أنا و«تشات جي بي تي»

قيل كثيرا عن تشات جي بي تي، وعن ذكائه الاصطناعي، ولاسيما في الترجمة وتجميع المعلومات وحتى التحرير؛ أردت أن أختبره فسألته بالعربية جملة من الأسئلة وسألته بالإنكليزية أسئلة أخرى وبالفرنسية ثالثة، عنّي أنا توفيق قريرة أستاذ اللسانيات وعن اهتماماتي البحثية، وأنا أختار لك في هذا المقال عينات من الأسئلة والأجوبة وتعليقات عليها. سألته بالعربية: ما المواضيع التي يبحث فيها توفيق قريرة؟ ذكر في مفتتح الإجابة صفتي الجامعية وجنسيّتي وتخصصي في اللغة العربية وعلم اللسانيات وتحليل الخطاب. ثمّ فصّل المباحث التي تتعلق بكل تخصص من التخصصات وذكر أشياء صحيحة وأخرى فيها مبالغة وثالثة خاطئة. فعلى سبيل المثال ورد في بعض أجوبته أنّي درست بنية اللغة العربية وحلّلتها وهذا أمر مبالغ فيه، لأنّه لا توجد بنية عامة للغة العربية يمكن دراستها ولا تحليلها، بل المعروف أنّ لكلّ لسان أبنيته التي تدرس في المستويات اللغوية المختلفة فللصرف أبنية وللاشتقاق أخرى وللإعراب ثالثة وهكذا دواليك. وذكر أني درست اللسانيّات الاجتماعية وهذا صحيح، وقد يكون اعتمد على بعض المقالات المتصلة باللحن، لكنّه جمع بين اللسانيّات الاجتماعية والسياقية جمعا يقصد به الحديث عن السياق الثقافي في تناول ظاهرة لغوية. ومن معلوماته في سياق الإجابة، أني اعتنيت في اللسانيات التطبيقية، بالتعليمية لعلم اللغة وهذا التصنيف صحيح للتعليمية التي اشتغلت بها في بعض البحوث لأنّه نزّلها المنزلة الصحيحة. ذلك أنّ التعليمية هي فعلا فرع في اللسانيّات التطبيقية، لكنّ ما يمكن أن أوجّهه فيه أنّه أخطأ حين اعتبر مباحثي ليست تطبيقات تعليمية لعلم اللغة، بل هي في هذا الإطار توظيف لبعض المفاهيم اللسانية في فكرة من أفكار التعليمية وهي الانغماس اللغوي والثقافي. تشكو المعلومات التي قدمت من ترادف في ترجمة بعض الاصطلاحات فهو يترجم Linguistics مرة باللسانيات وهي الترجمة المعتمدة، وتارة أخرى يترجمها بعلم اللغة. وهي ترجمة ما زال البعض يستعملها، جهلا بالمصطلح الأصلي أو رفضا له.

وفي مبحث تحليل الخطاب اعتبر اشتغالي بالنصّ الأدبي في مناسبات كثيرة، ممّا يدخل في اختصاص تحليل الخطاب، والحقّ أنّ ما اشتغلت عليه لم يعتمد مقاربات تحليل الخطاب، ولا يمكن أن تعدّ الأشغال على النصّ الأدبي من بابه. لكنّ تصنيفه الدراسات التي قدمتها عن الخطاب الصحافي من وجهة نظر عرفانية، على أنّها ضرب من تطبيق تحليل الخطاب الإعلامي، يخفي إشكالا في اختيار العبارات الدقيقة لتوصيف هذا العمل وما شابهه، فبدلا من أن يذكر الخطاب الصحافي استعمل الخطاب الإعلامي للتجاور بين الخطابين. وفي ركن آخر من الإجابة جمَع بين علم الدلالة والتداولية وهذا الجمع بين اختصاصين لا يجوز؛ لأنّ علم الدلالة يدرس المعاني النظامية في المستويات اللغوية المختلفة، فضلا عن دراسته معاني الوحدات المعجمية والعلاقات الرابطة بينها؛ بينما تدرس التداولية المعاني أثناء الاستعمال، فالإشكال في الجمع بين المعطيين جمعا لا يراعي خصوصيتها. وحين فصلت المباحث كان الكلام أقرب إلى التداولية، بما أنّه ذُكر أنّي حلّلت المعاني والسياقات التي تنتجها اللغة، ومعلوم أنّ اللغة لا تنتج السياقات، بل ينظر إلى عنصر من عناصرها في علاقته ببقية العناصر التي تصاحبه في قول معين. فالسياق اللغوي هو شيء دقيق جدا لا يدرس إلا بالنظر في العلاقات الدلالية التي تربط بين الكلمات في محيط تركيبي معين؛ فالسياق الذي تستعمل فيه (أكلت) في (أكلت خبزا) و(أكلت أصابعي ندما) و(أكلت مال جاري) هي سياقات مختلفة باختلاف ما يقتضيه الفعل نفسه من دلالات يورثها للفاعل والمفعول وتكون مختلفة.

وفي جوابه عن اهتمامي بالترجمة ذكر أني بحثت في نظريات الترجمة وتحدياتها، وفي ترجمة النصوص بين الثقافات واللغات المختلفة غير أني كنت في الترجمة ممارسا لا منظرا، إلاّ في المناسبات القليلة العابرة التي كنت أتحدث فيها بوصفي مديرا عاما لمعهد تونس للترجمة، وأعجب هنا كيف يمكن أن تلتقط المعلومات العابرة في الوسائط الاجتماعية، وفي المحامل الرقمية المهمشة وتعالج على أنها وثائق مهمّة. ونسب إلي «تشات جي بي تي» في محور قضايا اللغة والهوية، أنّي درست دور اللغة في تشكيل الهوية الثقافية والوطنية، وربما جاء بالمعلومات من إشارات عابرة في مقالات، أو في فصول كتبتها، ولم تكن هي الفكرة المركزية ولا كانت نقطة الاهتمام الأساسية. وأنا لم أتحدث أيّ حديث مطول أو مختصر عن تأثير اللغة في الديناميكيات الاجتماعية والسياسية. غير أنّ ما نسبه إليّ في فقرة التعليم واللغة كان صحيحا إذ ذكر أني تحدّثت عن تطوير مناهج العربية، وعن تحديات تعليم العربية لغة أمّاً أو لغة أجنبية. بيد أنّه لم يفصّل القول إن كنت أعتبر الفصحى لغة أمّاً، أم لا، لذلك سألته في هذا التفصيل: هل يعتبر فلان العربية الفصحى لغة أمّاً؟ فأجاب يرى قريرة أن اللغة الأم هي اللغة التي يكتسبها الإنسان في بيئته الأولى، ويتفاعل بها مع العالم من حوله، وهي جزء من هويته الثقافية والاجتماعية. في المجتمعات العربية، تُعتبر اللغة العربية الفصحى والعاميات المحلية نسخاً من اللغة الأم، حيث إن العامية هي الشكل المكتسب في الحياة اليومية، بينما الفصحى تُعزز من خلال التعليم والثقافة. ويضيف: مع ذلك، قد يطرح قريرة تساؤلات أو ملاحظات حول تحديات تعليم العربية وقضايا ازدواجية اللغة (الفصحى والعامية) في العالم العربي. ومعلوم أنّ هذه الإجابة فيها كثير من الالتباس والأسناد الفكرية الخاطئة، وهي طريقة في الإجابة الكليانية تعتمد الحس العلمي المشترك في مسائل دققت فيها أنا النظر من وجهة نظر مخالفة.

حين طرحت عليه السؤال بالإنكليزية ذكر أنّه لا يعرف شيئا عن الموضوع. وحين طرحت عليه السؤال بالفرنسية ذكر أنّي كنت عضوا في مؤتمر دولي نظمته جامعة تونسية منذ أكثر من سنة موضوعه إعادة الصياغة وذكر أنّ المؤتمر استكشف المفهوم المعقد لإعادة الصياغة، والتمس المساعدة من العديد من التخصصات العلمية، وأتاح الفرصة لدراسة الطرق التي يتم بها تنظيم ما يقال والتي ينشأ منها المعنى. وشملت المجالات التي تم تناولها المصطلحات في الميادين المتعددة ذات التخصصات المختلفة، وعلم الدلالة والبراغماتية، والبحوث الأدبية والفلسفية، فضلا عن البحوث الحضارية. وأضاف: بصفته عضوا في اللجنة العلمية، لعب توفيق قريرة دورا رئيسيا في تأسيس ونجاح هذا الحدث الأكاديمي. ولست أدري من أين له بهذه المعلومة واعتقد أنّه استنبط المعطيات مما يسميه الفلاسفة الحسّ المشترك، ومن النوايا الحسنة التي تقف وراء الدور الذي يضطلع به عضو في لجنة علمية.

ما من شكّ في أنّ إعادة الصياغة مصطلح يخص الذكاء الاصطناعي فيكفي أن تقدم له نصّا بلغة معينة، حتى يعيد صياغته بطريقة يعتقد أنّها الأفضل وما فعله «تشات جي بي تي» هو أنّه وهو يقدم المعطيات السابقة، أعاد صياغة المعلومات التي لديه بشكل يراه الأفضل في تقديم صورة واضحة عن الموضوع الذي سئل فيه ولا يهمه أحيانا إن كانت تلك المعطيات مطابقة للواقع أم لا. إنّ إعادة الصياغة هي بحث عن الجودة انطلاقا من صورة أصلية لكنّها جودة تقديرية وليست فعلية. فعلى سبيل المثال، فإنّ ما قدم من معلومات عني بالعربية هو ضرب من التدوير والتحسين والتلخيص، لعديد من المواد المكتوبة عني بالعربية، وبما أنّ المواد الإنكليزية المكتوبة عني أو بقلمي معدومة، فإنه لم يجد نسخة أصلية يعيد صياغتها ووجدها في اللغة الفرنسية التي تحدثت عرضا فيها عن مؤتمر إعادة الصياغة.
ربما كنت أنا في ذهن بعض البشر مثلما أنا في ذهن هذا البرنامج، الذي يقدم ما تريد من معلومات، وما لا تريد في أقلّ وقت ويترجمه لك ترجمة يريدك أن ترتضيها. أمّا نحن من كانوا موضوعا لهذه التقارير الرقمية السريعة، فنبدو في بعض الأحيان غرباء عمّا كتب عنّا أو ما قيل عنّا: ينسب إلينا المحبّ شيئا عظيما وينسب إلينا من يكرهنا شيئا هجينا.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول زياد:

    أنا سألته عن كيفية تطوير مدونة الأسرة المغربية، فأعطاني بعض الأفكار التي لا أجدها في النقاش العمومي المغربي حاليا كمسألة الثقافة الجنسية في المدونة، وأغناني بأفكار غير التي أعرف مسبقا. لذلك، فمدونة الأسرة مدعوة لأن تصبح أكثر وعيًا بأهمية الثقافة الجنسية كجزء من الحقوق الأسرية، من خلال تضمين قوانين تعليمية وممارسات تعزز الفهم العميق والصحي للعلاقات الجنسية. بتشجيع التعليم الجنسي، وتعزيز حقوق الأفراد داخل الزواج، ومحاربة العنف الجنسي، يمكن أن تساهم المدونة في بناء مجتمع أكثر وعيًا وصحة في علاقاته الجنسية. كم أنه يمكن للمدونة أن تلعب دورًا هامًا في تدبير المشاكل الجنسية بين الزوجين أو عند أحدهما من خلال تعزيز الإطار القانوني والتنظيمي للعلاقات الزوجية، مع توفير مساحة لمعالجة القضايا الجنسية كجزء من الحياة الزوجية المتكاملة.
    فالثقافة الجنسية تعتبر موضوعًا حساسًا في العديد من المجتمعات وخاصة العربية والاسلامية منها، و الواقع الحالي المتسم بكثرة الخلافات الزوجية المؤدية للطلاق، يفرض ضرورة فتح نقاش عمومي حول هذا الموضوع، خاصة في ظل غياب التوجيه السليم والمناسب الذي يمكن أن يثري المعرفة الجنسية لدى الأفراد..

اشترك في قائمتنا البريدية