتها.

  2. يقول سوري:

    عزيزي صبحي لا أبلغ وأعمق مما تفضلت به. دونالد ترامب دادا سليل العنجهية البيضاء التي تريد استعباد البشر وبيع اراضي الآخرين في سوق نخاسة العرق والعنصرية هكذا فعل بإخواننا الفلسطينيين ولكن لفلسطين رب يحميها وشعب مكافح، وترامب دادا الى مزبلة تاريخ امريكا الملطخ بدماء الشعوب

  3. يقول القارئ:

    “والسؤال بذلك بسيط مشروع: أين ينتهي الحلم وتبدأ الديمقراطية، أم العكس؟ وبالأحرى: بعد اقتحام الكابيتول، مَن يجبّ الترامبية؟” اه
    عزيزي صبحي حديدي، كما قلتُ من قبل ، لا أختلف معك في كل ما تقوله عن ترامب هذا الديكتاتور الأرعن ولا أختلف مع كل من يقول كلاما مماثلا وأسوأ منه حتى ؛ ولكني أختلف اختلافا جذريا بالقول بأن ترامب، على ديكتاتوريته ورعونته وشعبويته وعنصريته إلخ، إنما هو أصدق وأصرح وأشجع رئيس أنتجته أمريكا منذ بدء تأسيسها كدولة لحد الآن ، رئيس لا يلف ولا يدور ولا يتكلم بوجهين متضادين (يتكلم بوجه طيب من الخارج ووجه خبيث من الداخل، كما يفعل أي رئيس أمريكي غيره) ؛ ترامب هو الرئيس الأمريكي الوحيد الذي انتهك (قداسة) تلك الهالة الوهمية التي بُنيت بالزيف حول الكابتول على مر السنين ، وهو الرئيس الأمريكي الوحيد الذي أثبت (راغبا أو غير راغب) للعالم بأسره بأن أمريكا “العظمى” هذه ليست سوى إمبراطورية من ورق – تماما على النقيض من كافة رؤساء أمريكا الآخرين الذين لا يعدون أن يكونوا منافقين متملقين ومتزلفين لـ”عظمة” هذه الإمبراطورية، وأولهم باراك أوباما !!!؟؟

  4. يقول ثائر المقدسي:

    (نظام الانتخابات الرئاسية الأمريكية… أثبت مرونة عالية في الجوانب الإجرائية التي تعود قواعدها إلى ما سنّه «الآباء المؤسسون»؛ وتسري بالتالي على الحزبين الوحيدين، الجمهوري والديمقراطي)…
    صديقي أبا صُبَيْحٍ… هناك الكثير من الأحزاب السياسية الأخرى في أمريكا بالذات، وخاصة الأحزاب اليسارية وأقصى اليسارية منها، ولكن أصواتها مكتومة كليا على المستوى الرسمي (وإن كانت هذه الأصوات “مسموعة” على المستوى اللارسمي – اسأل تشومسكي عنها، ولسوف تجده يتحدث عنها بكل الشجون حتى مطلع الفجر)… !!! فما تتحدث عنه هنا باسم “ديمقراطية” أمريكية مطعونٍ بشرفها من لدن “خنجر” الديكتاتور الأرعن ترامب (وقد وصَّفه الأخ القارئ أوفى توصيف في واقع الأمر) ليست ديمقراطية شريفة حتى يصار إلى الطعن بشرفها، في المقام الأول… !!!

    1. يقول ثائر المقدسي:

      وتأكيدا على كلام الأخ القارئ الحصيف بخصوص “تفرُّد” الديكتاتور الأرعن، لكن الأصدق والأصرح والأشجع:
      فقد صدر قبل دقائق بأن أعلن عن رفضه حضور مراسيم التدشين الرئاسي في 20 كانون الثاني الجاري… وبذلك، يكون ترامب، أول رئيس أمريكي يرفض حضور حفل تنصيب خليفته منذ أكثر من قرن ونصف القرن، عندما رفض الرئيس الأمريكي الأسبق أندرو جونسون الذي تولى رئاسة الولايات المتحدة بين 1865 و1869 حضور حفل تنصيب خليفته… فتصور يا أبا صُبَيْحٍ… !!!

اشترك في قائمتنا البريدية