أمين معلوف في «متاهة الحائرين»: دول الغرب العظمى ومعاملة شعوب العالم

سمير ناصيف
حجم الخط
1

يحتار عدد من كبار مفكري العالم حول الازدواجية في مواقف قادة الدول الغربية الكبرى، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية، بالنسبة لموضوع ضرورة نشر الديمقراطية والمساواة في العالم، بحيث يركز هؤلاء القادة في أمريكا وأوروبا على أهمية مثل هذا الانتشار في دول الغرب نفسها ويتجاوزون الديمقراطية والحرية والمساواة في تعاملهم مع دول العالم الثالث خصوصاً حيث لديهم المصالح الاقتصادية والمادية، بل على العكس قد يشجعون على حدوث الحروب والأزمات السياسية والاقتصادية في تلك الدول الساعية إلى النمو كي لا يقودها سياسيون يهددون مصالح الشركات الغربية الضخمة في سائر القطاعات والتي لها فروع في تلك البلدان النامية.

مأزق الضائعين

الكاتب اللبناني ـ الفرنسي أمين معلوف الأمين العام الدائم المنتخب مؤخراً للأكاديمية الفرنسية والذي لديه العدد الكبير من الكتب الهامة والمقالات التي تُرجمت إلى لغات عدة، تطرّق إلى هذا الموضوع ولكن من منظاره الخاص، في كتابه الأخير الصادر بالفرنسية تحت عنوان: «متاهة الحائرين» الذي يتناول مأزق الضائعين بين شعوب وقادة العالم في التعامل مع دول الغرب الكبرى «العظمى».
ويدعو معلوف في أحد المقاطع الأخيرة من هذا الكتاب إلى الخروج من هذا المأزق طالما أن الوقت ما زال يسمح بذلك ولتوافر الآليات للقيام بهذه الخطوة بدءاً بالاعتراف بان العالم يمر بحالة ضياع (ص 437 (. النظرة الجديدة في كتاب معلوف أكثر من توافرها في غيره أنه وفي الفصل الرابع من الكتاب يشدد على أن العنصرية ضد المواطنين من ذوي البشرة السوداء والسمراء ظلت متفشية في أمريكا حتى خلال فترة رئاسة الرئيس باراك أوباما، وأن تعامل الرئيس وودرو ويلسون منشئ «العصبة الدولية لحقوق الإنسان» في مطلع القرن العشرين التي تحولت لاحقاً إلى «منظمة الأمم المتحدة» اتخذ في بعض قراراته مواقف أظهرت تأثره بماضي عائلته العنصري التوجه شأنها شأن كثير من عائلات جنوب الولايات المتحدة، وبالتالي ركزت دعوته لنشر الحرية والاستقلال والمساواة في العالم على أمريكا ودول أوروبا ودول الشعوب البيضاء البشرة في العالم.
يقول معلوف بالنسبة إلى الوضع في حقبة قيادة أوباما: «ان القضية العنصرية نحو السود والسمر البشرة لم تُحل في أمريكا حتى بعد انتخاب باراك أوباما رئيساً للجمهورية في عام 2008 وبرغم أصل والده الأفريقي». وعندما نتساءل حسب قول معلوف: «لماذا يشعر السود الأمريكيون بالاحتقان الشديد عندما يتم التعدي على أحدهم من جانب السلطة ويوجهون الاتهامات بالعنصرية الممنهجة داخل السلطة ضدهم وإلى مخادعة ورياء تلك السلطة ذات الأكثرية البيضاء وعدم حيادها تجاههم.. ندرك ان أكثرية السكان في ولايات جنوب الولايات المتحدة مرت بفترات انتشرت فيها العنصرية ضد ذوي البشرة السوداء وانه وقعت حرب أهلية بين جنوب الولايات المتحدة وشمالها بسبب الاختلاف على هذا الموضوع».

العنصرية في أمريكا

ويضيف: «مع أن ممارسي هذه العنصرية ضد السود في أمريكا في الحقبة السابقة كانوا من المنتمين إلى (الحزب الديمقراطي الأمريكي) في جنوب البلد وخصومهم كانوا من (الحزب الجمهوري) بقيادة الرئيس ابراهام لينكولن، فإن التاريخ انقلب وتوجه في وجهة معاكسة بحيث تسلّم الدفة المحافظة المتصلبة عنصرياً واجتماعياً في المرحلة الحالية (الحزب الجمهوري) وخصوصاً في ظل قيادات مطلع الألفية الثانية وقبلها. أما (الحزب الديمقراطي الأمريكي) فيحظى حالياً بتأييد الأقليات الإثنية وبينهم أبناء المهاجرين السمر البشرة إلى أمريكا من دول العالم وخصوصاً السود منهم» (ص 352 و353).
وفي القسم الخامس من فصل الكتاب الرابع يتطرق معلوف إلى تعامل الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون مع القائد الثوروي الوطني المصري سعد زغلول لدى انعقاد مؤتمر باريس في نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1919.
ويقول الكاتب «كان بإمكان ثورة 1919 في مصر بقيادة سعد زغلول أن تقود البلد إلى الاستقلال والحرية والتقدم وإلى مجتمع مصري ليبرالي التوجه ولكن تعامل الرئيس وودرو ويلسون المنتمي إلى الحزب الديمقراطي الأمريكي مع زغلول أفقد القائد الثوروي المصري وحزبه حزب الوفد مصداقيتهما أمام جمهورهما ما أتاح المجال لصعود أحزاب راديكالية طائفية غير مستعدة للتعامل الديمقراطي مع الخصوم ومعاديه للغرب وخاضعة لسلطة قادة ديكتاتوريين في كثير من الأحيان» (ص 369). علما ان مستشاري الرئيس ويلسون دفعوه (حسب معلوف) إلى الأخذ بتحفظات الحكومة البريطانية حول ضرورة عدم حضور سعد زغلول مؤتمر باريس لعام 1919 برغم أن زغلول كان من المقربين من أفكار الرئيس الأمريكي ومواقفه، وبالتالي لم تتم دعوته إلى المؤتمر الباريسي، كما فوجئ زغلول والوفد المرافق له لدى وصولهم إلى مرسيليا في جنوب فرنسا في 19 نيسان (ابريل) 1919 عندما علموا بأن الولايات المتحدة أصدرت قراراً باستمرار الانتداب الإنكليزي على مصر. وبالتالي صدر بيان عن زغلول قال فيه إن مجموعته اعتبرت ويلسون أحد الأنبياء السياسيين لعصرنا وعالمنا ولكن آمالنا خابت وخصوصاً بعد رفض ويلسون مقابلة الوفد المصري لدى وصوله إلى باريس (ص 364). وتكرر مثل هذا الموقف الازدواجي (حسب معلوف) في تعامل الرئيس الأمريكي دوايت ايزنهاور مع قيادة القائد الإيراني السابق محمد مُصدّق، إذ كان ايزنهاور يرغب بفتح نوافذ سياسية واقتصادية واسعة مع إيران بقيادة مُصدّق في مطلع خمسينيات القرن الماضي حيث اقنع رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل الرئيس ايزنهاور بالعدول عن تلك السياسة وممارسة عكسها أي قلب نظام مُصدّق. وحجة تشرتشل كانت لاعتباره أن مُصدّق كان دمية سياسية في يدي نظام الاتحاد السوفييتي الشيوعي. وبالتالي، أوعز ايزنهاور إلى عملاء (وكالة الاستخبارات الأمريكية) في إيران إلى تدبير وتنظيم انقلاب ضد مصدّق عبر تركيب تظاهرات شعبية ضده، وهذا على الرغم من ان مُصدّق (برأي معلوف) شأنه شأن سعد زغلول كان بإمكانه أن يكون حليفاً للولايات المتحدة. يقول معلوف في هذا المجال:
«الولايات المتحدة قامت في أكثر من مناسبة بمهاجمة وإقصاء من اعتبرتهم خصوماً لها بينما كان بامكانها استقطابهم إلى جهتها. الدكتور محمد مصدّق كان رجل قانون محترم في إيران انتخب بطريقة ديمقراطية على رأس حكومة بلاده واختار أن يكون لإيران سيادة على المداخيل البترولية التي يتم إنتاجها على أرضها، والتي كانت قبل انتخابه تسيطر عليها بريطانيا وتترك لإيران حصة صغيرة من هذه المداخيل فقط. عندما دخل ايزنهاور إلى البيت الأبيض عام 1953 استقبل رئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرتشل الذي أبلغه ان مُصدق كان دمية بيد الشيوعيين. وبالتالي، تم تكليف وكالة الاستخبارات الأمريكية بتركيب موجة شعبية ضد قيادي إيراني منتخب شعبياً وتم إسقاطه وتمديد مدة السيطرة البريطانية على النفط الإيراني لعشرين سنة قادمة» (ص 384 و385).

المنطق الازدواجي

هذه الازدواجية الواضحة في مواقف قيادات رئاسية أمريكية من الحزبين الجمهوري والديمقراطي والتي عرضها معلوف بشكل دقيق تاريخياً يمكن اتخاذها نموذجاً مؤسفاً لبعض مواقف الولايات المتحدة وحلفائها حالياً في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق ودول عربية أخرى. فشعوب هذه الدول عموماً تعتبر من جانب بعض قادة العالم الغربي وكأنها شعوب تنتمي إلى درجة أدنى مستوى من شعوب الدول الغربية وبالتالي تُفرض عليها شرائع مختلفة وتُبرر ضدها حروبا وعقوبات في كثير من الأحيان غير شرعية بحسب الشرائع الأممية الإنسانية الدولية التي وضعها قادة ومشرعو الغرب في الماضي والحاضر.
وبالتالي، يستهل أمين معلوف كتابه بالقول ان الإنسانية تمر حالياً بأسوأ مراحلها وأن هيمنة الدول الغربية، وفي طليعتها أمريكا، على العالم من الصعب أن تستمر مع اعتماد هذا المنطق الازدواجي الذي يرهق العالم الثالث على الأخص، ويجعله أكثر ضياعاً وعرضة للمشاكل والمآسي. ويتساءل ألم يحن الوقت لاعتماد سياسات تحكم العالم بعقلانية أكبر وتحاول العثور على الحلول للقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكبرى بدلاً من تصعيد الأزمات والحروب في العالم ونشر أسلحة الدمار الشاملة؟
ويؤكد معلوف ان الإنسانية تخطئ عندما تعتقد بأن العالم يجب أن يُحكَم باحادية من قِبل دولة قوية واحدة مهيمنة ومتسلطة على باقي الدول أو من جانب كتلة تابعة لدولة واحدة ذات جبروت تفرض مواقفها على حلفائها وعلى دول العالم الثالث.
ويشير إلى أن هذا ما علمنا أياه التاريخ. والتاريخ هو أفضل أستاذ لسلامة مستقبل البشرية.
ويدعو معلوف في ختام كتابه إلى تعاون جميع دول العالم مع بعضها في سبيل مستقبل أفضل لأولادنا بدلاً من توقيد الصراعات الخطيرة والتي قد يُستخدم فيها السلاح النووي ويقضي على الإنسانية جمعاء.
ويركز المؤلف بقوة في مقطع أخير من كتابه على انه «لم يعد بالإمكان حل المشاكل الخطيرة في عالمنا الحالي في ساحات المعارك والمواجهات العسكرية بوجود الترسانة الضخمة. من أدوات القتل والإبادة في أيدي قادة وحكومات لا يهمها إلا الاحتفاظ بسلطتها ولا يعني قتل الأبرياء لها شيئاً» (ص 418).
ويسأل ألم يحن الوقت ليدرك قادة الدول الكبرى الواسعة التسلح بالأسلحة المدمرة انه لا نفع من الانتصار بعد أن يصبح العالم حقلاً من الركام؟
يذكر أن كتاب معلوف الذي تمت مراجعة مُختصره في هذا المقال يضم مادة غنية أخرى عن مواضيع متعلقة بتاريخ اليابان وروسيا في حقبة الاتحاد السوفييتي وسيطرة الشيوعية وألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية وبعد خسارتها تلك الحرب وحقوق الإنسان خلال تلك الفترات داخلياً وخارجياً في تلك الدول وتعاملها مع دول الشرق الأوسط وقادتها وأنظمتها وفترات صعودها وتقلص أو سقوط نفوذها. كما يتناول الصين في مراحلها السياسية المختلفة وخصوصا فترة قيادة ماو تزي دونغ السابقة.
ولكن تركيز هذه المراجعة على القسم الرابع (الغرب) تم بسبب ارتباطه الكبير بما يجري حاليا من سياسات خارجية مقلقة تنفذها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون في منطقة الشرق الأوسط وخصوصا في فلسطين، حيث تُمارس الازدواجية المقيتة والقاسية تجاة الشعب الفلسطيني وكان الحرية والديمقراطية والمساواة حكر لها وكأنها الآمر الناهي، حيث يجب على هذه الأمور ان تنفذ وأين يمكن التغاضي عن عدم تنفيذها أو تنفيذ ما يناقضها. وأهدى معلوف كتابه إلى ذكرى والدته التي ولدت في مصر عام 1921 وتوفيت في فرنسا عام 2021.
Amin Maaluf:
«Le Labyrinche Des Egares»
Librairie Antoine, Beirut 2023
445 Pages.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابن آكسيل:

    الحيرة الحقيقية هي حيرة ” مزدوجي الجنسية ” لانهم يعيشون بوعي او بغير وعي ازدواجية و انفصام في الشخصية لا يخلفان إلا ” الحيرة ” مهما تفننوا في قلب هاته الحقيقة ……!

اشترك في قائمتنا البريدية